Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 1-11)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { الۤـمۤ } قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة وعلى محلها من الإعراب في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة من فواتح السور ، وارتفاع { تَنزِيلَ } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر على تقدير أنّ { الۤمۤ } في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو خبر لقوله { الۤمۤ } على تقدير أنه اسم للسورة ، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون ارتفاع { تنزيل } على أنه مبتدأ وخبره لا ريب فيه ، و { من ربّ العالمين } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون هذه كلها أخباراً للمبتدأ المقدر قبل { تنزيل } ، أو لقوله { الۤمۤ } على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه حروف مسرودة على نمط التعديد . قال مكي وأحسن الوجوه أن تكون { لا ريب فيه } في موضع الحال ، و { مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الخبر ، والمعنى على هذه الوجوه أن تنزيل الكتاب المتلوّ لا ريب فيه ولا شك وأنه منزل من ربّ العالمين ، وأنه ليس بكذب ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأوّلين . و « أم » في { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } هي المنقطعة التي بمعنى بل ، والهمزة ، أي بل أيقولون هو مفترى ؟ فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ ، ومعنى { افتراه } افتعله واختلقه ، ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب ، فقال { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء ، ثم بيّن العلة التي كان التنزيل لأجلها ، فقال { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَـٰهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } وهم العرب وكانوا أمة أمية لم يأتهم رسول . وقيل قريش خاصة ، والمفعول الثاني { لتنذر } محذوف ، أي لتنذر قوماً العقاب ، وجملة { ما أتاهم من نذير } في محل نصب على الحال ، و { من قبلك } صفة لنذير . وجوّز أبو حيان أن تكون ما موصولة ، والتقدير لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك ، وهو ضعيف جدّاً ، فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله ، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذروا بما أنذرهم به . وقيل المراد بالقوم أهل الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } رجاء أن يهتدوا ، أو كي يهتدوا . { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف ، والمراد من ذكرها هنا تعريفهم كمال قدرته وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ويتأملوه ، ومعنى خلق أوجد وأبدع . قال الحسن الأيام هنا هي من أيام الدنيا . وقيل مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا ، قاله الضحاك . فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا ، وليست ثم للترتيب في قوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } ، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى { مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه من ولى يواليكم ويردّ عنكم عذابه ، ولا شفيع يشفع لكم عنده { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } تذكر تدبر وتفكر وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل حتى تنتفعوا بها . { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلأَرْضِ } لما بيّن سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما ، بيّن تدبيره لأمرهما ، أي يحكم الأمر بقضائه وقدره من السماء إلى الأرض ، والمعنى ينزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة ، كما قال سبحانه { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } الطلاق 12 ومسافة ما بين سماء الدنيا والأرض التي تحتها نزولاً وطلوعاً ألف سنة من أيام الدنيا . وقيل المراد بالأمور المأمور به من الأعمال ، أي ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض . وقيل يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض . وقيل ينزل الوحي مع جبريل . وقيل العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ } الرعد 2 وما دون السماوات موضع التصرّف . قال الله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } الفرقان 50 . ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } أي ثم يرجع ذلك الأمر ، ويعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء والطلوع من الأرض كما قدّمنا . وقيل إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا ويموت من فيها . وقيل هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة ، والمعنى أنه يثبت ذلك عنده ، ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كلّ وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها . وقيل معنى يعرج إليه يثبت في علمه موجوداً بالفعل في برهة من الزمان هي مقدار ألف سنة ، والمراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان . وقيل يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فتنزل بها الملائكة ، ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا . وقيل يقضي قضاء ألف سنة ، فتنزل به الملائكة ، ثم تعرج بعد الألف لألف آخر . وقيل المراد أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه وينزل بها ملائكته ثم لا يعرج إليه منها إلا الخالص بعد مدّة متطاولة لقلة المخلصين من عباده . وقيل الضمير في { يعرج } يعود إلى الملك ، وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق ، وقد جاء صريحاً في قوله { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَة وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } المعارج 4 والضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها ، أو إلى مكان الملك الذي يرجع إليه وهو الذي أقرّه الله فيه . وقيل المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة ، وقيل المعنى أن الملك يعرج إلى الله في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام ، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام ، وقد رجّح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير . وقيل مسافة النزول ألف سنة ومسافة الطلوع ألف سنة روي ذلك عن الضحاك . وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة ، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدّة النهار بين ليلتين ، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر @ يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأديب @@ فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين . وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين ، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم ، قرأ الجمهور { يعرج } على البناء للفاعل . وقرأ ابن أبي عبلة على البناء للمفعول ، والأصل يعرج به ثم حذف حرف الجار فاستتر الضمير . وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } المعارج 4 فقيل في الجواب إن يوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا ، ولكنه باعتبار صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة ، والعرب تصف كثيراً يوم المكروه بالطول ، كما تصف يوم السرور بالقصر ، كما قال الشاعر @ ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاف المزاهر @@ وقول الآخر @ ويوم كإبهام القطاة قطعته @@ وقيل إن يوم القيامة فيه أيام فمنها ما مقداره ألف سنة ، ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة . وقيل هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة ، ثم ينقل إلى نوع آخر ، فيعذب به خمسين ألف سنة . وقيل مواقف القيامة خمسون موقفاً كل موقف ألف سنة ، فيكون معنى { يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من تلك المواقف . وحكى الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَة وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } المعارج 4 المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، والمراد أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا ، وأراد بقوله { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } المسافة التي بين الأرض وبين سماء الدنيا هبوطاً وصعوداً فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا . وقيل إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة ، فقوله { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة . فكم يكون الشهر منه ؟ وكم تكون السنة منه ؟ وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة . وقيل غير ذلك . وقد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين كما سيأتي في آخر البحث إن شاء الله . قرأ الجمهور { مّمَّا تَعُدُّونَ } بالفوقية على الخطاب ، وقرأ الحسن والسلمي وابن وثاب والأعمش بالتحتية على الغيبة . والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف ، وهو مبتدأ وخبره { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم . وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم بما يغيب وما يحضر ، فهو مجاز لكل عامل بعمله ، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته { ٱلْعَزِيزُ } القاهر الغالب { ٱلرَّحِيمِ } بعباده ، وهذه أخبار لذلك المبتدأ ، وكذلك قوله { ٱلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ } هو خبر آخر . قرأ الجمهور { خلقه } بفتح اللام . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإسكانها ، فعلى القراءة الأولى هو فعل ماض نعتاً لشيء ، فهو في محل جرّ . وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم ، ويجوز أن تكون صفة للمضاف ، فيكون في محل نصب . وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه الأوّل أن يكون بدلاً من كل شيء بدل اشتمال ، والضمير عائد إلى كل شيء ، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة . الثاني أنه بدل كل من كل ، والضمير راجع إلى الله سبحانه ، ومعنى { أحسن } حسن ، لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة ، فكل المخلوقات حسنة . الثالث أن يكون { كل شيء } هو المفعول الأوّل ، و { خلقه } هو المفعول الثاني على تضمين أحسن معنى أعطى ، والمعنى أعطى كل شيء خلقه الذي خصّه به . وقيل على تضمينه معنى ألهم . قال الفراء ألهم خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه . الرابع أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، أي خلقه خلقاً كقوله { صُنْعَ ٱللَّهِ } النمل 88 وهذا قول سيبويه . والضمير يعود إلى الله سبحانه . والخامس أنه منصوب بنزع الخافض ، والمعنى أحسن كل شيء في خلقه ، ومعنى الآية أنه أتقن ، وأحكم خلق مخلوقاته ، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها ، فهي متقنة محكمة ، فتكون هذه الآية معناها معنى { أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } طه50 أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة ، وخلق لا البهيمة على خلق الإنسان . وقيل هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى ، أي أحسن . خلق كل شيء حسن . { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَـٰنِ مِن طِينٍ } يعني آدم خلقه من طين ، فصار على صورة بديعة وشكل حسن { جَعَلَ نَسْلَهُ } أي ذريته { مِن سُلَـٰلَةٍ } سميت الذرية سلالة لأنها تسلّ من الأصل ، وتنفصل عنه ، وقد تقدم تفسيرها في سورة " المؤمنون " ومعنى { مّن مَّاء مَّهِينٍ } من ماء ممتهن لا خطر له عند الناس وهو المنيّ . وقال الزجاج من ماء ضعيف . { ثُمَّ سَوَّاهُ } أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين ، وهو آدم ، أو جميع النوع . والمراد أنه عدل خلقه وسوّى شكله وناسب بين أعضائه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } الإضافة للتشريف والتكريم ، وهذه الإضافة تقوّي أن الكلام في آدم لا في ذريته ، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع . ثم خاطب جميع النوع فقال { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ } أي خلق لكم هذه الأشياء تكميلاً لنعمته عليكم وتتميماً لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم ، فتسمعون كل مسموع وتبصرون كل مبصر ، وتتعقلون كل متعقل ، وتفهمون كل ما يفهم . وأفرد السمع لكونه مصدراً يشمل القليل والكثير ، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم ولهذا جمعا لأن السمع قوّة واحدة ولها محل واحد ، وهو الأذن ولا اختيار لها فيه ، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على ردّه . ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض بخلاف الأبصار ، فمحلها العين وله فيه اختيار ، فإنها تتحرّك إلى جانب المرئي دون غيره ، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه ، فيتعقل هذا دون هذا ، ويفهم هذا دون هذا . قرأ الجمهور { وبدأ } بالهمز ، والزهري بألف خالصة بدون همز ، وانتصاب { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } على أنه صفة مصدر محذوف ، أي شكراً قليلاً ، أو صفة زمان محذوف ، أي زماناً قليلاً . وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله . وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال . { وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } قد تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة وفي الهمزة التي بعدها . والضلال الغيبوبة ، يقال ضلّ الميت في التراب إذا غاب وبطل ، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره قد ضلّ ، ومنه قول الأخطل @ كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتيّ بها فضلّ ضلالا @@ قال قطرب معنى ضللنا في الأرض غبنا في الأرض . قرأ الجمهور { ضللنا } بفتح ضاد معجمة ولام مفتوحة بمعنى ذهبنا وضعنا وصرنا تراباً وغبنا عن الأعين ، وقرأ يحيـى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء " ضللنا " بكسر اللام ، وهي لغة العالية من نجد . قال الجوهري وأهل العالية يقولون ضللت بالكسر . قال وأضله ، أي أضاعه ، وأهلكه ، يقال ضلّ الميت إذا دفن . وقرأ عليّ بن أبي طالب والحسن والأعمش وأبان بن سعيد " صللنا " بصاد مهملة ولام مفتوحة ، أي أنتنا . قال النحاس ولا يعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال صلّ اللحم إذا أنتن . قال الجوهري صلّ اللحم يصلّ بالكسر صلولاً إذا أنتن ، مطبوخاً كان أو نيئاً ، ومنه قول الحطيئة @ ذاك فتى يبذل ذا قدرة لا يفسد اللحم لديه الصلول @@ { أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي نبعث ، ونصير أحياء ، والاستفهام للاستنكار ، وهذا قول منكري البعث من الكفار ، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه ، وهو كفرهم بلقاء الله ، فقال { بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كَـٰفِرُونَ } أي جاحدون له مكابرة وعناداً ، فإن اعترافهم بأنه المبتدىء للخلق يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة . ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم الحق ويردّ عليهم ما زعموه من الباطل ، فقال { قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكّلَ بِكُمْ } يقال توفاه الله واستوفى روحه إذا قبضه إليه ، وملك الموت هو عزرائيل ، ومعنى { وكل بكم } وكل بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره ، فيجازيكم بأعمالكم ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر . وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } الآية قال هذا في الدنيا ، تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض . وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال دخلت على عبد الله بن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان ، فقال له ابن فيروز يا أبا عباس ، قوله { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } فكأن ابن عباس اتهمه فقال ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ قال إنما سألتك لتخبرني ، فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم ، فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب ، فسأله عنهما إنسان فلم يخبره ، ولم يدر فقلت ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس ؟ قال بلى ، فأخبرته فقال للسائل هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيها ، وهو أعلم مني . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } قال لا ينتصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم حتى يقضي بين العباد ، فينزل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ } من أيامكم هذه ، ومسيرة ما بين السماء والأرض خمسمائة عام . وأخرج ابن أبي شيبة ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ { ٱلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ } قال أما رأيت القردة ليست بحسنة ، ولكنه أحكم خلقها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية أنه قال أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها ، وقال { خَلَقَهُ } صورته . وقال { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء } القبيح والحسن والعقارب والحيات وكلّ شيء مما خلق ، وغيره لا يحسن شيئاً من ذلك . وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد أسبل ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بناحية ثوبه ، فقال يا رسول الله ، إني أحمش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عمرو بن زرارة إن الله عز وجل قد أحسن كلّ شيء خلقه ، يا عمرو بن زرارة إن الله لا يحب المسبلين " وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره ، فقال " ارفع إزارك " ، فقال يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي ، فقال " ارفع إزارك كلّ خلق الله حسن " .