Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 69-73)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ } هو قولهم إن به أدرة أو برصاً أو عيباً ، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث ، وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله . قال مقاتل وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى . وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية ، فحكى النقاش أن أذيتهم محمداً قولهم زيد بن محمد . وقال أبو وائل إنه صلى الله عليه وسلم قسم قسماً ، فقال رجل من الأنصار إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، وقيل نزلت في قصة زيد بن حارثة ، وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس ، ومعنى { وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } وكان عند الله عظيماً ذا وجاهة ، الوجيه عند الله العظيم القدر الرفيع المنزلة ، وقيل في تفسير الوجاهة إنه كلمه تكليماً . قرأ الجمهور { وكان عند الله } بالنون على الظرفية المجازية ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة " عبد الله " بالباء الموحدة من العبودية ، و " ما " في قوله { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ } هي الموصولة أو المصدرية ، أي من الذي قالوه ، أو من قولهم . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي في كل أمر من الأمور { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } أي قولاً صواباً وحقاً . قال قتادة ومقاتل يعني قولوا قولاً سديداً في شأن زيد وزينب ، ولا تنسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحلّ . وقال عكرمة إن القول السديد لا إلٰه إلاّ الله . وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه . وقيل هو ما أريد به وجه الله دون غيره . وقيل هو الإصلاح بين الناس . والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض ، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولاً سديداً في جميع ما يأتونه ويذرونه فلا يخص ذلك نوعاً دون نوع ، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولاً يخالف قول أهل الأذى . ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ } أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يجعلها مكفرة مغفورة { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً ، ونال خير الدنيا والآخرة ، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما سبقها . ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها ، فقال { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } . واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا ، فقال الواحدي معنى الأمانة هاهنا في قول جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب . قال القرطبي والأمانة تعمّ جميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . وقد اختلف في تفاصيل بعضها ، فقال ابن مسعود هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها ، وروي عنه أنها في كل الفرائض وأشدها أمانة المال . وقال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة ، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وقال ابن عمر أوّل ما خلق الله من الإنسان فرجه ، وقال هذه أمانة استودعكها ، فلا تلبسها إلاّ بحق ، فإن حفظتها حفظتك . فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال السدّي هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل ، وخيانته إياه في قتله . وما أبعد هذا القول ، وليت شعري ما هو الذي سوّغ للسدّي تفسير هذه الآية بهذا ، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل ، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد ، وأوهن من بيوت العنكبوت ، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية ، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ، ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أوّل هذا العالم ، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأي ، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به ، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه ، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير ، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية ، فهو قرآن عربيّ كما وصفه الله ، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تلتفت إلى غيره ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم من جملة العرب ، ومن أهل اللغة ، وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية ، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها ، فخذ هذه كلية تنتفع بها ، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا . قال الحسن إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت وما فيها ؟ فقال لها إن أحسنت آجرتك ، وإن أسأت عذبتك ، فقالت لا . قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه ، وقيل له ذلك فقال قد تحملتها . وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد . قال النحاس وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السمٰوات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلاّ الإنسان فإنه كتمها وجحدها . كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف ، فيكون على هذا معنى { عرضنا } أظهرنا . قال جماعة من العلماء ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بدّ من تقدير الحياة فيها ، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام . وقال القفال وغيره العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب ، أي أن التكليف أمر عظيم ، حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل ، وهذا كقوله { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ } الحشر 21 وقيل إن { عرضنا } بمعنى عارضنا ، أي عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها . وقيل إن عرض الأمانة على السمٰوات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام ، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها ، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير . ومعنى { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ } أي التزم بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه ، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير ، أو جهول بربه كما قال الحسن . وقال الزجاج معنى { حملها } خان فيها ، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة ، وقيل معنى { حملها } كلفها وألزمها ، أو صار مستعدًّا لها بالفطرة ، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره ، وأخذ الميثاق عليهم . واللام في { لّيُعَذّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ } متعلق بـ { حملها } أي حملها الإنسان ليعذّب الله العاصي ويثيب المطيع ، وعلى هذا فجملة { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمّله . قال مقاتل ابن سليمان ، ومقاتل بن حيان ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقرّوا به حين أخرجوا من ظهر آدم . وقال الحسن وقتادة هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها ، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدّوها . وقال ابن قتيبة أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك ، فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه ، أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات ، ولذلك ذكر بلفظ التوبة ، فدلّ على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم . وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل ، والراجح ما قدّمنا عن الجمهور ، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة . وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما تستر هذا الستر إلاّ من عيب بجلده ، إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله عزّ وجلّ أراد أن يبرىء موسى مما قالوا ، فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر ، فجعل يقول ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً " وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ } قال قال له قومه إنه آدر ، فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } . وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة أن الله أوحى إلى موسى إني متوفّ هارون ، فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب ، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال يا موسى ، إني أحبّ أن أنام على هذا السرير ، قال نم عليه ، قال نم معي ، فلما ناما أخذ هارون الموت ، فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له ، وكان هارون أألف بهم وألين ، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم ، فلما بلغه ذلك قال ويحكم ! إنه كان أخي أفتروني أقتله ؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله ، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً ، فقال رجل إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاحمرّ وجهه ثم قال " رحمة الله على موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر " . وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ، ثم قال " على مكانكم اثبتوا " ، ثم أتى الرجال ، فقال " إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً " ، ثم أتى النساء ، فقال " إن الله أمرني أن آمركنّ أن تتقين الله وأن تقلن قولاً سديد " وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس في قوله { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ } الآية قال الأمانة الفرائض عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدّوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } يعني غرًّا بأمر الله . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والحاكم وصححه عنه في الآية قال عرضت على آدم . فقيل خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك ، قال قبلتها بما فيها ، فما كان إلاّ ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً من طريق أخرى نحوه .