Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 63, Ayat: 1-8)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } أي إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك ، وجواب الشرط { قالوا } ، وقيل محذوف ، و { قالوا } حال ، والتقدير جاءوك قائلين كيت وكيت ، فلا تقبل منهم ، وقيل الجواب { ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } وهو بعيد { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } أكدوا شهادتهم بإنّ واللام ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم ، والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، ومعنى { نشهد } نحلف ، فهو يجري مجرى القسم ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم ، ومن هذا قول قيس بن ذَريح @ وأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها ليا @@ ومثل نشهد نعلم ، فإنه يجري مجرى القسم ، كما في قول الشاعر @ ولقد علمت لتأتينّ منيتي إن المنايا لا تطيش سهامها @@ وجملة { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، وهو ما أظهروه من الشهادة ، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ } أي في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لا إلى منطوق كلامهم ، وهو الشهادة بالرسالة ، فإنه حقّ ، والمعنى والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب ، وموافقة باطن لظاهر . { ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } أي جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم ، وإن محمداً لرسول الله وقاية تقيهم منكم ، وسترة يستترون بها من القتل والأسر ، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، وقد تقدّم قول من قال إنها جواب الشرط . قرأ الجمهور { أيمانهم } بفتح الهمزة ، وقرأ الحسن بكسرها ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة ، { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي منعوا الناس عن الإيمان والجهاد ، وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة . هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف ، ويجوز أن يكون من الصدود ، أي أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من النفاق والصدّ ، وفي ساء معنى التعجب ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره من الكذب ، والصدّ ، وقبح الأعمال ، وهو مبتدأ ، وخبره { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقاً { ثُمَّ كَفَرُواْ } في الباطن ، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين ، وأظهروا الكفر للكافرين ، وهذا صريح في كفر المنافقين ، وقيل نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا ، والأوّل أولى ، كما يفيده السياق . { فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم عليها بسبب كفرهم . قرأ الجمهور { فطبع } على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده ، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل ، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، ويدل على هذا قراءة الأعمش فطبع الله على قلوبهم . { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما فيه من صلاحهم ورشادهم ، وهو الإيمان . { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ } أي هيئاتهم ومناظرهم ، يعني أن لهم أجساماً تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم ، وذلاقة ألسنتهم ، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً ، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته . قال الكلبي المراد عبد الله بن أبيّ ، وجدّ بن قيس ، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل لكلّ من يصلح له ، ويدلّ عليه قراءة من قرأ يسمع على البناء للمفعول ، وجملة { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم ، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع ، والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، قال الزجاج وصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . قرأ الجمهور { خشب } بضمتين ، وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وقنبل بإسكان الشين ، وبها قرأ البراء بن عازب ، واختارها أبو عبيد لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم . وقرأ سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب بفتحتين ، ومعنى { مُّسَنَّدَةٌ } أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم أسندت كذا إلى كذا ، والتشديد للتكثير . ثم عابهم الله سبحانه بالجبن ، فقال { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم ، نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم ، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان أحدهما أنه عليهم ، ويكون قوله { هُمُ ٱلْعَدُوُّ } جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون ، والوجه الثاني أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله { هُمُ ٱلْعَدُوُّ } ، ويكون قوله { عَلَيْهِمْ } متعلقاً بـ { صيحة } ، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر ، وكان حقه أن يقال هو العدوّ ، والوجه الأوّل أولى . قال مقاتل ، والسديّ أي إذا نادى منادٍ في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ، ومن هذا قول الشاعر @ ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم خيلا تكرّ عليهم ورجالا @@ وقيل كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم . ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال { فَٱحْذَرْهُمْ } أن يتمكنوا من فرصة منك ، أو يطلعوا على شيء من أسرارك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار . ثم دعا عليهم بقوله { قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي لعنهم الله ، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب ، كقولهم قاتله الله من شاعر ، أو ما أشعره ، وليس بمراد هنا ، بل المراد ذمهم وتوبيخهم ، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته - عزّ وجلّ - أن يلعنهم ويخزيهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك ومعنى { أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق ، ويميلون عنه إلى الكفر . قال قتادة معناه يعدلون عن الحق . وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } أي إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن ، فتوبوا إلى الله ورسوله ، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله { لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ } أي حركوها استهزاء بذلك . قال مقاتل عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار . قرأ الجمهور { لوّوا } بالتشديد . وقرأ نافع بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي يعرضون عن قول من قال لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجملة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى ، وهي يصدّون لأن الرؤية بصرية ، فـ { يصدّون } في محل نصب على الحال ، والمعنى ورأيتهم صادّين مستكبرين { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق ، واستمرارهم على الكفر . قرأ الجمهور { أستغفرت } بهمزة مفتوحة من غير مدّ ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة " أم " عليها . وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } أي ما داموا على النفاق { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي الكاملين في الخروج عن الطاعة ، والانهماك في معاصي الله ، ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أوّلياً . ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } أي حتى يتفرّقوا عنه ، يعنون بذلك فقراء المهاجرين ، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم ، أو لعدم مغفرة الله لهم . قرأ الجمهور { ينفضوا } من الانفضاض ، وهو التفرّق ، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم ، يقال نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ . ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } أي إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ، ويمنع من شاء ما شاء { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } ذلك ، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزّ وجلّ ، وأنه الباسط القابض المعطي المانع . ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأعَزُّ مِنْهَا ٱلأذَلَّ } القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وعنى بالأعزّ نفسه ومن معه ، وبالأذلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ، ومراده بالرجوع رجوعهم من تلك الغزوة ، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم ، وهو عبد الله بن أبيّ ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم ، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون . ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم . اللَّهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين ، فاجعل العزّة للعادلين من عبادك ، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } بما فيه النفع فيفعلونه ، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه ، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم ، والطبع على قلوبهم . وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن زيد بن أرقم قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس شدّة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } من حوله ، وقال { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأعَزُّ مِنْهَا ٱلأذَلَّ } فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بذلك ، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ ، فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل ، فقالوا كذب زيد رسول الله ، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في { إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ } ، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم ، فلوّوا رءوسهم ، وهو قوله { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } قال كانوا رجالاً أجمل شيء . وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال إنما سماهم الله منافقين ، لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان . وأخرج ابن المنذر عنه { ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } قال حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } قال نخل قيام . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً . قال نزلت هذه الآية { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } في عسيف لعمر بن الخطاب . وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم ، وابن مسعود أنهما قرآ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة . قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال المهاجريّ يا للمهاجرين ، وقال الأنصاريّ يا للأنصار ، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال " ما بال دعوة الجاهلية " ؟ قالوا رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم " دعوها ، فإنها منتنة " ، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ ، فقال أو قد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منه الأذلّ ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقام عمر فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم " دعه ، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " ، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ، ورسول الله العزيز ، ففعل .