Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 75, Ayat: 1-25)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } قال أبو عبيدة ، وجماعة المفسرين إن « لا » زائدة ، والتقدير أقسم . قال السمرقندي أجمع المفسرون أن معنى { لا أقسم } أقسم ، واختلفوا في تفسير " لا " ، فقال بعضهم هي زائدة ، وزيادتها جارية في كلام العرب ، كما في قوله { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } الأعراف 12 يعني أن تسجد ، و { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } الحديد 29 ومن هذا قول الشاعر @ تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع @@ وقال بعضهم هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال ليس الأمر كما ذكرتم ، أقسم بيوم القيامة ، وهذا قول الفرّاء ، وكثير من النحويين ، كقول القائل لا والله ، فلا ردّ لكلام قد تقدّمها ، ومنه قول الشاعر @ فلا وأبيك ابنة العامري لا يدّعى القوم أني أفر @@ وقيل هي للنفي ، لكن لا لنفي الإقسام ، بل لنفي ما ينبيء عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه ، كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بإقسامي به حقّ إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . وقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر ، وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير قوله { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } الواقعة 75 . وقرأ الحسن ، وابن كثير في رواية عنه ، والزهري ، وابن هرمز " لأقسم " بدون ألف على أن اللام لام الابتداء ، والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وقد اعترض عليه الرازي بما لا يقدح في قوّته ، ولا يفتّ في عضد رجحانه ، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته . { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوّامة ، كما أقسم بيوم القيامة ، فيكون الكلام في " لا " هذه كالكلام في الأولى ، وهذا قول الجمهور . وقال الحسن أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوّامة . قال الثعلبي والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً ، ومعنى ٱلنَّفْسَ ٱللَّوَّامَةِ النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره ، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها . قال الحسن هي والله نفس المؤمن ، لا يرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا ، والفاجر لا يعاتب نفسه . قال مجاهد هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشرّ لم تعمله ؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه ؟ قال الفرّاء ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيراً قالت هلا ازددت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت ليتني لم أفعل . وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس ، فيكون الإقسام بها حسناً سائغاً . وقيل اللوّامة هي الملومة المذمومة ، فهي صفة ذمّ ، وبهذا احتج من نفى أن يكون قسماً ، إذ ليس لنفس العاصي خطر يقسم به . قال مقاتل هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله . والأوّل أولى . { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } المراد بالإنسان الجنس . وقيل الإنسان الكافر ، والهمزة للإنكار ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، والمعنى أيحسب الإنسان أن الشأن أن لن نجمع عظامه بعد أن صارت رفاتاً ، فنعيدها خلقاً جديداً ، وذلك حسبان باطل ، فإنا نجمعها ، وما يدلّ عليه هذا الكلام هو جواب القسم . قال الزجاج أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة ليجمعنّ العظام للبعث ، فهذا جواب القسم . وقال النحاس جواب القسم محذوف ، أي ليبعثنّ ، والمعنى أن الله سبحانه يبعث جميع أجزاء الإنسان ، وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق . { بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } بلى إيجاب لما بعد النفي المنسحب إليه الاستفهام ، والوقف على هذا اللفظ وقف حسن ، ثم يبتدىء الكلام بقوله { قَـٰدِرِينَ } وانتصاب { قادرين } على الحال ، أي بلى نجمعها قادرين ، فالحال من ضمير الفعل المقدّر . وقيل المعنى بل نجمعها نقدر قادرين . قال الفراء أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك . وقال أيضاً إنه يصلح نصبه على التكرير ، أي بلى فليحسبنا قادرين . وقيل التقدير بلى كنا قادرين . وقرأ ابن أبي عبلة ، وابن السميفع بلى قادرون على تقدير مبتدأ ، أي بلى نحن قادرون ، ومعنى { عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } على أن نجمع بعضها إلى بعض ، فنردّها كما كانت مع لطافتها وصغرها ، فكيف بكبار الأعضاء ، فنبه سبحانه بالبنان ، وهي الأصابع على بقية الأعضاء ، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق ، فهذا وجه تخصيصها بالذكر ، وبهذا قال الزجاج ، وابن قتيبة . وقال جمهور المفسرين إن معنى الآية أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحداً ، كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها ، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوهما ، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها . وقيل المعنى بل نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، والأوّل أولى ، ومنه قول عنترة @ وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان @@ فنبه بالبنان على بقية الأعضاء . { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } هو عطف على { أيحسب } ، إما على أنه استفهام مثله ، وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام . والمعنى بل يريد الإنسان أن يقدم فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، فيقدم الذنب ويؤخر التوبة . قال ابن الأنباري يريد أن يفجر ما امتدّ عمره ، وليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه . قال مجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، والسديّ ، وسعيد بن جبير يقول سوف أتوب ، ولا يتوب حتى يأتيه الموت . وهو على أشرّ أحواله . قال الضحاك هو الأمل ، يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ، ولا يذكر الموت ، والفجور أصله الميل عن الحقّ ، فيصدق على كل من مال عن الحق بقول أو فعل ، ومنه قول الشاعر @ أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر اغفر له اللَّهم إن كان فجر @@ وجملة { يَسْـئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } مستأنفة لبيان معنى يفجر ، والمعنى يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } أي فزع وتحير ، من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره . قرأ الجمهور { برق } بكسر الراء . قال أبو عمرو بن العلاء ، والزجاج وغيرهما المعنى تحير فلم يطرف ، ومنه قول ذي الرّمة @ ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق @@ وقال الخليل ، والفراء { برق } بالكسر فزع وبهت وتحير ، والعرب تقول للإنسان المبهوت قد برق ، فهو بارق ، وأنشد الفرّاء @ ونفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق @@ أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك . وقرأ نافع ، وأبان عن عاصم " برق " بفتح الراء ، أي لمع بصره من شدة شخوصه للموت . قال مجاهد وغيره هذا عند الموت ، وقيل برق يبرق شق عينيه وفتحهما . وقال أبو عبيدة فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } قرأ الجمهور { خسف } بفتح الخاء والسين مبنياً للفاعل . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والأعرج ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بضم الخاء وكسر السين مبنياً للمفعول ، ومعنى { وخسف ٱلْقَمَرُ } ذهب ضوؤه ، ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا ، ويقال خسف إذا ذهب جميع ضوئه ، وكسف إذا ذهب بعض ضوئه . { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } أي ذهب ضوؤهما جميعاً ، ولم يقل " جمعت " لأن التأنيث مجازيّ . قاله المبرد . وقال أبو عبيدة هو لتغليب المذكر على المؤنث . وقال الكسائي حمل على معنى جمع النيران . وقال الزجاج ، والفراء ولم يقل " جمعت " لأن المعنى جمع بينهما في ذهاب نورهما . وقيل جمع بينهما في طلوعهما من الغرب أسودين مكوّرين مظلمين . قال عطاء يجمع بينهما يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى . وقيل تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار . وقرأ ابن مسعود " وجمع بين الشمس والقمر " . { يَقُولُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } أي يقول عند وقوع هذه الأمور أين المفرّ ؟ أي الفرار ، والمفرّ مصدر بمعنى الفرار . قال الفراء يجوز أن يكون موضع الفرار ، ومنه قول الشاعر @ أين المفرّ والكباش تنتطح وكل كبش فرّ منها يفتضح @@ قال الماوردي يحتمل وجهين أحدهما ابن المفرّ من الله سبحانه استحياء منه . والثاني أين المفرّ من جهنم حذراً منها . وقرأ الجمهور { أين المفرّ } بفتح الميم والفاء مصدراً ، كما تقدّم . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة بفتح الميم وكسر الفاء على أنه اسم مكان ، أي أين مكان الفرار . وقال الكسائي هما لغتان مثل مدب ومدب ، ومصح ومصح ، وقرأ الزهري بكسر الميم وفتح الفاء على أن المراد به الإنسان الجيد الفرار ، ومنه قول امرىء القيس @ مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل @@ أي جيد الفرّ والكرّ . { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } أي لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله . وقال ابن جبير لا محيص ولا منعة . والوزر في اللغة ما يلجأ إليه الإنسان من حصن أو جبل أو غيرهما ، ومنه قول طرفة @ ولقد تعلم بكر أننا فاضلوا الرأي وفي الروع وزر @@ وقال آخر @ لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر @@ قال السديّ كانوا إذا فزعوا في الدنيا تحصنوا بالجبال ، فقال لهم الله لا وزر يعصمكم مني يومئذٍ ، وكلاّ للردع أو لنفي ما قبلها ، أو بمعنى حقاً { إِلَىٰ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } أي المرجع والمنتهى والمصير لا إلى غيره . وقيل إليه الحكم بين العباد لا إلى غيره . وقيل المستقر الاستقرار حيث يقرّه الله { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشرّ . وقال قتادة بما عمل من طاعة وما أخر من طاعة فلم يعمل بها . وقال زيد بن أسلم بما قدّم من أمواله وما خلف للورثة . وقال مجاهد بأوّل عمله وآخره . وقال الضحاك بما قدّم من فرض وأخر من فرض . قال القشيري هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت . قال القرطبي والأوّل أظهر { بَلِ ٱلإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ارتفاع بصيرة على أنها خبر الإنسان ، على نفسه متعلق ببصيرة . قال الأخفش جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك . وقيل المعنى إن جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما في قوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } النور 24 وأنشد الفرّاء @ كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظر @@ فيكون المعنى بل جوارح الإنسان عليه شاهدة . قال أبو عبيدة ، والقتيبي إن هذه الهاء في بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كما في قولهم علامة . وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير وشرّ ، والتاء على هذا للتأنيث . وقال الحسن أي بصير بعيوب نفسه { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } أي ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك . يقال معذرة ومعاذير . قال الفرّاء أي وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره . وقال الزجاج المعاذير الستور ، والواحد معذار ، أي وإن أرخى الستور يريد أن يخفي نفسه فنفسه شاهدة عليه ، كذا قال الضحاك ، والسديّ . والستر بلغة اليمن يقال له معذار ، كذا قال المبرد ، ومنه قول الشاعر @ ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت يومها بالمعاذر @@ والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد ، وأبو العالية ، ومقاتل ، ومثله قوله { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } غافر 52 . وقوله { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } المرسلات 36 . وقول الشاعر @ فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر @@ { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصاً على أن يحفظه صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، أي لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك ، ومثل هذا قوله { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } طه 114 الآية ، { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء { وَقُرْءانَهُ } أي إثبات قراءته في لسانك . قال الفرّاء القراءة والقرآن مصدران . وقال قتادة { فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ } أي شرائعه وأحكامه . { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ } أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل { فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ } أي قراءته . { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام ، وبيان ما أشكل منه . قال الزجاج المعنى علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فيه بيان للناس . وقيل المعنى إن علينا أن نبينه بلسانك . { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } كلا للردع عن العجلة ، والترغيب في الأناة . وقيل هي ردع لمن لا يؤمن بالقرآن وبكونه بيناً من الكفار . قال عطاء أي لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه . قرأ أهل المدينة ، والكوفيون { بل تحبون } { وتذرون } بالفوقية في الفعلين جميعاً . وقرأ الباقون بالتحتية فيهما ، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب لهم تقريعاً وتوبيخاً ، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام عائداً إلى الإنسان لأنه بمعنى الناس ، والمعنى تحبون الدنيا ، وتتركون { ٱلأَخِرَةَ } فلا تعملون لها . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } أي ناعمة غضة حسنة ، يقال شجر ناضر ، وروض ناضر ، أي حسن ناعم ، ونضارة العيش حسنه وبهجته . قال الواحدي ، والمفسرون يقولون مضيئة مسفرة مشرقة { إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } هذا من النظر ، أي إلى خالقها ومالك أمرها ناظرة ، أي تنظر إليه ، هكذا قال جمهور أهل العلم ، والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة ، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر . قال ابن كثير وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام . وقال مجاهد إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب ، وروي نحوه عن عكرمة . وقيل لا يصح هذا إلاّ عن مجاهد وحده . قال الأزهري وقول مجاهد خطأ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل نظرت إلى فلان ليس إلاّ رؤية عين ، إذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ، كما في قول الشاعر @ فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أمّ جندب @@ فإذا أرادوا نظر العين قالوا نظرت إليه ، كما قال الشاعر @ نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لفعال @@ وقال الآخر @ إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر @@ أي انظر إليك نظر ذلّ كما ينظر الفقير إلى الغنيّ ، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدّاً . و { وجوه } مبتدأ ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة لأن المقام مقام تفصيل ، وناضرة صفة لوجوه ، ويومئذٍ ظرف لناضرة ، ولو لم يكن المقام مقام تفصيل لكان وصف النكرة بقوله { نَّاضِرَةٌ } مسوّغاً للابتداء بها ، ولكن مقام التفصيل بمجرّده مسوّغ للابتداء بالنكرة . { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي كالحة عابسة كئيبة . قال في الصحاح بسر الرجل وجهه بسوراً ، أي كلح . قال السديّ باسرة أي متغيرة . وقيل مصفرّة ، والمراد بالوجوه هنا وجوه الكفار { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } الفاقرة الداهية العظيمة ، يقال فقرته الفاقرة ، أي كسرت فقار ظهره . قال قتادة الفاقرة الشرّ ، وقال السديّ الهلاك ، وقال ابن زيد دخول النار . وأصل الفاقرة الوسم على أنف البعير بحديدة ، أو نار حتى تخلص إلى العظم ، كذا قال الأصمعي ، ومن هذا قولهم قد عمل به الفاقرة . قال النابغة @ أبا لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره @@ وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس عن قوله { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } قال يقسم ربك بما شاء من خلقه ، قلت { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } قال النفس اللؤوم . قلت { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } قال لو شاء لجعله خفاً أو حافراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه . { ٱللَّوَّامَةِ } قال المذمومة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً قال التي تلوم على الخير والشرّ تقول لو فعلت كذا وكذا . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال تندم على ما فات وتلوم عليه . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال يمضي قدماً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال هو الكافر الذي يكذب بالحساب . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال يعني الأمل ، يقول أعمل ثم أتوب . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الأمل ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في الآية قال يقدّم الذنب ويؤخر التوبة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يقول سوف أتوب { يَسْـئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ } قال يقول متى يوم القيامة ؟ قال فبين له { إِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } . وأخرج ابن جرير عنه قال { إِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } يعني الموت . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله { لاَ وَزَرَ } قال لا حصن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله { لاَ وَزَرَ } قال لا حصن ولا ملجأ ، وفي لفظ لا حرز ، وفي لفظ لا جبل . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } قال بما قدّم من عمل ، وأخر من سنة عمل بها من بعده من خير أو شرّ . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة فينبؤ بذلك . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر من طرق عنه في قوله { بَلِ ٱلإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال شهد على نفسه وحده { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } قال ولو اعتذر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { بَلِ ٱلإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } قال ولو تجرّد من ثيابه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرّك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه يريد أن يحفظه ، فأنزل الله { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ } قال يقول إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ } يقول إذا أنزلناه عليك { فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ } فاستمع له وأنصت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أن نبينه بلسانك ، وفي لفظ علينا أن نقرأه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق . وفي لفظ استمع ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ } قال بيناه { فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ } يقول اعمل به . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود في قوله { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } قال عجلت لهم الدنيا شرّها وخيرها ، وغيبت الآخرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال ناعمة . وأخرج ابن المنذر ، والآجري في الشريعة ، واللالكائي في السنة ، والبيهقي في الرؤية عنه { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال يعني حسنها { إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال نظرت إلى الخالق . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً { إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى وجه ربها . وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } قال " ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ، ولا حدّ محدود ، ولا صفة معلومة " وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب " قالوا لا يا رسول الله ، قال " فهل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب " قالوا لا يا رسول الله ، قال " فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك " وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه . وقد قدّمنا أن أحاديث الرؤية متواترة فلا نطيل بذكرها ، وهي تأتي في مصنف مستقلّ ، ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه ، وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة ، وعشية " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } . وأخرجه أحمد في المسند من حديثه بلفظ " إن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرّتين " وأخرج النسائي ، والدارقطني وصححه ، وأبو نعيم عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا ؟ قال " هل ترون الشمس في يوم لا غيم فيه ، وترون القمر في ليلة لا غيم فيها ؟ " قلنا نعم ، قال " فإنكم سترون ربكم عزّ وجلّ ، حتى إن أحدكم ليحاضر ربه محاضرة ، فيقول عبدي هل تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول ألم تغفر لي ؟ فيقول بمغفرتي صرت إلى هذا " .