Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 80, Ayat: 1-42)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } أي كلح بوجهه وأعرض . وقرىء " عبس " بالتشديد . { أَن جَاءهُ ٱلأَعْمَىٰ } مفعول لأجله ، أي لأن جاءه الأعمى ، والعامل فيه إما { عبس } ، أو { تولى } على الاختلاف بين البصريين والكوفيين في التنازع هل المختار إعمال الأوّل أو الثاني ؟ وقد أجمع المفسرون على أن سبب نزول الآية أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقد طمع في إسلامهم ، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه ، فأعرض عنه فنزلت ، وسيأتي في آخر البحث بيان هذا إن شاء الله . { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } التفت سبحانه إلى خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم لأن المشافهة أدخل في العتاب أي أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله حتى تعرض عنه ، وجملة { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه أي لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ، فالضمير في { لعله } راجع إلى { الأعمى } ، وقيل هو راجع إلى الكافر أي وما يدريك أن ما طمعت فيه ممن اشتغلت بالكلام معه عن الأعمى أنه يزكى ، أو يذكر ، والأوّل أولى . وكلمة الترجي باعتبار من وجه إليه الخطاب للتنبيه على أن الإعراض عنه مع كونه مرجوّ التزكي مما لا يجوز . قرأ الجمهور { أن جاءه الأعمى } على الخبر بدون استفهام ، ووجهه ما تقدّم . وقرأ الحسن " آن جاءه " بالمدّ على الاستفهام ، فهو على هذه القراءة متعلق بفعل محذوف دلّ عليه { عبس } و { تولى } ، والتقدير أن جاءه الأعمى تولى وأعرض ، ومثل هذه الآية قوله في سورة الأنعام { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ } الأنعام 52 وكذلك قوله في سورة الكهف { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } الكهف 28 وقوله { أَوْ يَذَّكَّرُ } عطف على { يزكى } داخل معه في حكم الترجي أي أو يتذكر ، فيتعظ بما تعلمه من المواعظ { فَتَنفَعَهُ ٱلذّكْرَىٰ } أي الموعظة . قرأ الجمهور { فتنفعه } بالرفع ، وقرأ عاصم وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش بالنصب على جواب الترجي { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } أي كان ذا ثروة وغنى ، أو استغنى عن الإيمان ، وعما عندك من العلم { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } أي تصغي لكلامه ، والتصدّي الإصغاء . قرأ الجمهور { تصدّى } بالتخفيف على طرح إحدى التاءين تخفيفاً ، وقرأ نافع ، وابن محيصن بالتشديد على الإدغام ، وفي هذا مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن الإقبال عليهم ، والإصغاء إلى كلامهم . { وَمَا عَلَيْكَ أَن لا يَزَّكَّىٰ } أي أيّ شيء عليك في أن لا يسلم ، ولا يهتدي ، فإنه ليس عليك إلاّ البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار ، ويجوز أن تكون " ما " نافية ، أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى من تصدّيت له ، وأقبلت عليه ، وتكون الجملة في محل نصب على الحال من ضمير تصدّى . ثم زاد سبحانه في معاتبة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال { وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَىٰ } أي وصل إليك حال كونه مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده إلى الخير ، وتعظه بمواعظ الله ، وجملة { وَهُوَ يَخْشَىٰ } حال من فاعل يسعى على التداخل ، أو من فاعل جاءك على الترادف . { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } أي تتشاغل عنه ، وتعرض عن الإقبال عليه ، والتلهي التشاغل ، والتغافل ، يقال لهيت عن الأمر ألهي أي تشاغلت عنه ، وكذا تلهيت ، وقوله { كَلاَّ } ردع له صلى الله عليه وسلم عما عوتب عليه ، أي لا تفعل بعد هذا الواقع منك مثله من الإعراض عن الفقير ، والتصدّي للغني ، والتشاغل به ، مع كونه ليس ممن يتزكى عن إرشاد من جاءك من أهل التزكي ، والقبول للموعظة ، وهذا الواقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم هو من باب ترك الأولى ، فأرشده الله سبحانه إلى ما هو الأولى به { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي أن هذه الآيات ، أو السورة موعظة حقها أن تتعظ بها ، وتقبلها وتعمل بموجبها ، ويعمل بها كل أمتك . { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } أي فمن رغب فيها اتعظ بها ، وحفظها ، وعمل بموجبها ، ومن رغب عنها ، كما فعله من استغنى ، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره . وقيل الضميران في " إنها " ، وفي { ذكره } للقرآن ، وتأنيث الأوّل لتأنيث خبره . وقيل الأوّل للسورة ، أو للآيات السابقة . والثاني للتذكرة لأنها في معنى الذكر . وقيل إن معنى { فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } فمن شاء الله ألهمه ، وفهمه القرآن حتى يذكره ، ويتعظ به ، والأوّل أولى . ثم أخبر سبحانه عن عظم هذه التذكرة ، وجلالتها فقال { فَى صُحُفٍ } أي إنها تذكرة كائنة في صحف ، فالجار ، والمجرور صفة لـ { تذكرة } ، وما بينهما اعتراض ، والصحف جمع صحيفة ، ومعنى { مُّكَرَّمَةٍ } أنها مكرمة عند الله لما فيها من العلم والحكمة ، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ ، وقيل المراد بالصحف كتب الأنبياء ، كما في قوله { إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسَىٰ } الأعلى 18 ، 19 ومعنى { مَّرْفُوعَةٍ } أنها رفيعة القدر عند الله . وقيل مرفوعة في السماء السابعة . قال الواحدي قال المفسرون مكرمة يعني اللوح المحفوظ { مَّرْفُوعَةٍ } يعني في السماء السابعة . قال ابن جرير مرفوعة القدر ، والذكر ، وقيل مرفوعة عن الشبه ، والتناقض { مُّطَهَّرَةٍ } أي منزهة لا يمسها إلاَّ المطهرون . قال الحسن مطهرة من كل دنس . قال السديّ مصانة عن الكفار لا ينالونها { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب ، والمعنى أنها بأيدي كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ . قال الفراء السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله ، من السفارة وهو السعي بين القوم ، وأنشد @ فما أدع السفارة بين قومي ولا أمشي بغير أب نسيب @@ قال الزجاج وإنما قيل للكتاب سفر بكسر السين ، والكاتب سافر لأن معناه أنه بين ، يقال أسفر الصبح إذا أضاء ، وأسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وجهها ، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة أي أصلحت بينهم . قال مجاهد هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد . وقال قتادة السفرة هنا هم القراء لأنهم يقرءون الأسفار . وقال وهب بن منبه هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي كرام على ربهم ، كذا قال الكلبي . وقال الحسن كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها . وقيل يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو قضى حاجته . وقيل يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم . وقيل يتكرّمون على المؤمنين بالاستغفار لهم . والبررة جمع بارّ مثل كفر وكافر ، أي أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم ، وقد تقدّم تفسيره . { قُتِلَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا أَكْفَرَهُ } أي لعن الإنسان الكافر ما أشدّ كفره ، وقيل عذب ، قيل والمراد به عتبة بن أبي لهب ، ومعنى { ما أكفره } التعجب من إفراط كفره . قال الزجاج معناه اعجبوا أنتم من كفره . وقيل المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } وقيل المراد به الجنس ، وهذا هو الأولى ، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ، ويدخل تحته من كان سبباً لنزول الآية دخولاً أوّلياً . ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ، ويكفّ عن طغيانه فقال { مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ } أي من أيّ شيء خلق الله هذا الكافر ، والاستفهام للتقرير . ثم فسر ذلك فقال { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } أيّ من ماء مهين ، وهذا تحقير له . قال الحسن كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرّتين ، ومعنى { فَقَدَّرَهُ } أي فسوّاه ، وهيأه لمصالح نفسه ، وخلق له اليدين ، والرجلين ، والعينين ، وسائر الآلات ، والحواسّ . وقيل قدّره أطواراً من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة إلى أن تمّ خلقه . { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أي يسرّ له الطريق إلى الخير والشرّ . وقال السديّ ، ومقاتل ، وعطاء ، وقتادة يسره للخروج من بطن أمه ، والأوّل أولى . ومثله قوله { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } البلد 10 وانتصاب { السبيل } بمضمر يدل عليه الفعل المذكور أي ، يسر السبيل يسره . { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراماً له ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع ، والطير ، كذا قال الفرّاء وقال أبو عبيدة جعل له قبراً وأمر أن يقبر فيه . وقال أقبره ، ولم يقل قبره لأن القابر هو الدافن بيده ، ومنه قول الأعشى @ لو أسندت ميتاً إلى صدرها عاش ولم ينقل إلى قابر @@ { ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ } أي ثم إذا شاء إنشاره أنشره أي أحياه بعد موته ، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين ، بل هو تابع للمشيئة . قرأ الجمهور { أنشره } بالألف ، وروى أبو حيوة عن نافع ، وشعيب بن أبي حمزة " نشره " بغير ألف ، وهما لغتان فصيحتان . { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } كلا ردع ، وزجر للإنسان الكافر أي ليس الأمر كما يقول . ومعنى لما يقض ما أمره ، لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وقيل المراد الإنسان على العموم ، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدّة لأنه لا يخلو من تقصير . قال الحسن أي حقاً لم يعمل ما أمر به . وقال ابن فورك أي كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له . قال ابن الأنباري الوقف على " كلا " قبيح ، والوقف على { أمره } جيد ، و " كلا " على هذا بمعنى حقاً . وقيل المعنى لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره ، بل أخلّ به بعضها بالكفر ، وبعضها بالعصيان ، وما قضى ما أمره الله إلاّ القليل . ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده ليشكروها ، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } أي ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سبباً لحياته ؟ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعدّ بها للسعادة الأخروية ؟ قال مجاهد معناه ، فلينظر الإنسان إلى طعامه أي إلى مدخله ، ومخرجه ، والأوّل أولى . ثم بيّن ذلك سبحانه فقال { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً } قرأ الجمهور إنا بالكسر على الاستئناف . وقرأ الكوفيون ، ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من { طعامه } بدل اشتمال لكون نزول المطر سبباً لحصول الطعام ، فهو كالمشتمل عليه ، أو بتقدير لام العلة . قال الزجاج الكسر على الابتداء والاستئناف ، والفتح على معنى البدل من الطعام . المعنى فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صباً ، وأراد بصبّ الماء المطر . وقرأ الحسن بن عليّ بالفتح والإمالة { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } أي شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقاً بديعاً لائقاً بما يخرج منه في الصغر ، والكبر ، والشكل ، والهيئة . ثم بيّن سبب هذا الشقّ ، وما وقع لأجله ، فقال { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } يعني الحبوب الذي يتغذى بها ، والمعنى أن النبات لا يزال ينمو ، ويتزايد إلى أن يصير { حباً } ، وقوله { وَعِنَباً } معطوف على حباً أي وأنبتنا فيها عنباً ، قيل وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ، فلا ضير في خلوّ إنبات العنب عن شقّ الأرض ، والقضب هو القتّ الرطب الذي يقضب مرّة بعد أخرى تعلف به الدواب ، ولهذا سمي قضباً على مصدر قضبه أي قطعه كأنه لتكرّر قطعها نفس القطع . قال الخليل القضب الفصفصة الرطبة ، فإذا يبست فهي القتّ . قال في الصحاح والقضبة ، والقضب الرطبة ، قال والموضع الذي ينبت فيه مقضبة . قال القتيبي ، وثعلب وأهل مكة يسمون العنب القضب . والزيتون هو ما يعصر منه الزيت ، وهو شجرة الزيتون المعروفة ، والنخل هو جمع نخلة { وَحَدَائِقَ غُلْباً } جمع حديقة ، وهي البستان ، والغلب العظام الغلاظ الرقاب . وقال مجاهد ، ومقاتل الغلب الملتفّ بعضها ببعض ، يقال رجل أغلب إذا كان عظيم الرقبة ، ويقال للأسد أغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلاّ جميعاً . قال العجاج @ مازلت يوم البين ألوي صلبي والرأس حتى صرت مثل الأغلب @@ وجمع أغلب وغلباء غلب ، كما جمع أحمر ، وحمراء على حمر . وقال قتادة ، وابن زيد الغلب النخل الكرام . وعن ابن زيد أيضاً ، وعكرمة هي غلاظ الأوساط ، والجذوع . والفاكهة ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب ، والتين ، والخوخ ، ونحوها . والأبّ كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ، ولا يزرعونه من الكلأ ، وسائر أنواع المرعى ، ومنه قول الشاعر @ جدّنا قيس ونجد دارنا ولنا الأبّ بها والمكرع @@ قال الضحاك الأبّ كل شيء ينبت على وجه الأرض . وقال ابن أبي طلحة هو الثمار الرطبة . وروي عن الضحاك أيضاً أنه قال هو التين خاصة ، والأوّل أولى . ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال { فَإِذَا جَاءتِ ٱلصَّاخَّةُ } يعني صيحة يوم القيامة ، وسميت صاخة لشدّة صوتها لأنها تصخ الأذان أي تصمها فلا تسمع . وقيل سميت صاخة لأنها يصيخ لها الأسماع ، من قولك أصخ إلى كذا أي استمع إليه ، والأوّل أصح . قال الخليل الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدّة وقعها ، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصكّ الشديد ، يقال صخه بالحجر إذا صكه بها ، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله { لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه ، والظرف في قوله { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ } إما بدل من إذا جاءت ، أو منصوب بمقدّر أي أعني ، ويكون تفسيراً للصاخة ، أو بدلاً منها مبنيّ على الفتح ، وخصّ هؤلاء بالذكر لأنهم أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحنوّ والرأفة ، فالفرار منهم لا يكون إلاّ لهول عظيم ، وخطب فظيع . { لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ، ويصرفه عنهم . وقيل إنما يفرّ عنهم حذراً من مطالبتهم إياه بما بينهم ، وقيل يفرّ عنهم لئلا يروا ما هو فيه من الشدّة . وقيل لعلمه أنهم لا ينفعونه ، ولا يغنون عنه شيئًا ، كما قال تعالى { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } الدخان 41 والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار . قال ابن قتيبة { يغنيه } أي يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال أغن عني وجهك أي اصرفه . قرأ الجمهور يغنيه بالغين المعجمة . وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء أي يهمه ، من عناه الأمر إذا أهمه . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } { وجوه } مبتدأ ، وإن كان نكرة لأنه في مقام التفصيل ، وهو من مسوّغات الابتداء بالنكرة ، ويومئذ متعلق به ، ومسفرة خبره ، ومعنى { مسفرة } مشرقة مضيئة ، وهي وجوه المؤمنين لأنهم قد علموا إذ ذاك مالهم من النعيم ، والكرامة ، يقال أسفر الصبح إذا أضاء . قال الضحاك مسفرة من آثار الوضوء ، وقيل من قيام الليل { ضَـٰحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي فرحة بما نالته من الثواب الجزيل . ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي غبار وكدورة لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب . { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف . وقيل ذلة . وقيل شدّة ، والقتر في كلام العرب الغبار ، كذا قال أبو عبيدة ، وأنشد قول الفرزدق @ متوّج برداء الملك يتبعه فوج ترى فوقه الرايات والقترا @@ ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة ، فإنها واحدة الغبار . وقال زيد بن أسلم القترة ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة ما انحطت إلى الأرض { أُوْلَـٰئِكَ } يعني أصحاب الوجوه { هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } أي الجامعون بين الكفر بالله ، والفجور . يقال فجر ، أي فسق وفجر ، أي كذب ، وأصله الميل ، والفاجر المائل عن الحق . وقد أخرج الترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت « أنزلت { عبس وتولى } في ابن أمّ مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول يا رسول الله ، أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول لا ، ففي هذا أنزلت » . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى عن أنس قال « جاء ابن أمّ مكتوم ، وهو يكلم أبيّ بن خلف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَاءهُ ٱلأَعْمَىٰ } فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه » . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبا جهل بن هشام ، وكان يتصدّى لهم كثيراً ، ويحرص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم يمشي ، وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرىء النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن قال يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه ، وتولى ، وكره كلامه ، وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ، ثم خفق برأسه ، ثم أنزل الله { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } الآية ، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبيّ ، وكلمه وقال له " ما حاجتك ؟ هل تريد من شيء ؟ " وإذا ذهب من عنده قال " هل لك حاجة في شيء ؟ " قال ابن كثير فيه غرابة ، وقد تكلم في إسناده . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } قال كتبة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } قال هم بالنبطية القرّاء . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } قال الملائكة وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يقرأ القرآن ، وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه ، وهو عليه شاق له أجران " وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } قال يعني بذلك خروجه من بطن أمه يسره له . وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } قال إلى مدخله ، ومخرجه . وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } قال إلى خرئه . وأخرج ابن المنذر عنه { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً } قال المطر { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } قال عن النبات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَقَضْباً } قال الفصفصة ، يعني القتّ { وَحَدَائِقَ غُلْباً } قال طوالاً { وَفَـٰكِهَةً وَأَبّاً } قال الثمار الرطبة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال الحدائق كل ملتفّ ، والغلب ما غلظ ، والأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدوابّ ، ولا يأكله الناس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً { وَحَدَائِقَ غُلْباً } قال شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئًا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال الأبّ الكلأ والمرعى . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق عن الأبّ ما هو ؟ فقال أيّ سماء تظلني ، وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم ؟ . وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد أن رجلاً سأل عمر عن قوله { وَأَبّاً } فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة . وأخرج ابن سعد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً } إلى قوله { وَأَبّاً } قال كل هذا قد عرفناه ، فما الأبّ ؟ ثم رفض عصى كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، فاعملوا عليه ، وما لم تعرفوه ، فكلوه إلى ربه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال الصاخة من أسماء يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مُّسْفِرَةٌ } قال مشرقة ، وفي قوله { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } قال تغشاها شدّة وذلة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { قَتَرَةٌ } قال سواد الوجه .