Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 85, Ayat: 1-22)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } قد تقدّم الكلام في البروج عند تفسير قوله { جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً } الفرقان 61 قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك هي النجوم ، والمعنى والسماء ذات النجوم . وقال عكرمة ، ومجاهد أيضاً هي قصور في السماء . وقال المنهال بن عمرو ذات الخلق الحسن . وقال أبو عبيدة ، ويحيى بن سلام وغيرهما هي المنازل للكواكب ، وهي اثنا عشر برجاً لاثني عشر كوكباً ، وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . والبروج في كلام العرب القصور ، ومنه قوله { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء 78 شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها وقيل هي أبواب السماء . وقيل هي منازل القمر ، وأصل البرج الظهور ، سميت بذلك لظهورها { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } أي الموعود به ، وهو يوم القيامة . قال الواحدي في قول جميع المفسرين . { وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } المراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق أي يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب ، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة ، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، والمشهود يوم عرفة لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج ، وتحضره الملائكة . قال الواحدي وهذا قول الأكثر . وحكى القشيري عن ابن عمر ، وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى . وقال سعيد بن المسيب الشاهد يوم التروية ، والمشهود يوم عرفة . وقال النخعي الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر . وقيل الشاهد هو الله سبحانه . وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، لقوله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } الفتح 166 وقوله { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } الأنعام 19 . وقيل الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً } النساء 41 وقوله { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } الأحزاب 45 . وقوله { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } البقرة 143 . وقيل الشاهد جميع الأنبياء لقوله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وقيل هو عيسى بن مريم لقوله { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دمت فِيهِمْ } المائدة 117 والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة إما أمة محمد ، أو أمم الأنبياء ، أو أمة عيسى . وقيل الشاهد آدم . والمشهود ذريته . وقال محمد بن كعب الشاهد الإنسان لقوله { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } الإسراء 14 وقال مقاتل أعضاؤه لقوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } النور 24 وقال الحسين بن الفضل الشاهد هذه الأمة ، والمشهود سائر الأمم لقوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } البقرة 143 . وقيل الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم . وقيل الأيام والليالي . وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله عزّ وجلّ بالوحدانية ، والمشهود له بالوحدانية هو الله سبحانه ، وسيأتي بيان ما ورد في تفسير الشاهد والمشهود ، وبيان ما هو الحقّ إن شاء الله . { قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلأَخْدُودِ } هذا جواب القسم ، واللام فيه مضمرة ، وهو الظاهر ، وبه قال الفراء ، وغيره . وقيل تقديره لقد قتل ، فحذفت اللام ، وقد ، وعلى هذا تكون الجملة خبرية ، والظاهر أنها دعائية لأن معنى { قتل } لعن . قال الواحدي في قول الجميع ، والدعائية لا تكون جواباً للقسم ، فقيل الجواب قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقيل قوله { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } وبه قال المبرد واعترض عليه بطول الفصل . وقيل هو مقدّر يدلّ عليه قوله { قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلأُخْدُودِ } كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل تقدير الجواب لتبعثنّ ، واختاره ابن الأنباري . وقال أبو حاتم السجستاني ، وابن الأنباري أيضاً في الكلام تقديم وتأخير ، أي قتل أصحاب الأخدود ، والسماء ذات البروج ، واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال والله قام زيد ، والأخدود الشقّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخدّ لمجاري الدموع ، والمخدة لأن الخد يوضع عليها ، ويقال تخدد وجه الرجل إذا صارت فيه أخاديد من خراج ، ومنه قول طرفة @ ووجه كأن الشمس ألقتّ رداءها عليه نقيّ اللون لم يتخدّد @@ وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله . قرأ الجمهور { النار ذات الوقود } بجر النار على أنها بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل عليها ، وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة ، والوقود الحطب الذي توقد به . وقيل هو بدل كل من كل ، لا بدل اشتمال . وقيل إن النار مخفوضة على الجوار ، كذا حكى مكي عن الكوفيين . وقرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود ، وقرأ قتادة ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم بضمها . وقرأ أشهب العقيلي ، وأبو حيوة ، وأبو السماك العدوي ، وابن السميفع ، وعيسى برفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي هي النار ، أو على أنها فاعل فعل محذوف ، أي أحرقتهم النار { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } العامل في الظرف قتل ، أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين على ما يدنو منها ، ويقرب إليها . قال مقاتل يعني عند النار قعود يعرضونهم على الكفر . وقال مجاهد كانوا قعوداً على الكراسي عند الأخدود . { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي الذين خدّوا الأخدود ، وهم الملك وأصحابه ، على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم شهود أي حضور ، أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به . وقيل يشهدون بما فعلوا يوم القيامة ، ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم . وقيل على بمعنى مع ، والتقدير وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود . قال الزجاج أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم ، وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } أي ما أنكروا عليهم ، ولا عابوا منهم { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } أي إلا أن صدّقوا بالله الغالب المحمود في كل حال . قال الزجاج ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمانهم ، وهذا كقوله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ } المائدة 59 وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كما في قوله @ لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم يسلو عن الأهل والأوطان والحشم @@ وقول الآخر @ ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها @@ قرأ الجمهور { نقموا } بفتح النون ، وقرأ أبو حيوة بكسرها ، والفصيح الفتح . ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على العظم ، والفخامة فقال { ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ومن كان هذا شأنه ، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منه خافية ، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين . ثم بيّن سبحانه ما أعدّ لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } أي حرقوهم بالنار ، والعرب تقول فتنت الشيء ، أي أحرقته ، وفتنت الدرهم والدينار إذا أدخلته النار لتنظر جودته . ويقال دينار مفتون ، ويسمى الصائغ الفتان ، ومنه قوله { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } الذاريات 13 ، أي يحرقون . وقيل معنى فتنوا المؤمنين محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ، ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم فلهم عذاب جهنم أي لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم ، والجملة في محل رفع على أنها خبر إن ، أو الخبر لهم ، وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، ولا يضرّ نسخه بأنّ خلافاً للأخفش ، ولهم عذاب الحريق أي ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ، وهو عذاب الحريق الذي وقع منهم للمؤمنين . وقيل إن الحريق اسم من أسماء النار كالسعير . وقيل إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ، ثم يعذبون بعذاب الحريق ، فالأوّل عذاب ببردها ، والثاني عذاب بحرّها . وقال الربيع بن أنس إن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا ، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه ، فأحرقتهم ، وبه قال الكلبي . ثم ذكر سبحانه ما أعدّ للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } وظاهر الآية العموم ، فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولاً أوّلياً ، والمعنى أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات { لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي لهم بسبب الإيمان ، والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة . وقد تقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع ، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار ، فجري الأنهار من تحتها واضح ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر لأنها ساترة لساحتها ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره مما أعدّه الله لهم أي ذلك المذكور { ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الذي لا يعدله فوز ، ولا يقاربه ولا يدانيه ، والفوز الظفر بالمطلوب ، وجملة { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } مستأنفة لخطاب النبيّ مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه ، والمغفرة لمن أطاعه أي أخذه للجبابرة والظلمة شديد ، والبطش الأخذ بعنف ، ووصفه بالشدّة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم ، ومثل هذا قوله { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } هود 102 { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } أي يخلق الخلق أوّلاً في الدنيا ، ويعيدهم أحياء بعد الموت . كذا قال الجمهور . وقيل يبدىء للكفار عذاب الحريق في الدنيا ، ثم يعيده لهم في الآخرة ، واختار هذا ابن جرير ، والأوّل أولى . { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } أي بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه . قال مجاهد الوادّ لأوليائه ، فهو فعول بمعنى فاعل . وقال ابن زيد معنى الودود الرحيم . وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد @ وأركب في الروع عريانة ذلول الجناح لقاحاً ودوداً @@ أي لا ولد لها تحنّ إليه . وقيل الودود بمعنى المودود أي يودّه عباده الصالحون ، ويحبونه ، كذا قال الأزهري . قال ويجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل ، أي يكون محباً لهم . قال وكلتا الصفتين مدح لأنه جلّ ذكره إن أحبّ عباده المطيعين فهو فضل منه ، وإن أحبه عباده العارفون ، فلما تقرّر عندهم من كريم إحسانه . قرأ الجمهور { ذو العرش المجيد } الآية برفع المجيد على أنه نعت لذو ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم قالا لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل ، والله سبحانه هو المنعوت بذلك . وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بالجر على أنه نعت للعرش . وقد وصف سبحانه عرشه بالكرم ، كما في آخر سورة المؤمنون . وقيل هو نعت لربك ، ولا يضرّ الفصل بينهما لأنها صفات لله سبحانه . وقال مكي هو خبر بعد خبر ، والأوّل أولى . ومعنى { ذو العرش } ذو الملك والسلطان ، كما يقال فلان على سرير ملكه ، ومنه قول الشاعر @ رأوا عرشى تثلم جانباه فلما أن تثلم أفردوني @@ وقول الآخر @ إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب @@ وقيل المراد خالق العرش { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } أي من الإبداء والإعادة . قال عطاء لا يعجز عن شيء يريده ، ولا يمتنع منه شيء طلبه ، وارتفاع فعال على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الفراء هو رفع على التكرير والاستئناف لأنه نكرة محضة . قال ابن جرير رفع فعال ، وهو نكرة محضة على وجه الاتباع لإعراب الغفور الودود ، وإنما قال فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة . ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } والجملة مستأنفة مقرّرة لما تقدّم من شدّة بطشه سبحانه ، وكونه فعالاً لما يريده ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها . ثم بيّنهم فقال { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } وهو بدل من الجنود ، والمراد بفرعون هو وقومه ، والمراد بثمود القوم المعروفون ، والمراد بحديثهم ما وقع منهم من الكفر والعناد ، وما وقع عليهم من العذاب ، وقصتهم مشهورة قد تكرّر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع ، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب ، وعند مشركي العرب ، ودلّ بهما على أمثالهما . ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم لمن تقدّم ذكره ، وبيّن أنهم أشدّ منهم في الكفر والتكذيب فقال { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ } أي بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك ، ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار { وَٱللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } أي يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، والإحاطة بالشيء الحصر له من جميع جوانبه ، فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط به على المحيط . ثم ردّ سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ } أي متناه في الشرف والكرم ، والبركة لكونه بياناً لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا ، وليس هو كما يقولون إنه شعر وكهانة وسحر { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } أي مكتوب في لوح ، وهو أمّ الكتاب محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه . قرأ الجمهور محفوظ بالجرّ على أنه نعت للوح ، وقرأ نافع برفعه على أنه نعت للقرآن ، أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح . واتفق القراء على فتح اللام من { لوح } إلا يحيى بن يعمر ، وابن السميفع ، فإنهما قرآ بضمها . قال مقاتل اللوح المحفوظ عن يمين العرش . قيل والمراد باللوح بضم اللام الهواء الذي فوق السماء السابعة . قال أبو الفضل اللوح بضم اللام الهواء ، وكذا قال ابن خالويه . قال في الصحاح اللوح بالضم الهواء بين السماء ، والأرض . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال { ٱلْبُرُوجِ } قصور في السماء . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن { ٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } فقال الكواكب ، وسئل عن قوله { ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً } الفرقان 61 قال " الكواكب " . وعن قوله { فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } النساء 78 قال " القصور " . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ * وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، وهو الحج الأكبر ، فيوم الجمعة جعله الله عيداً لمحمد وأمته ، وفضله بها على الخلق أجمعين وهو سيد الأيام عند الله ، وأحبّ الأعمال فيه إلى الله ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة ، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه " وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة رفعه { وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال " الشاهد " يوم عرفة ويوم الجمعة ، والمشهود هو الموعود يوم القيامة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال اليوم الموعود يوم القيامة ، والمشهود يوم النحر ، والشاهد يوم الجمعة . وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة " وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية " الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة " وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ، وأبي هريرة مثله موقوفاً . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة " وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب . وأخرج ابن ماجه ، والطبراني ، وابن جرير عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة " وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في الآية قال الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن الحسن بن علي أنّ رجلاً سأله عن قوله { وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال هل سألت أحداً قبلي ؟ قال نعم سألت ابن عمر ، وابن الزبير فقالا يوم الذبح ، ويوم الجمعة . قال لا ، ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً } النساء 41 والمشهود يوم القيامة ، ثم قرأ { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } هود 103 . أخرج عبد بن حميد ، والطبراني في الأوسط ، والصغير ، وابن مردويه عن الحسين بن عليّ في الآية قال الشاهد جدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا { إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً } الأحزاب 45 { ذَلِكَ يَوْمُ مَّشْهُودٌ } . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي الدنيا ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } هود 103 . وأخرج ابن جرير عنه قال الشاهد الله ، والمشهود يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال الشاهد الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال الشاهد الله ، والمشهود يوم القيامة . قلت وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى ، وكذلك اختلفت تفاسير التابعين بعدهم ، واستدلّ من استدلّ منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود ، فجعله دليلاً على أنه المراد بالشاهد ، والمشهود في هذه الآية المطلقة ، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد ، والمشهود المذكورين في هذا المقام هو ذلك الشاهد ، والمشهود الذي ذكر في آية أخرى ، وإلا لزم أن يكون قوله هنا { وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز ، أو السنة المطهرة أنه يشهد ، أو أنه مشهود ، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض ، ولم يقل قائل بذلك . فإن قلت هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة ، وحديث أبي مالك ، وحديث جبير بن مطعم ، ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود ، والشاهد والمشهود ؟ قلت أما اليوم الموعود ، فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها ، بل اتفقت على أنه يوم القيامة ، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم الجمعة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ، ويوم الجمعة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم الجمعة ، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة ، وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة ، فاتفقت هذه الأحاديث عليه ، ولا تضرّ زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم عرفة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة ، وفي حديث جبير بن مطعم أنه يوم عرفة ، وكذا في حديث سعيد ، فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة ، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة ، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، وأما اليوم الموعود ، فقد قدّمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم ، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن انظروا لي غلاماً فهماً أو قال فطناً لقناً ، فأعلمه علمي ، فإني أخاف أن أموت ، فينقطع منكم هذا العلم ، ولا يكون فيكم من يعلمه ، قال فنظروا له على ما وصف ، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن ، وأن يختلف إليه ، فجعل الغلام يختلف إليه ، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة ، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مرّ به ، فلم يزل به حتى أخبره ، فقال إنما أعبد الله ، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ، ويبطىء على الكاهن ، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك ، فقال له الراهب إذا قال لك أين كنت ؟ فقل عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك أين كنت ؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن ، فبينما الغلام على ذلك إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة ، يقال إنها كانت أسداً ، فأخذ الغلام حجراً فقال اللَّهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقاً ، فأسألك أن أقتل هذه الدابة ، وإن كان ما يقول الكاهن حقاً ، فأسألك أن لا أقتلها ، ثم رمى فقتل الدابة ، فقال الناس من قتلها ؟ فقالوا الغلام ، ففزع الناس ، وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى ، فجاءه ، فقال له إن أنت رددت عليّ بصري ، فلك كذا ، وكذا ، فقال الغلام لا أريد منك هذا ، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي ردَّه عليك ؟ قال نعم ، فدعا الله ، فردّ عليه بصره ، فآمن الأعمى ، فبلغ الملك أمرهم ، فبعث إليهم ، فأتى بهم ، فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه ، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى ، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله ، وقتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام ، فقال انطلقوا به إلى جبل كذا ، وكذا ، فألقوه من رأسه ، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل ، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ، ويتردّون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ، ثم رجع الغلام ، فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر ، فيلقوه فيه ، فانطلقوا به إلى البحر ، فغرّق الله الذين كانوا معه ، وأنجاه ، فقال الغلام للملك إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني ، وتقول إذا رميتني بسم الله ربّ الغلام ، فأمر به فصلب ، ثم رماه ، وقال بسم الله ربّ الغلام ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ، ثم مات ، فقال الناس لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد ، فإنا نؤمن بربّ هذا الغلام ، فقيل للملك أجزعت أن خالفك ثلاثة ، فهذا العالم كلهم قد خالفوك ، قال فخدّ أخدوداً ، ثم ألقي فيه الحطب والنار ، ثم جمع الناس ، فقال من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار ، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود ، فقال يقول الله { قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلأَخْدُودِ * ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } - حتى بلغ - { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } . فأما الغلام ، فإنه دفن ، ثم أخرج ، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب ، وأصبعه على صدغه ، كما وضعها حين قتل " ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف . وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمٰن بن أبي ليلى عن صهيب . وأخرجها أحمد من طريق عفان عن حماد به . وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به . وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان ، وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله { أَصْحَـٰبُ ٱلأَخْدُودِ } قال هم الحبشة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدوداً في الأرض أوقدوا فيه ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ، فعرضوا عليها . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } إلى قوله { وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال هذا قسم على { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } إلى آخرها . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } قال يبديء العذاب ، ويعيده . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات عن ابن عباس في قوله { ٱلْوَدُودُ } قال الحبيب ، وفي قوله { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } قال الكريم . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } قال أخبرت أنه لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر ، وإن ذلك اللوح من نور ، وإنه مسيرة ثلثمائة سنة . وأخرج ابن جرير عن أنس قال إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في قوله { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } في جبهة إسرافيل . وأخرج أبو الشيخ ، قال السيوطي بسند جيد عن ابن عباس قال خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق اكتب علمي في خلقي ، فجرى ما هو كائن إلى يوم القيامة .