Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 86, Ayat: 1-17)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقسم سبحانه بالسماء والطارق ، وهو النجم الثاقب ، كما صرّح به التنزيل . قال الواحدي قال المفسرون أقسم الله بالسماء والطارق ، يعني الكواكب تطرق بالليل ، وتخفى بالنهار . قال الفرّاء الطارق النجم لأنه يطلع بالليل ، وما أتاك ليلاً فهو طارق . وكذا قال الزجاج ، والمبرد ومنه قول امرىء القيس @ ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول @@ وقوله أيضاً @ ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيباً وإن لم تطيب @@ وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين ، أو جنس النجم ؟ فقيل هو زحل . وقيل الثريا . وقيل هو الذي ترمى به الشياطين . وقيل هو جنس النجم . قال في الصحاح { والطارق } النجم الذي يقال له كوكب الصبح ، ومنه قول هند بنت عتبة @ نحن بنات طارق نمشي على النمارق @@ أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء ، وأصل الطروق الدقّ ، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق . وقال قوم إن الطروق قد يكون نهاراً ، والعرب تقول أتيتك اليوم طرقتين أي مرتين ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار إلاَّ طارقاً يطرق بخير " ثم بيّن سبحانه ما هو الطارق ، تفخيماً لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ * ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } الثاقب المضيء ، ومنه يقال ثقب النجم ثقوباً ، وثقابة إذا أضاء ، وثقوبه ضوؤه ، ومنه قول الشاعر @ أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب @@ قال الواحدي الطارق يقع على كل ما طرق ليلاً ، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } قال مجاهد الثاقب المتوهج . قال سفيان كل ما في القرآن { وَمَا أَدْرَاكَ } ، فقد أخبره ، وكل شيء قال { وَمَا يُدْرِيكَ } لم يخبره به ، وارتفاع قوله { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله ، كأنه قيل ما هو ؟ فقيل هو النجم الثاقب . { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } هذا جواب القسم ، وما بينهما اعتراض ، وقد تقدّم في سورة هود اختلاف القرّاء في " لما " ، فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدّر ، وهو اسمها ، واللام هي الفارقة ، وما مزيدة ، أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ ، ومن قرأ بالتشديد ، فإن نافية ، ولما بمعنى إلا ، أي ما كل نفس إلاّ عليها حافظ ، وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة . وقرأ الباقون بالتخفيف . قيل والحافظ هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها ، وقولها وفعلها ، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ وقيل الحافظ هو الله عزّ وجلّ . وقيل هو العقل يرشدهم إلى المصالح ، ويكفهم عن المفاسد ، والأوّل أولى لقوله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ } الانفطار 10 وقوله { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } الأنعام 61 وقوله { لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ } الرعد 11 والحافظ على الحقيقة هو الله عزّ وجلّ ، كما في قوله { فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَـٰفِظًا } يوسف 64 وحفظ الملائكة من حفظه لأنهم بأمره . { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ } الفاء للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث . قال مقاتل يعني المكذب بالبعث { مِمَّ خُلِقَ } من أي شيء خلقه الله ، والمعنى فلينظر نظر التفكر ، والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته . ثم بيّن سبحانه ذلك فقال { خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والماء هو المنيّ ، والدفق الصب ، يقال دفقت الماء ، أي صببته ، يقال ماء دافق أي مدفوق ، مثل { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } القارعة 7 أي مرضية . قال الفرّاء ، والأخفش { ماء دافق } ، أي مصبوب في الرحم . قال الفرّاء وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم سرّ كاتم أي مكتوم ، وهمّ ناصب أي منصوب ، وليل نائم ، ونحو ذلك . قال الزجاج من ماء ذي اندفاق ، يقال دارع ، وقايس ، ونابل أي ذو درع ، وقوس ، ونبل ، وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماء واحداً لامتزاجهما . ثم وصف هذا الماء ، فقال { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَائِبِ } أي صلب الرجل ، وترائب المرأة ، والترائب جمع تريبة ، وهي موضع القلادة من الصدر ، والولد لا يكون إلا من الماءين . قرأ الجمهور { يخرج } مبنياً للفاعل . وقرأ ابن أبي عبلة ، وابن مقسم مبنياً للمفعول ، وفي الصلب وهو الظهر لغات . قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام ، وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام . وقرأ اليماني بفتحهما . ويقال صالب على وزن قالب ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب @ تنقل من صلب إلى رحم @@ في أبياته المشهورة في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد تقدّم كلام في هذا عند تفسير قوله { ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ } النساء 23 وقيل الترائب ما بين الثديين . وقال الضحاك ترائب المرأة اليدين ، والرجلين ، والعينين . وقال سعيد بن جبير هي الجيد . وقال مجاهد هي ما بين المنكبين والصدر . وروي عنه أيضاً أنه قال هي الصدر . وروي عنه أيضاً أنه قال هي التراقي . وحكى الزجاج أن الترائب عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر ، والنحر ، ومنه قول دريد بن الصمة @ فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب @@ قال عكرمة الترائب الصدر ، وأنشد @ نظام درّ على ترائبها @@ قال في الصحاح التريبة واحدة الترائب . وهي عظام الصدر . قال أبو عبيدة جمع التريبة تريب ، ومنه قول المثقب العبدي @ ومن ذهب يبين على تريب كلون العاج ليس بذي غضون @@ وقول امرىء القيس @ ترائبها مصقولة كالسجنجل @@ وحكى الزجاج أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر ، وأربع أضلاع من يسرة الصدر . قال قتادة ، والحسن المعنى ، ويخرج من صلب الرجل ، وترائب المرأة . وحكى الفرّاء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون معنى { من بين الصلب } . من الصلب . وقيل إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب . وقيل إن المعنى يخرج من جميع أجزاء البدن ، ولا يخالف هذا ما في الآية لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب ، باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب والترائب ، وما يجاورها ، وما فوقها مما يكون تنزله منها { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } الضمير في { إنه } يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله { خُلِقَ } عليه ، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه ، والضمير في { رجعه } عائد إلى الإنسان . والمعنى أن الله سبحانه على رجع الإنسان ، أي إعادته بالبعث بعد الموت { لَقَادِرٌ } هكذا قال جماعة من المفسرين وقال مجاهد على أن يردّ الماء في الإحليل . وقال عكرمة ، والضحاك على أن يردّ الماء في الصلب . وقال مقاتل بن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة . وقال ابن زيد إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر . والأوّل أظهر ، ورجحه ابن جرير ، والثعلبي ، والقرطبي . { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَائِرُ } العامل في الظرف على التفسير الأوّل ، هو { رجعه } . وقيل { لقادر } . واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم ، وقيل العامل فيه مقدّر أي يرجعه يوم تبلى السرائر ، وقيل العامل فيه مقدّر ، وهو اذكر ، فيكون مفعولاً به ، وأما على قول من قال إن المراد رجع الماء ، فالعامل في الظرف مقدّر ، وهو اذكر ، ومعنى { تبلى السرائر } تختبر ، وتعرف ، ومنه قول الراجز @ قد كنت قبل اليوم تزدريني فاليوم أبلوك وتبتليني @@ أي أختبرك وتختبرني ، وأمتحنك وتمتحنني ، والسرائر ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات ، وغيرها ، والمراد هنا عرض الأعمال ، ونشر الصحف ، فعند ذلك يتميز الحسن منها من القبيح ، والغثّ من السمين { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } أي فما للإنسان من قوّة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ، ولا ناصر ينصره مما نزل به ، وقال عكرمة هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوّة ولا ناصر . قال سفيان القوة العشيرة ، والناصر الحليف ، والأوّل أولى . { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } الرجع المطر . قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر . قال الخليل الرجع المطر نفسه ، والرجع نبات الربيع . قال أهل اللغة الرجع المطر . قال المتنخل يصف سيفاً له @ أبيض كالرجع رسوب إذا ما باح في محتفل يختلي @@ قال الواحدي الرجع المطر في قول جميع المفسرين ، وفي هذا الذي حكاه عن جميع المفسرين نظر ، فإن ابن زيد قال الرجع الشمس ، والقمر ، والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية ، وتغيب في أخرى . وقال بعض المفسرين { ذات الرجع } ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد . وقال بعضهم معنى ذات الرجع ذات النفع ، ووجه تسمية المطر رجعاً ما قاله القفال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت ، وهو إعادته ، وكذا المطر لكونه يعود مرّة بعد أخرى سمي رجعاً . وقيل إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض . وقيل سمته العرب رجعاً لأجل التفاؤل ليرجع عليهم . وقيل لأن الله يرجعه وقتاً بعد وقت . { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، والثمار والشجر . والصدع الشقّ لأنه يصدع الأرض ، فتنصدع له . قال أبو عبيدة ، والفرّاء تتصدّع بالنبات . قال مجاهد والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه . وقيل ذات الحرث لأنه يصدعها . وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث . والحاصل أن الصدع إن كان اسماً للنبات فكأنه قال والأرض ذات النبات وإن كان المراد به الشق ، فكأنه قال والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه ، وجواب القسم قوله { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي إن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } أي لم ينزل باللعب ، فهو جدّ ليس بالهزل ، والهزل ضدّ الجدّ . قال الكميت @ تجدّ بنا في كل يوم وتهزل @@ { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } أي يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحق . قال الزجاج يخاتلون النبيّ ، ويظهرون ما هم على خلافه . { وَأَكِيدُ كَيْداً } أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأجازيهم جزاء كيدهم . قيل هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر { فَمَهّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي أخرهم ، ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم ، وارض بما يدبره لك في أمورهم ، وقوله { أَمْهِلْهُمْ } بدل من مهل ، ومهل وأمهل بمعنى مثل نزل وأنزل ، والإمهال الإنظار ، وتمهل في الأمر ، اتأد ، وانتصاب { رُوَيْداً } على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي أمهلهم إمهالاً رويداً أي قريباً أو قليلاً . قال أبو عبيدة والرويد في كلام العرب تصغيراً الرود ، وأنشد @ كأنها تمشي على رود @@ أي على مهل . وقيل تصغير أرواد مصدر رود تصغير الترخيم ، ويأتي اسم فعل نحو رويد زيداً ، أي أمهله ، ويأتي حالاً نحو سار القوم رويداً ، أي متمهلين ، ذكر معنى هذا الجوهريّ ، والبحث مستوفى في علم النحو . وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله { وَٱلسَّمَاء وَٱلطَّارِقِ } قال أقسم ربك بالطارق وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } قال كل نفس عليها حفظة من الملائكة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } قال النجم المضيء { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } قال إلاّ عليها حافظ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَائِبِ } قال ما بين الجيد والنحر . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال تريبة المرأة ، وهي موضع القلادة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال الترائب بين ثديي المرأة . وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً قال الترائب أربعة أضلاع من كلّ جانب من أسفل الأضلاع . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } قال على أن يجعل الشيخ شاباً ، والشابّ شيخاً . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } قال المطر بعد المطر { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } قال صدعها عن النبات . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } تصدّع الأودية . وأخرج ابن منده ، والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعاً { وَٱلاَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } قال تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } قال حقّ ، { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } قال بالباطل ، وفي قوله { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } قال قريباً .