Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 1-14)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أقسم سبحانه بهذه الأشياء ، كما أقسم بغيرها من مخلوقاته . واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا فقيل هو الوقت المعروف . وسمي فجراً لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم . وقال قتادة إنه فجر أوّل يوم من شهر محرّم ، لأن منه تتفجر السنة . وقال مجاهد يريد يوم النحر . وقال الضحاك فجر ذي الحجة لأن الله قرن الأيام به فقال { وَلَيالٍ عَشْرٍ } أي ليالي عشر من ذي الحجة . وبه قال السديّ ، والكلبي . وقيل المعنى وصلاة الفجر ، أو ربّ الفجر . والأوّل أولى ، وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } كذا قال ابن الأنباري . وقيل محذوف لدلالة السياق عليه ، أي ليجازينّ كل أحد بما عمل ، أو ليعذبن ، وقدّره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله ، أي { والفجر … } إلخ لإيابهم إلينا ، وحسابهم علينا ، وهذا ضعيف جدّاً ، وأضعف منه قول من قال إن الجواب قوله { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } . وأن هل بمعنى قد لأن هذا لا يصح أن يكون مقسماً عليه أبداً . { وَلَيالٍ عَشْرٍ } هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين . وقال الضحاك إنها الأواخر من رمضان . وقيل العشر الأوّل من المحرّم إلى عاشرها يوم عاشوراء . قرأ الجمهور ليال بالتنوين ، وعشر صفة لها . وقرأ ابن عباس وليالي عشر بالإضافة . قيل والمراد ليالي أيام عشر ، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة لأن المعدود مذكر . وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان . { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } الشفع والوتر يعمان كل الأشياء شفعها ووترها ، وقيل شفع الليالي ووترها . وقال قتادة الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها . منها شفع ، ومنها وتر . وقيل الشفع يوم عرفة ويوم النحر ، والوتر ليلة يوم النحر . وقال مجاهد ، وعطية العوفي الشفع الخلق ، والوتر الله الواحد الصمد ، وبه قال محمد بن سيرين ، ومسروق ، وأبو صالح ، وقتادة . وقال الربيع بن أنس ، وأبو العالية هي صلاة المغرب فيها ركعتان ، والوتر الركعة . وقال الضحاك الشفع عشر ذي الحجة ، والوتر أيام منى الثلاثة ، وبه قال عطاء . وقيل هما آدم وحواء لأن آدم كان وتراً فشفع بحوّاء . وقيل الشفع درجات الجنة وهي ثمان ، والوتر دركات النار وهي سبع ، وبه قال الحسين بن الفضل . وقيل الشفع الصفا والمروة ، والوتر الكعبة . وقال مقاتل الشفع الأيام والليالي ، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده ، وهو يوم القيامة وقال سفيان بن عيينة الوتر هو الله سبحانه ، وهو الشفع أيضاً لقوله { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ … } المجادلة 7 الآية . وقال الحسن المراد بالشفع والوتر العدد كله لأن العدد لا يخلو عنهما . وقيل الشفع مسجد مكة والمدينة ، والوتر مسجد بيت المقدس . وقيل الشفع حجج القرآن ، والوتر الإفراد . وقيل الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى ، والوتر الجماد . وقيل الشفع ما سمي ، والوتر ما لا يسمى . ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين ، والضعف الظاهر ، والاتكال في التعيين على مجرّد الرأي الزائف ، والخاطر الخاطىء . والذي ينبغي التعويل عليه ، ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب ، وهما معروفان واضحان ، فالشفع عند العرب الزوج ، والوتر الفرد . فالمراد بالآية إما نفس العدد ، أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر . وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية ، فإن كان الدليل يدلّ على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك ، وإن كان الدليل يدلّ على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعاً من تناولها لغيره . قرأ الجمهور { والوتر } بفتح الواو . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بكسرها ، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه ، وهما لغتان ، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز ، والكسر لغة تميم . قال الأصمعي كلّ فرد وتر ، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد . وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو ، وكسر التاء ، فيحتمل أن تكون لغة ثالثة ، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف . { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قرأ الجمهور { يسر } بحذف الياء وصلاً ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بحذفها في الوقف ، وإثباتها في الوصل . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف . قال الخليل تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي . قال الزجاج والحذف أحب إليّ لأنها فاصلة ، والفواصل تحذف منها الياآت . قال الفرّاء قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها ، وأنشد بعضهم @ كفاك كفّ ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف دما @@ ما تليق ، أي ما تمسك . قال المؤرج سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يسر فقال لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة ، فبتّ على باب داره سنة ، فقال الليل لا يسري ، وإنما يسرى فيه ، فهو مصروف عن جهته ، وكلّ ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ، ألا ترى إلى قوله { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } مريم 28 ولم يقل بغية لأنه صرفها من باغية . وفي كلام الأخفش هذا نظر ، فإن صرف الشيء عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه ، ولو صحّ ذلك للزم في كلّ المجازات العقلية واللفظية ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ، والأصل ههنا إثبات الياء لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ، ولم تحذف لعلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف ، وموافقة رءوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي . ومعنى { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } إذا يمضي ، كقوله { وَٱلَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } المدثر 33 { وَٱلَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } التكوير 17 وقيل معنى يسر يسار فيه ، كما يقال ليل نائم ، ونهار صائم ، كما في قول الشاعر @ لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ونمت وما ليل المطيّ بنائم @@ وبهذا قال الأخفش ، والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني ، وبالأوّل قال جمهور المفسرين . وقال قتادة ، وأبو العالية { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } أي جاء وأقبل . وقال النخعي ، أي استوى . قال عكرمة ، وقتادة ، والكلبي ، ومحمد بن كعب هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه . وقيل ليلة القدر لسراية الرحمة فيها . والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى . { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم سبحانه به ، وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى تلك الأمور ، والتذكير بتأويل المذكور ، أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قسم ، أي مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار . { لّذِى حِجْرٍ } أي عقل ولبّ . فمن كان ذا عقل ولبّ علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به ، ومثل هذا قوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } الواقعة 76 قال الحسن { لّذِى حِجْرٍ } أي لذي حلم . وقال أبو مالك لذي ستر من الناس . وقال الجمهور الحجر العقل . قال الفرّاء الكلّ يرجع إلى معنى واحد ، لذي عقل ، ولذي حلم ، ولذي ستر ، الكلّ بمعنى العقل . وأصل الحجر المنع ، يقال لمن ملك نفسه ومنعها إنه لذو حجر ، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ، ومنه حجر الحاكم على فلان ، أي منعه . قال ، والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها . ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم ، وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيراً للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم وتخويفاً لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } قرأ الجمهور بتنوين { عاد } على أن يكون { إرم } عطف بيان لعاد ، والمراد بعاد اسم أبيهم . وإرم اسم القبيلة ، أو بدلاً منه . وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث . وقيل المراد بعاد أولاد عاد ، وهم عاد الأولى ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى ، فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل ، للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى ، ولا بدّ من تقدير مضاف على كلا القولين ، أي أهل إرم ، أو سبط إرم ؟ فإن إرم هو جدّ عاد لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح . وقرأ الحسن ، وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم . وقرأ الجمهور { إرم } بكسر الهمزة . وفتح الراء ، والميم . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك { أرم } بفتح الهمزة ، والراء . وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفاً ، وقرىء بإضافة إرم إلى ذات العماد . قال مجاهد من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام . واحدها أرم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي والفجر وكذا ، وكذا { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } . { ألم تر } أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد ، وهذه الرؤية رؤية القلب ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح له ، وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب لأن ديارهم متصلة بديار العرب ، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون . وقال مجاهد أيضاً إرم أمة من الأمم ، وقال قتادة هي قبيلة من عاد . وقيل هما عادان ، فالأولى هي إرم ، ومنه قول قيس بن الرقيات @ مجداً تليداً بناه أوّلهم أدرك عاداً وقبله إرم @@ قال معمر إرم إليه مجتمع عاد وثمود ، وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود ، وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم ، قال أبو عبيدة هما عادان ، فالأولى إرم . ومعنى { ذات العماد } ذات القوّة والشدّة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، كذا قال الضحاك . وقال قتادة ، ومجاهد إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم . وقال مقاتل ذات العماد يعني طولهم ، كان طول الرجل منهم اثني عشرة ذراعاً . ويقال رجل طويل العماد ، أي القامة . قال أبو عبيدة ذات العماد ذات الطول ، يقال رجل معمد إذا كان طويلاً . وقال مجاهد ، وقتادة أيضاً كان عماداً لقومهم ، يقال فلان عميد القوم وعمودهم ، أي سيدهم . وقال ابن زيد ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد . قال في الصحاح والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث ، قال عمرو بن كلثوم @ ونحن إذا عماد الحيّ خرّت على الإخفاض نمنع من يلينا @@ وقال عكرمة ، وسعيد المقبري هي دمشق ، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك . وقال محمد بن كعب هي الإسكندرية . { ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ } هذه صفة لعاد أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدّة والقوّة ، وهم الذين قالوا { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } فصلت 15 أو صفة للقرية على قول من قال إن إرم اسم لقريتهم ، أو للأرض التي كانوا فيها . والأوّل أولى ، ويدل عليه قراءة أبيّ التي لم يخلق مثلهم في البلاد وقيل الإرم الهلاك . قال الضحاك { إرم ذات العماد } أي أهلكهم فجعلهم رميماً ، وبه قال شهر بن حوشب . وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها ، وبساتينها ، وإن حصباءها جواهر ، وترابها مسك ، وليس بها أنيس ، ولا فيها ساكن من بني آدم ، وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع ، فتارة تكون باليمن ، وتارة تكون بالشام ، وتارة تكون بالعراق ، وتارة تكون بسائر البلاد ، وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تميز . وزاد الثعلبي في تفسيره فقال إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة ، وهذا كذب على كذب ، وافتراء على افتراء ، وقد أصيب الإسلام ، وأهله بداهية دهياء ، وفاقرة عظمى ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب ، تارة على بني إسرائيل ، وتارة على الأنبياء ، وتارة على الصالحين ، وتارة على ربّ العالمين ، وتضاعف هذا الشرّ ، وزاد كثرة بتصدّر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف ، والتفسير للكتاب العزيز ، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة ، والأقاصيص المنحولة ، والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه ، فحرّفوا ، وغيروا ، وبدّلوا . ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا ، فلينظر في كتابي الذي سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة . ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة ، وهي ثمود على قبيلة عاد فقال { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } وهم قوم صالح سموا باسم جدّهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . ومعنى { جابوا الصخر } قطعوه . والجوب القطع ، ومنه جاب البلاد إذا قطعها ، ومنه سمي جيب القميص لأنه جيب ، أي قطع . قال المفسرون أوّل من نحت الجبال والصخور ثمود ، فبنوا من المدائن ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، ومنه قوله سبحانه { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فارهين } الشعراء 149 وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتاً يسكنون فيها . وقوله { بِٱلْوَادِ } متعلق بـ { جابوا } ، أو بمحذوف على أنه حال من الصخر ، وهو وادي القرى . قرأ الجمهور { ثمود } بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة ، ففيه التأنيث والتعريف . وقرأ يحيـى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيها . وقرأ الجمهور أيضاً بالواد بحذف الياء وصلاً ، ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف . وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما . وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها في الوصل دون الوقف . { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } أي ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدّونها بالأوتاد ، أو جعل الجنود أنفسهم أوتاداً لأنهم يشدّون الملك ، كما تشد الأوتاد الخيام . وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدّهم إليها . وقد تقدّم بيان هذا في سورة صۤ . { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ } الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون ، أي طغت كل طائفة منهم في بلادهم ، وتمرّدت ، وعتت ، والطغيان مجاوزة الحدّ . { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } بالكفر ، ومعاصي الله ، والجور على عباده ، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين طغوا ، أو في محل نصب على الذم . { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب ، وهو ما عذبهم به . قال الزجاج جعل صوته الذي ضربهم به العذاب ، يقال صبّ على فلان خلعة ، أي ألقاها عليه ، ومنه قول النابغة @ فصبّ الله عليه أحسن صبغة وكان له بين البرية ناصر @@ ومنه قول الآخر @ ألم تر أن الله أظهر دينه وصبّ على الكفار سوط عذاب @@ ومعنى { سوط عذاب } نصيب عذاب ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعدّه لهم في الآخرة كالسوط ، إذا قيس إلى سائر ما يعذب به . وقيل ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم ، وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به . قال الفرّاء هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به ، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية العذاب . وقيل معناه عذاب يخالط اللحم والدم ، من قولهم ساطه يسوطه سوطاً ، أي خلطه ، فالسوط خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه قول كعب بن زهير @ لكن خلة قد سيط من دمها فجع وولع وإخلاف وتبديل @@ وقال الآخر @ أحارث إنا لو تساط دماؤنا تزايلن حتى لا يمسّ دم دما @@ وقال آخر @ فسطها ذميم الرأي غير موفق فلست على تسويطها بمعان @@ { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } قد قدّمنا قول من قال إن هذا جواب القسم ، والأولى أن الجواب محذوف ، وهذه الجملة تعليل لما قبلها ، وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى الله عليه وسلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار ، ومعنى بالمرصاد أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيراً ، وبالشرّ شرّاً . قال الحسن ، وعكرمة ، أي عليه طريق العباد لا يفوته أحد ، والرصد والمرصاد الطريق . وقد تقدّم بيانه في سورة براءة ، وتقدّم أيضاً عند قوله { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } النبأ 21 . وقد أخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { وَٱلْفَجْرِ } قال فجر النهار . وأخرج ابن جرير عنه قال يعني صلاة الفجر . وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في الشعب ، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله { وَٱلْفَجْرِ } قال هو المحرّم فجر السنة ، وقد ورد في فضل صوم شهر محرّم أحاديث صحيحة ، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية لا مطابقة ، ولا تضمناً ، ولا التزاماً . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } قال " إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر " وفي لفظ " هي ليالي من ذي الحجة " وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمٰن فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة ، فقال أبو سلمة أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن ؟ فقال ابن عمر وما يدريك ؟ قال ما أشك ، قال بلى ، فاشكك . وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث ، وليس فيها ما يدلّ على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَلَيالٍ عَشْرٍ } قال هي العشر الأواخر من رمضان . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه عن عمران بن حصين ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر ، فقال " هي الصلاة بعضها شفع ، وبعضها وتر " وفي إسناده رجل مجهول ، وهو الراوي له عن عمران بن حصين . وقد روي عن عمران بن عصام على عمران بن حصين بإسقاط الرجل المجهول . وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الذي فيه الرجل المجهول هو حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديث قتادة . قال ابن كثير وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم . قال ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر . وقد أخرج هذا الحديث موقوفاً على عمران بن حصين عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، فهذا يقوّي ما قاله ابن كثير . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله { وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ } فقال كل شيء شفع ، فهو اثنان ، والوتر واحد . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أيوب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشفع والوتر فقال " يومان وليلة ، يوم عرفة ، ويوم النحر ، والوتر ليلة النحر ليلة جمع " وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الشفع يومان ، والوتر اليوم الثالث " وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال الشفع قول الله { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } البقرة 203 والوتر اليوم الثالث . وفي لفظ الوتر أوسط أيام التشريق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة . وأخرج ابن جرير عنه { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال إذا ذهب . وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ { وَٱلْفَجْرِ } إلى قوله { إِذَا يَسْرِ } ، قال هذا قسم على إن ربك بالمرصاد . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله { قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } قال لذي حجى وعقل ونهي . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { بِعَادٍ * إِرَمَ } قال يعني بالإرم الهالك ، ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } يعني طولهم مثل العماد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر { إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } فقال " كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة ، فيحملها على كاهله ، فيلقيها على أيّ حيّ أراد فيهلكهم " ، وفي إسناده رجل مجهول لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدّثه عن المقدام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } قال خرقوها . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً . { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } قال الأوتاد الجنود الذين يشدّون له أمره . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله { ذِى ٱلأَوْتَادِ } قال وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } قال يسمع ويرى . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } قال من وراء الصراط جسور جسر عليه الأمانة ، وجسر عليه الرحم ، وجسر عليه الربّ عزّ وجلّ .