Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 105, Ayat: 1-1)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وذلك أنَّ فئةً من قريشٍ خرَجُوا تُجَّاراً إلى أرضِ النجاشيِّ ، فسَارُوا حتى دَنَوا من ساحلِ البحرِ ، ثم نزَلوا بحضرةِ بيتٍ ، وكان ذلك البيتُ مُصلَّى للنجاشيِّ وقومهِ من النَّصارى ، فأجَّجُوا ناراً استعمَلُوها لبعضِ ما احتاجوا إليه ، ثم رحَلُوا ولم يُطفِئوا تلك النار ، وكان ذلك في يومٍ عاصف ، فهاجَتِ الريحُ فاحترقَ البيتُ الذي كان مُصلَّى للنجاشيِّ ، وكانوا يعظِّمون ذلك البيتَ كتعظيمِ العرب الكعبةَ ، فقَصدُوا بذلك السبب مكَّة عازمين على تحريقِ بيتِ الله تعالى ، ويستبيحُوا أهلَ مكَّة . فبعثَ النجاشيُّ أبرهةَ ، فخرج أبرهةُ في سائرِ الحبشة ، وخرجَ معه بالفيلِ ، فسَمعتْ بذلك العربُ ، فأعظَموهُ ورأوا جهادَهُ حقّاً عليهم حين سَمعوا أنه يريدُ هدمَ الكعبةِ ، فخرجَ إليه ملِك من مُلوك حِميَرَ يقالُ له ذو نَفَرْ ، فدعَا قومَهُ ومن أجابَهُ من العرب إلى حرب أبرهةَ وجهادهِ ، فأجابَهُ من أجابَهُ فقاتلَهُ ، فهُزِمَ ذو نفَرٍ وأصحابهُ ، وأُخِذ ذُو نفر أسيراً ، فلما أرادَ أبرهةُ أن يقتلَهُ قال له ذو نفر : لا تَقتُلني فإنِّي عسَى أن يكون بقائِي معكَ خيراً لكَ من قتلِي ، فتركَهُ من القتلِ وحبسَهُ معه في وثاقٍ ، وكان أبرهةُ رجُلاً حَليماً . ثم مضَى أبرهةُ على وجههِ للذي يريدُ ، حتى إذا كان بأرضِ خَثْعَمَ عرضَ له نُفيل بن حبيبٍ الخثعميُّ فقاتلَهُ فهزمَهُ أبرهةُ ، وأُخِذ نُفيل أسيراً وأُتِيَ به إلى أبرهةَ ، فلما هَمَّ بقتلهِ قال له : لا تقتُلنِي فإنِّي دليلُكَ في أرضِ العرب ، فخَلَّى سبيلَهُ ، وخرجَ معه يدُلُّهُ . حتى إذا مرَّ بالطائفِ خرجَ إليه مسعودُ الثقفيُّ في رجالٍ من ثقيفٍ ، فقالوا له : أيُّها الملكُ ؛ إنما نحن عبيدُكَ سامِعون لك مطيعون ، ليس لنا عندَكَ خلافٌ ، وليس بينَنا هذا الذي تريدُ هدمَهُ - يعنون اللاَّتَ - إنما تريدُ البيتَ الذي بمكَّة ، ونحنُ نبعث معكَ مَنْ يدلُّكَ عليه ، فتجاوزَ عنهم ، واللاتُ بيتٌ لَهم بالطائفِ كانوا يعظِّمونه نحو تعظيمِهم الكعبةَ . قال ابنُ اسحاق : فبَعَثُوا معه أبَا رغالٍ يدلُّه على الطريقِ إلى مكَّة ، فخرجَ أبرهَةُ ومعه أبو رغَالَ ، فهنالِكَ رجَمتِ العربُ قَبْرَهُ ، فهو القبرُ الذي يُرجم بالْمَغْمَسِ ، فلما نزلَ أبرهةُ بالمغمسِ بعثَ رجلاً من الحبشةِ يقال له : الأسودُ بن مقصودٍ ، على خيلٍ له حتى انتهى إلى مكَّة ، فسَاقَ إليه أموالَ أهلِ يَمامة من قريشٍ وغيرِهم ، وأصابَ فيها مِائتي بعيرٍ لعبدِ المطَّلب بن هاشمِ ، وهو يومئذٍ كبيرُ قريش وسيِّدُها ، فهَمَّت قريشُ وكِنانَةُ وهُذيل ومَن كان بذلك الحرمِ أن يُقاتِلُوه ، ثم عرَفُوا أنه لا طاقةَ لهم به فترَكُوا ذلك . وبعثَ أبرهةُ حناطةَ الْحِمْيَرِي إلى مكَّة وقال له : سَلْ عن سيِّد هذا البلدِ وشريفِهم ، وقل له : إنِّي لم آتِ لحربكم ، إنما جئتُ لهدمِ هذا البيتِ ، فإن لم تعرُضوا دونَهُ بحربٍ فلا حاجةَ لي بدمائِكم ، فإنْ هو لم يُرِدْ حَربي فأتِني به . فلمَّا دخلَ حناطةُ مكَّة سألَ عن سيِّد قريشٍ وشريفِها ، فقيل له : عبدُ المطَّلب بن هاشمٍ ، فجاءَهُ فقال له ما أمَرهُ أبرهةُ ، فقال له عبدُ المطَّلب : ما لنا به من طاقةٍ ولا نريدُ حربَهُ ، ولكن هذا بيتُ الله وبيتُ خَليلهِ إبراهيمَ ، فإن لم يمنعْهُ منه فهو بيتهُ وحَرمهُ ، وإنْ لم يَحُلْ بينه وبينهُ ، فَوالله ما عندَنا دفعٌ عنه . فقالَ له حناطةُ : انطلِقْ معي إليه ، فإنه قد أمَرنِي أن آتيَهُ بكَ . فانطلقَ معه عبدُ المطلب حتى أتَى المعسكرَ ، فسألَ عن ذي نَفرٍ وكان له صَديقاً حتى دخلَ عليه وهو في مجلسهِ ، فقال : يا ذا نفر ، هل عندَكَ من غِنًى فيما نزلَ بنا ، فقالَ : وما غِنَى رجلٍ أسيرٍ بيد ملكٍ ينتظرُ أن يقتلَهُ غُدُوّاً أو عشِيّاً ، ما عندي من غِنًى في شِيءٍ إلاّ أنَّ أنَيساً سائسَ الفيلِ صديقٌ لي ، فسأُرسِلُ إليه وأُوصِيه بكَ ، وأُعَظِّمُ عليه حقَّكَ ، وأسألهُ أن يستأذن لكَ الملكَ ، ويكلِّمُه بما يُدنِيكَ إليه ، ويشفعُ لكَ عندَهُ بخيرٍ إنْ قَدِرَ على ذلك ، فقالَ : افْعَلْ . فبعثَ ذُو نَفْرٍ إلى أنيس فقالَ له : إنَّ عبدَ المطلب سيدُ قريشٍ وصاحبُ عِيرِ مكَّة ، يطعمُ الناسَ بالسهلِ ، والوحشَ في رؤوسِ الجبالِ ، وقد أخذ له الملكُ مِائَتي بعيرٍ ، فاستأذِنْ له عليهِ واشفع لهُ عنده بما استطعتَ . فكَّلَم أنَيس أبرهةَ فقال : أيُّها الملكُ هذا سيِّدُ قُريشٍ ببَابكَ يستأذنُ عليكَ ، وهو رجلٌ يُطعِمُ الناسَ بالسهلِ ، والوحشَ في رؤوسِ الجبال ، فأْذنْ له حتى يدخُلَ عليكَ فيكلِّمَكَ في حاجتهِ . فأَذِنَ لهُ أبرهةُ ، وكان عبدُ المطلب من أوسَمِ الناسِ وأجملِهم ، فلما رآهُ أبرهة أجَلَّهُ وأكرمَهُ عن أن يُجلِسَهُ تحتَهُ ، وكرِهَ أن تراهُ الحبشةُ يجلسُ معه على سريرِ مُلكهِ ، فنَزلَ أبرهةُ عن سريرهِ ، فجلسَ على بساطه وأجلسَهُ معه إلى جنبهِ ، ثم قالَ لتَرجُمانهِ : قلْ له اذكُرْ حاجتَكَ ، فقالَ له : حاجَتي أن يرُدَّ علَيَّ الملِكُ مِائَتي بعيرٍ أخذها . فلمَّا قال له ذلكَ ، قال له أبرهةُ : لقد كنتَ أعجَبْتَني حين رأيتُكَ ، ثم قد زهدتُ فيكَ حين كلَّمتَني في مائتي بعيرٍ أخذتُهَا لكَ ، وتتركُ شيئاً هو دِينُكَ ودينُ آبائك قد جئتُ لهدمهِ فلم تكلِّمنِي فيه . قال له عبدُ المطلب : إنِّي أنا ربُّ الإبلِ ، وإنَّ للبيتِ ربّاً سيمنعَكَهُ . قال : ما كان ليمتنعَ منِّي ، قال : أنتَ وذاكَ . فردَّ أبرهةُ على عبدِ المطَّلب إبلَهُ ، فأخذها ورجعَ إلى قومهِ ، فأمَرَهم بالخروجِ من مكَّة والتحرُّز في شَعَفِ الجبالِ والشِّعاب خَوفاً من معرَّةِ الجيشِ إذا دخلَ . ثم قامَ عبدُ المطلب فأخذ بحلَقةِ باب الكعبة ، وقامَ معه نفرٌ من قريشٍ يدعُونَ اللهَ ويستنصرونَهُ على أبرهةَ وجُندهِ ، فقال عبدُ المطَّلب وهو آخذٌ بحلقةِ باب الكعبة : @ لاَهُمَّ إنَّ الْعَبْدَ يَمْـ نَـعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلاَلَكْ لاَ يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غُدْواً مِحَالَكْ عَمَدُوا حِمَاكَ بجَهْلِهِمْ جَهْلاً وَمَا رَقَبُواْ جَلاَلَكْ إنْ كُنْتَ تَاركَهُمْ وَكْعبَـ تَنَا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ @@ ثم أرسلَ عبدُ المطلب حلقةَ الباب ، وانطلقَ هو ومَن معه من قريشٍ إلى شعَفِ الجبالِ ، فتحرَّزوا فيها ينتظرون ما أبرهةَ فاعلٌ بمكَّة إذا دخلَها ، فلما أصبحَ أبرهةُ تَهيَّأ لدخولِ مكَّة ، وهيَّأ فِيلَهُ وعبَّأَ جيشَهُ ، وكان اسمُ الفيل مَحْمُوداً ، وأبرهةُ مُجمِعٌ لهدمِ البيت . فلما وجَّهوا الفيلَ إلى مكَّة أقبلَ نُفيل بن حبيب حتى قامَ إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأُذنهِ ، فقال : ابرِكْ مَحْمُوداً أو ارجِعْ رَاشِداً من حيث أتيتَ ، فإنَّك في بلدِ الله الحرامِ . ثم أرسلَ أذُنه ، فبَركَ الفيلُ وخرجَ نُفيل يشتدُّ حتى صعدَ الجبلَ ، فضَربُوا الفيلَ ليقومَ فأبَى ، فضربوهُ في رأسهِ بالطَّبَرْزِينِ وهو الكُلاَّب ليقومَ فأبَى ، فأدخَلُوا محاجنَ لهم في مِرَاقِهِ فبَزَغُوهُ بها ليقومَ فأبَى ، فوجَّهوهُ رَاجعاً فقامَ يُهَرولُ ، ووجَّهوهُ نحوَ الشَّام فغَطَّ مثلَ ذلك ، ووجَّهوهُ إلى المشرقِ ففعلَ مثل ذلك ، ووجَّهوهُ نحو مكَّة فبَرَكَ ، فَجَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً من البحرِ أمثالَ الْخَطَاطِيفِ ، مع كلِّ طائرٍ منهم ثلاثةُ أحجارٍ يحمِلُها ، حَجَراً في منقارهِ وحجَرَانِ في رجليهِ أمثالُ الحمَّص ، لا تصيبُ أحداً منهم إلاّ هلَكَ ، وليس كلَّهم أصابَتْ . وخرَجُوا هاربين يبتَدرون الطريقَ الذي جاءوا منها ، ويسأَلُون عن نُفيل بن حبيبٍ ليدُلَّهم على الطريقِ إلى اليمنِ ، فقال نُفيل حين رأى ما أنزلَ اللهُ بهم من نِقمَتهِ : @ أيْنَ الْمَفَرُّ وَالإلَهُ الطَّالِبْ وَالأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبْ @@ وكان أبرهةُ أشرَمَ من ضربةٍ ضربَهُ إياها إريَاطُ بحربةٍ على جَبهتهِ ، فشَرَمَتْ حاجبَهُ وعينه وأنفَهُ وشفَتَيْهِ ، فكان يُسمى الأشرمُ من حينئذٍ . قال ابنُ اسحاق : فجعل عسكر أبرهة يتساقَطون من الحجارةِ بكلِّ طريقٍ ، ويهلَكُون على كلِّ منهلٍ ، وأُصيب أبرهةُ في جسدهِ وخرَجُوا به معهم تسقطُ أنامِلهُ أنْمُلَةً أنملَةً ، كلَّما سقَطت أنملة منها تَبعَتها مِدَّةٌ تَمُثُّ قَيحاً ودماً ، حتى قَدِموا به صنعاءَ وهو مثلُ فرخِ الطائر ، فما ماتَ حتى انصدعَ صدرهُ عن قلبهِ . فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كان مما يعدُّ الله على قريشٍ من النِّعم عليهم وفضلهِ ما رَدَّ عنهم من أمرِ الحبشة لبقاءِ أمرهم ، فقالَ تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ … } إلى آخرِها .