Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 9-9)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؛ أي لَم يكونوا بأعجبَ ، فقد كان مِن آياتنا ما هو أعجبُ من ذلك . قال الزجَّاجُ : ( أعْلَمَ اللهُ أنَّ قِصَّةَ أهْلَ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بعَجِيْبَةٍ ؛ لأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا أعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أصْحَاب الْكَهْفِ ) . والكهفُ : الغَارُ فِي الْجَبَلِ ، والرَّقِيْمُ : قِيْلَ : هو وادٍ دونَ فلسطين ، وهو الوادي الذي فيه أصحابُ الكهفِ ، وَقِيْلَ : الرقيمُ لوحٌ من حجارةٍ ، وَقِيْلَ : من رصاصٍ كتبوا فيه أسماءَ أهلِ الكهف وقصَّتَهم ثُم وضعوهُ على باب الكهفِ وهو على هذا التأويل بمعنى الْمَرْقُومِ ؛ أي المكتوب ، والرقيمُ : الْخَطُّ والعلامةُ ، والرقيمُ : الكتابةُ . قال ابنُ عبَّاس : ( وَذلِكَ أنَّ قُرَيْشاً بَعَثُوا خَمْسَةَ رَهْطٍ إلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لَهُمْ : إنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَاسْمُهُ مَحَمَّدٌ ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَتِيمٌ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ ، وَإنَّا نَزْعُمُ أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْ مُسَيْلَمَةَ ، فَإنَّهُ يَقُولُ : أنَا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ ، وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلاَّ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ - . فَلَمَّا أتَى هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ الْمَدِيْنَةَ ، أتَوا أحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَائَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ وَوَصَفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَخَاتَمَهُ ، قَالُوا : نَحْنُ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ ، وَلَكِنْ سَلُوهُ عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ ، فَإنْ كَانَ نَبيّاً أخْبَرَكُمْ بِخصْلَتَيْنِ ، وَلَمْ يُخْبرْكُمْ بالثَّالِثَةِ ؟ فَإنَّا سَأَلْنَا مُسَيْلَمَةَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَمْ يَدْرِ مَا هِيَ ، وَأنْتُمُ سَلُوهُ عَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ ، وَعَنِ الرُّوحِ ، وَعَنْ أصْحَاب الْكَهْفِ . فَرَجَعُوا وَأخْبَرُوا قُرَيْشاً بذلِكَ ، فَسَأَلُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : سَأُخْبرُكُمْ غَداً ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ . فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، وَشُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23 - 24 ] . ثُم أخبرَهُ عن أصحاب الكهف وحديثِ ذي القرنين وخبرِ أمر الرُّوح ، وحدَّثهُ أن مدينةً بالروم كان فيها ملكٌ كافر يدعو إلى عبادةِ الأوثان والنِّيران ، ويقتلُ مَن خَالَفَهُ ، وفي المدينةِ شابٌّ يدعو إلى الإسلامِ سرّاً ، فتابعهُ فتيةٌ من أهلِ المدينة ، فَفَطِنَ بهم الملكُ فأخذهم ، ودفعَهم الى آبائهم يحفظونَهم ، فمرُّوا بغلامٍ راع ، فبايَعَهم ومعهُ كلبُهم حتى إذا أتَوا غاراً فدخلوهُ ، وألقَى اللهُ عليهم النَّومَ سنين عدداً ، والملكُ طالبٌ لَهم لَم يقِفْ على أمرِهم ، وَعمِيَ عليه خبرُهم ، فسدُّوا بابَ الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالكَ . ثُم عَمَدَ رجلٌ إلى لوحِ رصاص ، فكتبَ فيه أسماءَهم وأسماءَ آبائهم ومدينتَهم ، وأنَّهم خرجُوا فراراً من دِين ملكِهم في شهرِ كذا في سنة كذا وألزقَهُ بالسدِّ ، وكان السدُّ في داخل الكهفِ ، وذكر القصةَ إلى آخرِها ، فهذا اللوحُ الرصاص هو الرَّقِيْمُ . فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشاً بذلك ، فلما أتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قولَ اليهودِ أخبرَهم بخصلَتين ولَم يخبرهم بالثالثةِ ، قال كفارُ قريشٍ : { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ القصص : 48 ] . وقال محمَّدُ ابن اسحاق : ( كَثُرَتْ في أهلِ الإنجيلِ الخطايا ، وَطَغَتِ الملوكُ حتى عبدُوا الأصنامَ والأوثان ، وفيهم بقايا على دينِ المسيحِ بن مريم متمسِّكون بعبادةِ الله وتوحيده . وكان ممن فعلَ ذلك ملكٌ مِن ملوكهم يقالُ له دقيانوس ، وكان قد عَبَدَ الأصنامَ وذبَحَ للطواغيت ، فسارَ حتى دخل مدينةَ أهلِ الكهف وهي أقسوس . فلما دخلَها عَظُمَ على أهلِ الإيْمان ، واسْتَخْفَوْا منهُ وهربوا إلى كلِّ ناحيةٍ ، فأراد دقيانوسُ أن يُجْمَعَ له أهلُ الإسلام ، واتخذ شُرَطاً من الكُفَّارِ من أهلها وأمرَهم باتباعِ المسلمين ، وأحصَرَهم فجعلوا يتبَعُون المسلمين حتى أخذوهم ومَضَوا بهم الى دقيانوس ، فخيَّرهم بين القتلِ وبين عبادة الأوثان ، فمنهم مَن رَغِبَ في الحياةِ ، ومنهم من قالَ : لا أعبدُ غيرَ الله ؛ فَقَتَلهُ . فلما رأى ذلك أهلُ الإيْمانِ جعلوا يصبرون للعذاب والقتل ، فقتلَهم وقطعَ لحومَهم ، وربطها على سورِ المدينة ونواحيها كلِّها ، وعلى كلِّ بابٍ من أبوابها حتى عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ على المسلمين . فلما رأى الفتيةُ ذلكَ قاموا وصَلَّوا واشتغلوا بالتسبيحِ والدُّعاءِ إلى اللهِ ، وكانوا من أشرافِ الرُّوم ، وكانوا ثَمانية نَفَرٍ ، فَبَكَوا وتضرَّعوا وجعلوا يقولون : رَبُّنَا ربُّ السماواتِ والأرض لن ندعوَ من دونه إلَهاً لقد قُلنا إذاً شَطَطاً ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنةِ وارفعها عنهم . فبينَا هم كذلكَ إذ دخلوا عليهم الشُّرَطُ إلى مُصَلاَّهُمْ فوجدوهم سُجوداً يبكون ويتضرَّعون إلى اللهِ ويسألونَهُ أن ينجيَهم من دقيانوس وفِتْنَتِهِ ، فقالوا لَهم : ما خلفكم من أمرِ الملك ، انطلِقُوا اليه . ثُم خرجوا مِن عندهم الى دقيانوس وأخبروهُ بخبرهم ، وقالوا : أنتَ تجمعُ الجمعَ وهؤلاء الفتية يعصونَ أمرك ، فأرسَلَ إليهم الشُّرَطَ فأتوا بهم تفيضُ أعينُهم من الدَّمعِ ، معفورةً وجوهُهم بالتراب ، فقال دقيانوس : ما منعَكُم أن تشهدوا الذبحَ للأصنامِ ، وتعبدُوها وتجعلوا أنفسَكم كغيرِكم ، إختاروا إمَّا تعبدوا الأصنامَ مثل الناسِ ، وإما أن نَقْتُلَكُمْ . فقال مكسلمينا : إن لَنَا إلَهاً تَملأُ السماوات والأرضِ عظمتهُ ، لن ندعوَ من دونهِ إلَهاً أبداً ، ولن نفعلَ هذا الذي تدعونا إليهِ ، ولكنَّا نعبدُ اللهَ ونسبحهُ ونحمدهُ خالصاً من أنفسنا ، إياهُ نعبدُ وإياه نسأل النجاةَ ، وأما الأصنامَ فلا نعبدُها أبداً ، إصنَعْ بنا ما بدَا لكَ ) . وقال الضحاك : ( قال أصحابُ مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة ، فقال دقيانوسُ : إنِّي سأؤخِّرُكم ، وأمهلِكُم حتى تراجعوا عقولَكُم ، واجعلُ لكم مدَّة تتشاورون فيها ، فإن أبيتُمْ طاعتي وخالفتم أمرِي وقعَتْ بكم العقوبةُ ، وما منعَنِي أن أُعَجِّلَ قتلَكم إلاّ أنِّي أراكم شَبَاباً جديداً شبابكم ، فلا أحبُّ أن أُهلِكَكم حتى أجعلَ لكم مدَّة تنظرون فيها ما يصلحُ لكم ، ثم أمَرَ بحليةٍ كانت عليهم مِن ذهب وفضة فَنُزِعَتْ عنهم وأمرَ بإخراجهم من عنده . فعَمَدَ كلُّ واحدٍ منهم إلى بيتِ أبيه واخذ له منه زاداً ، وخرجوا هاربينَ فمرُّوا بكلبٍ ، فتبعَهم فطردوهُ ثُم تبعهم ، ففعلوا ذلك مِراراً ، فقال لَهم الكلبُ : ما تَخشونَ منِّي أنا أحبُّ أحبابَ الله ، فمتى نِمتُم كنتُ أحرسُكم ) . وقال ابنُ عباس : ( كانوا سبعةً هربوا ليلاً ، فمرُّوا براعٍ ومعهُ كلبٌ ، فتَبعَهم على دِينهم ، فوصلوا إلى كهفٍ قريب من البلد فلبثوا فيه ، ليس لَهم عملٌ إلاَّ الصلاةُ والصيام والتسبيحُ والتكبير والتحميدُ ، وجعلوا نفقتَهم على يدِ واحد منهم يقالُ له : يَمليخا ، فكان يشتري لَهم متاعَهم من المدينة سرّاً ، وكان مِن أجمَلِهم وأجلدِهم ، وكان إذا أرادَ أن يدخل المدينة يضعُ ثياباً كانت عليه حِسَاناً ، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يسألونَ الناس ، ثُم يأخذ ورقةً ويشتري طعاماً ، ويتجسَّسُ الأخبارُ ، ويسمعُ هل يُذْكَرُ هو وأصحابهُ ، ثُم يعودُ إلى أصحابهِ ، فلَبثُوا كذلكَ ما لبثوا . ثُم إنَّ دقيانوس الجبار شدَّدَ على مَن بقي من المسلمين ، وأمَرهم بالذبحِ للطواغيت ، وكان يَمليخا حينئذ هناك متنكِّراً ، فسمعَ بأنَّ دقيانوس يطلبُ الفتيةَ ويسألُ عنهم ، فرجعَ يَمليخا هارباً إلى أصحابهِ وهو يبكي ومعهُ طعامٌ قليل ، فأخبرَهم أنَّ دقيانوس يسألُ عنهم ، ففَزِعُوا ووقفوا سُجُوداً يتضرَّعون إلى اللهِ ، يتعوَّذون به مِن فِتْنَتِهِمْ ، وذلكَ عند غروب الشَّمس فبينا هم كذلكَ إذ ضربَ اللهُ على آذانِهم في الكهفِ ، وكلبُهم باسطٌ ذراعيهِ بباب الكهف ، فأصابَهم ما أصابَهم وهم مؤمنونَ موقنون ، ونفقتُهم عندَ رؤوسهم . فلما كان من الغدِ إلتمسَهُم دقيانوس فلم يجدهم فغَضِبَ غضباً شديداً ، وأرسلَ إلى آبائهم فسألَهم عنهم ، وقالَ : أخبرونِي عن أبنائِكم الْمَرَدَةَ الذين عَصَونِي ، فقالوا : ما ندري أينَ ذهبوا ، ولقد أخذُوا أموالَنا وهربوا ، وليس لنا في ذلك ذنبٌ لأنَّا لَم نعصِكَ فلا تُعاقِبْنا فيهم . فخلَّى سبيلَهم وجعلَ لا يدري ما يصنعُ بالفتية ، فبلغَهُ الخبرُ أنَّهم ارتفعوا الجبلَ فالتمَسَهم هناك حتى وجدُوا الكهفَ ، فألقَى اللهُ في نفسهِ أن يَأْمُرَ بالكهفِ فيُسَدَّ عليهم . قال دقيانوس : سدُّوا بابَ الكهفِ ، ودعوهم فيه يَموتون جُوعاً وعطشاً ، وليكن كهفُهم الذي اختاروه قَبْراً لَهم ، وهو يظنُّ أنَّهم أيقاظٌ يعلمون ما يُصْنَعُ بهم ، وقد توفَّى اللهُ أرواحَهم في النومِ وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بباب الكهف وقد غَشِيَهُ ما غشِيَهم ، يُقَلَّبُونَ ذاتَ اليمين وذاتَ الشِّمال ، وبقيَ دقيانوس ما بقِيَ ، ثُم ماتَ وقرونٌ بعده كثيرة وجاءت ملوكٌ بعدَ ملوكٍ ) . وقيلَ : إنَّ دقيانوس لَمَّا أتى إلى كهفِهم يطلبُهم كان كلَّما أرادَ رَجُلٌ أن يدخُلَ عليهم الكهفَ أُرْعِبَ ، فلم يُطِقِ الدخولَ ، فجعلوا يقولون لو قدرنا أن ندخلَ عليهم لقِينَاهُم فلم يستطِعْ أحدٌ الدخولَ إليهم ، قال : سُدُّوا عليهم بابَ الكهف فيموتُون جوعاً وعطشاً ، ففعلوا ذلك . فلما مضَى على ذلكَ قرونٌ وأزمان جاءَ راعي غَنَمٍ إلى الكهفِ بغَنَمِهِ فأدركهُ المطرُ عندَ الكهفِ ، ففتحَ الكهفَ ليدخل غنمه فيه مِن المطرِ فوجدهم هناك ، فَرَدَّ اللهُ عليهم أرواحَهم ، فجلسُوا فرحينَ مستبشرين ، وظنُّوا أنَّهم أصبحُوا مِن ليلتهم ، فقاموا إلى الصَّلاة فصلَّوا ، لا تُرى في ألوانِهم ولا في أجسامهم شيء يكرهونَهُ ، وهم يحسبونَ أنَّ دقيانوس في طلبهم . ثُم قالوا ليمليخا : ما الذي قالَ الناسُ في شأننا بالأمسِ ؟ فقالَ : سمعتُ أنَّهم يلتمسونَكُم ، فقال مكسلمينا : يا إخوتاهُ ؛ إعلمُوا أنَّكم ملاقُو اللهَ فلا تكفروهُ بعد إيْمانِكم إذا طلبَكم غداً ، فقالوا ليمليخا : إذهب إلى المدينة استمِعُ لنا الأخبارَ ، وما الذي يذكرهُ الناسُ فينا عندَ دقيانوس . فدخلَ المدينةَ مُستخفياً يصدُّ عن الطريقِ ؛ لئلاَّ يراهُ من الناس أحدٌ يعرفه فيُعلِمَ دقيانوس ، ولَم يعلمْ يَمليخا أنَّ دقيانوس وقومَهُ قد هلَكُوا منذُ ثلاثِمائة سنة ، فرأى يَمليخا على باب المدينة علامةَ أهل الإيْمان فعَجِبَ ، وجعلَ ينظرُ يَميناً وشِمالاً مُستخفياً ، ثُم ذهبَ إلى الباب الثانِي فرأى عليه كذلكَ ، فخُيِّلَ إليه أنَّ المدينة ليست بالتي كانَ يعرفُ . ثُم رأى أُناساً كثيراً يتحدَّثون لَم يكن يراهم قبلَ ذلك ، فخُيِّلَ إليه أنه حيرانٌ ، وجعل يقولُ لعلَّ هذه غشيةٌ ، ثُم سَمع الناسَ يتحدَّثون بحديث أهلِ الإسلام ، ويحلِفُون بالله ، ويذكرون عيسَى بن مريَم ، فقال : لعلَّ هذه مدينةٌ أخرى ، فقامَ كالحيران ، فرآهُ إنسانٌ فسألَهُ ما هذه المدينة ؟ فقالَ : هذه أفسوسُ ، فقال : ذاهبُ العقل . ثُم دخلَ السُّوق ليشتري طَعاماً فأخرجَ الوَرِقَ الذي معهُ فأعطاها رَجُلاً وقال : بعنِي بهذه طعاماً ، فعجِبَ الرجلُ من نقشِها وضربها ، ثُم أعطاها رجلاً مِن أصحابهِ لينظرَ إليها ، ثُم جعلوا يتطارحونَها بينَهم من رجلٍ إلى رجل ، فقالوا : هذا أصابَ كنْزاً من كُنوز الأوَّلين ، فإما أنْ تُشاركنا فيه ، ونُخفِي أمركَ وإلاَّ سلَّمناك إلى السُّلطان يقتلُكَ ؟ فقال في نفسهِ : قد وقعتُ في الذي كنت احذرُ منه ، فجعل يَمليخا لا يدري ما يقولُ لَهم ، وفَزِعَ حتى أنهُ ما أطاقَ يخبرهم بشيءٍ ، فلمَّا رأوهُ لا يتكلَّمُ أشاعوا خبرَهُ ، وجعلوا يقودونَهُ في سِكَكِ المدينة وهم يقولون : هذا رجلٌ وجدَ كنْزًا ، فاجتمعَ عليه أهلُ المدينة فجعلوا ينظرونَ إليه ويتعجبون ، ويقولون : ما هذا الرجلُ مِن أهل المدينة ، وما رأيناهُ فيها قط ولا نعرفهُ ؟ ولو قال لَهم : أنا مِن هذه المدينة لَم يصدِّقوه ، وكان متيقِّناً أنَّ أباهُ وإخوته في المدينةِ ، وأنه يسألونه مِن جملةِ الناس إذا سَمعوا بخبرهِ . ثُم إنَّهم انطلقُوا به إلى رئيسِ المدينة ومدبري أمرِها وهما رجلان صالحان ، اسمُ أحدهما آرنوس والآخر أسطوس ، وظنَّ يَمليخا حين مَضَوا به أنَّهم يَمضون به إلى دقيانوس ، فرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقال : اللَّهُمَّ إلهَ السماءِ والأرض أفْرِغِ اليومَ عليَّ صبراً ، وأولِج معي رُوحاً تؤيِّدُنِي به عندَ هذا الجبَّار . فلما انتهوا به إلى الرَّجُلين الصالحينِ سَكَنَ خوفهُ ، فأخذ الرجلان الوَرِقَ ، فنظرا إليه وعَجِبَا منهُ ، وقالاَ : يا فَتَى أينَ الكَنْزُ الذي وجدتَهُ ؟ هذا الوَرقُ يشهدُ عليكَ أنك وجدت كَنْزاً ، فقال يَمليخا : واللهِ ما وجدتُ كَنْزاً ، ولكن هذا وَرِِقُ آبائي ، ونقشُ هذه المدينة وضربُها ، ولكن لا أدري ما شأْنِي ولا أدري ما أقولُ لكم . فقال أحدُهما : مِمن أنتَ ؟ فقال : أمَّا أنا فكنتُ أرى أنِّي مِن أهلِ هذه المدينة ، فقال لهُ : مَن أبوكَ ؟ ومَن يعرفُكَ بها ؟ فأتاهم باسمِ لأبيه فلم يعرفوهُ ، فقال لهُ أحدهما : أنتَ رجلٌ كذاب لا تُخبر بالحقِّ ، فلم يدر يَمليخا ما يقولُ ، فقال رجلٌ : هذا مجنونٌ ، وقال آخرُ : إنه ليس بمجنون يجنِّنُ نفسَهُ حتى تطلقوهُ ، ونظرَ اليه آخر شِزْراً وقال : أتظنُّ أنَّا نصدِّقُكَ ونطلِقُكَ ؟ فإن هذه الوَرِقَ لضربهُ أكثرُ من ثلاثِمائة سنةٍ ، وأنت غلامٌ شاب وليس عندنا مِن هذا الضرب درهمٌ ولا دينار . فقال يَمليخا : أتعرِفُونَ شيئاً أسألُكم عنه ؟ قالوا : سَلْ ؛ قال : ما فعلَ دقيانوس ، قالوا لا نعرفُ اليومَ على وجه الأرضِ ملكٌ يسمَّى دقيانوس ، ولَم يكن إلاّ ملكٌ قد هَلَكَ منذُ زمان طويلٍ ، وهلكَتْ بعده قرونٌ كثيرة ، فقال يَمليخا : واللهِ لقد كُنا فِتْيَةً وإنهُ أكرَهَنا على عبادةِ الأوثان ، فهربنا منهُ عشيَّةَ أمس فَنِمْنَا ، فلما انْتَبَهْنَا خرجتُ لأشتريَ لأصحابي طعاماً وأتجسَّسُ الأخبارَ ، فإذا أنا كما تَرَوْنَ ، فانطلِقُوا معي إلى الكهفِ أُريكم أصحابي . فلما سَمع أرنوس ما يقولُ يَِمليخا قالَ : يا قومِ لعلَّ هذا آيةٌ من آياتِ اللهِ جعلَها اللهُ لنا على يَدي هذا الفتى ، فَامْضُوا بنا معهُ يُرينا أصحابَهُ . فمَضَوا معَهُ ومضى جميعُ أهلِ المدينة ، فلمَّا سَمع الفتيةُ الذين في الكهفِ الأصواتَ وجَلَبَةَ الخيلِ مصعدة نَحوهم ، وقد كان أبطأ عليهم يَمليخا ، ظنُّوا أنه دقيانوس جاءَ في طلبهم ، فسبَقَ يَمليخا القومَ وجاءَ إليهم فسألوهُ عن شأنهِ فأخبرَهم بالخبر كله ، فعرفوا أنَّهم كانوا نِيَاماً بأمرِ الله ذلك الزَّمان كله ، وإنَّما أُوْقِضُوا ؛ ليكونُوا آيةً للناس وتصديقاً للبعثِ ، وليعلمُوا أنَّ الساعةَ لا ريبَ فيها ، فلما فَرَغَ يَمليخا من كلامهِ قَبَضَ اللهُ رُوحَهُ وأرواحَهم ، وعَمِيَ على أولئكَ القومِ بابُ الكهفِ فلم يهتدوا إليه .