Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 102-102)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } ؛ يعني اليهود . وهو عطف على { نَبَذَ فَرِيقٌ } [ البقرة : 101 ] كأنه قال : انبذُوا كتابَ الله واتَّبعوا ما تتلوا الشياطينُ من السِّحر ، { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } ؛ ومعنى { مَا تَتْلُواْ } يعني ما تَلَتْ قبلهم شياطينُ الجن والإنس { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي على عهدِ ملك سليمان ، قيل : معنى تتلو تكذبُ ، يقال : فلان تَلاَ من فلان ؛ إذا صدَقَ في الحكاية عنه ، وتلى عليهِ إذا كذبَ عليه ؛ كما يقال : تالٍ عنه وتالٍ عليه . وقال ابنُ عبَّاس : ( تَتْلُو ؛ أي تَتْبَعُ وَتَعْمَلُ ) . وقال عطاءُ : ( تَتَحَدَّثُ وَتَتَكَلَّمُ بهِ ) . وقرأ الحسنُ : ( الشَّيَاطُونُ ) بالواو في موضع الرفعِ في كلِّ القرآن . وسُئل أبو حامد الخارجي عن قراءة الحسنِ هذه فقال : ( هِيَ لَحْنٌ فَاحِشٌ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ الأَدَب ) . غيرَ أن الأصمعيَّ زعم أنه سَمِعَ أعرابياً يقول : بُسْتَانُ فلان حَوْلَهُ ( بَسَاتُون ) . وقصةُ ذلك : أن الشياطينَ كتبوا السحرَ والنيرنجات على لسان آصف : هذا ما علَّم آصف بن برخيا سليمان الملك . ثم دفنوها تحت مُصَلاَّهُ حين نزعَ الله مُلكه ولم يشعر بذلك سليمان . فلما مات عليه السلام استخرجوها من تحتِ مُصَلاَّهُ وقالوا للناس : إنَّما مَلَكَكُمْ سليمانُ بهذا ، فتعلموهُ . وأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤُهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علمُ سليمان ؛ فلا نتعلمهُ . وأما السَّفَلَةُ فقالوا : هذا عِلمُ سليمان وأقبلوا على تَعَلُّمِهِ ؛ ورفضوا كُتُبَ أنبيائهم وقالوا : إنَّما تمَّ ملكهُ بالسِّحرِ وبه سحرَ الجن والإنس والطير والرياح . فلم يزالوا على ذلك الاختلافِ وفَشَتِ الْمَلاَمَةُ لسليمان حتى بعث الله تعالى مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عذرهُ على لسانه وأظهر براءتهُ مما رُمي به من الكفر تكذيباً لليهود ، فقال عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي هم الذين كتبوا السحرَ وهم الذين يعلِّمونه الناسَ . هذا قولُ الكلبي . وقال السديُّ : كانت الشياطينُ تصعدُ إلى السماء فتقعد منها مقاعدَ للسمع ؛ فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيره ؛ فيأتون الكهنةَ فيخلطون بما سمعوا كذباً وزوراً في كلِّ كلمة سبعين كذبة . ويخبرونَهم بذلك ؛ فالتفت الناس إلى ذلك وفشَى في بني إسرائيل أن الجنَّ تعلم الغيبَ . فبعث سليمانُ في الناس وجمعَ تلك الكتب وجعلها في صندوقٍ ودفنها تحت كرسيِّه ، وقال : ( لاَ أسْمَعُ أحَداً يَقُولُ إنَّ الشَّيَاطِيْنَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاَّ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ ) . فلما ماتَ سليمان صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ضَلَّ الناسُ وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمرَ سليمان . فتمثَّلَ شيطانٌ على صورة إنسان ، وأتى نَفَراً من بني إسرائيلَ ، وقال : هل أدلُّكم على كنْزٍ ؟ قالوا : نَعَمْ ، قال : احفروا تحت الكرسيِّ ، وذهبَ معهم فأراهم المكانَ فحفروا فوجدوا تلك الكُتُبَ ؛ فلما أخذوها ، قال الشياطينُ : إن سليمانَ كان يضبط الجنَّ والإنسَ والشياطين بهذه الكتب ، وأفشَى في الناس أن سليمانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كان سَاحراً . واتخذ بنُو إسرائيلَ الكتبَ . ولذلك أكثرُ ما يوجدُ السحرُ في اليهود . فلما جاءَ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصمت اليهودُ بذلك ، فَبَرَّأ الله سليمانَ وأنزل هذه الآية . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } أي بالسِّحرِ ؛ فإن السحرَ كفرٌ { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ } . قرأ أهلُ الكوفة إلا عاصماً ؛ وأهلُ الشام بتخفيفِ النون ورفعِ الشياطين ؛ وكذلكَ في الأنفال : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . وقرأ الباقون بالتشديدِ ونصب ما بعده . قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } ؛ قال بعضُهم : السِّحْرُ : العلمُ والحذقُ بالشيء ؛ قال الله تعالى : { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } [ الزخرف : 49 ] أي العالِمُ . وقال بعضُهم : هو التَّمْوِيْهُ بالشيء حتى يُتَوهَّمَ أنه شيء ولا حقيقةَ له كالسراب عندَ مَن رآهُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [ طه : 66 ] . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } ، محَلُّ ( ما ) نُصِبَ بإيقاعِ التعليم عليه ، معناه : ويعلِّمون الذي أُنزل على الملَكين . ويجوزُ أن يكون نصباً بالاتباعِ ؛ أي واتبعوا ما أُنزل على الملَكين . قرأ ابنُ عباس والحسنُ والضحاك ويحيى وابن كثير : بكسرِ اللام من ( الْمَلِكَيْنِ ) وقال : هما رجُلان ساحران كانا ببَابلَ ؛ لأن الملائكةَ لا يعلمونَ الناس السحرَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِبَابِلَ } ؛ هي بابلُ العراقِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } اسمان سريانيَّان ؛ وهما في محَل الخفض على تفسير الْمَلِكَيْنِ بدلاً منهما ، إلا أنَّهما فُتحا لعجمتهما ومعرِفتهما . وكانت قصتُهما على ما حكاهُ ابن عباس والمفسرونَ : أن الملائكةَ رأوا ما يصعدُ إلى السماء من أعمالِ بني آدمَ الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك زمنَ إدريس عليه السلام ، فعيَّروهم بذلك ؛ وقالوا : هؤلاءِ الذين جَعَلْتَهُمْ في الأرض واخترتَهم ؛ فهم يعصونَك ! فقال اللهُ تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرضِ وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لارتكبتُم ما ارتكبوا . فقالوا : سبحانَكَ ما كان ينبغي لنا أن نَعصيك . قال اللهُ تعالى : فاختاروا مَلِكَيْنِ من خياركم ؛ أُهْبطْهُمَا إلى الأرضِ . فاختاروا هَارُوتَ وَمَارُوتَ ؛ وكانا من أعْبَدِ الملائكةِ وأصلَحِهم . فركَّب الله فيهما الشهوةَ وأهْبَطَهما إلى الأرضِ ؛ وأمرَهُما أن يحكُمَا بين الناس بالحقِ ؛ ونَهاهما عن الشركِ والقتل بغيرِ حقٍّ والزنا وشرب الخمر ، فكانا يقضيان بين الناس يومَهما ، فإذا أمسيَا ذكرَا اسمَ اللهِ الأعظم ، وصُعد به إلى السماء . قال قتادةُ : فما مرَّ عليهما شهرٌ حتى افتُتِنا ، وذلك أنه اختصم إليهما ذاتَ يوم الزُّهْرةُ ؛ وكانت مِن أجملِ النساء ، وكانت من أهلِ فارسَ ، ملكةٌ في بلدها . فلما رأيَاها أخذت بقلوبهما فراوَدَاها عن نفسِها فأبَتْ وانصرفت ؛ ثُمَّ عادت في اليومِ الثاني ففعلاَ مثلَ ذلك ، فأَبَتْ وقالت : لاَ ؛ إلاَّ أن تعبدوا ما أعبدُ وتصلِّيا لِهذا الصنَم ؛ وتقتُلا النفسَ ؛ وتشربا الخمرَ . فقالا : لاَ سبيلَ إلى هذا ، فإنَّ الله تعالى نَهانا عنها ؛ فانصرفَتْ . ثم عادت في اليومِ الثالث ومعها قدحٌ من الخمرِ وفي أنفسِهما من الْمَيْلِ إليها ما فيها ، فراوَدَاها عن نفسِها ؛ فعرضَتْ عليهما ما قالت بالأمسِ فقالا : الصلاةُ لغيرِ الله عظيمٌ ؛ وقتلُ النفس عزيزٌ وأهونُ الثلاثة شربُ الخمرِ ؛ فشربا فَانْتَشَيَا ووقَعَا بالمرأةِ وَزَنَيَا ، فلما فرغَا رآهما إنسانٌ فقتلاَهُ . قال الربيعُ بن أنس : وسَجَدَا للصنمِ . فمسخَ الله عَزَّ وَجَلَّ الزُّهْرَةَ كوكباً . وقال السديُّ والكلبيُّ : إنَّهما لَمَّا قالت لهما : لن تدركانِي حتى تُخبراني بالذي تصعدانِ به إلى السماءِ ؟ فقالا : بالاسمِ الأكبر . فقالت : ما أنتُما مدركانِي حتى تُعَلِّمَانِيه ؟ قال أحدُهما للآخر : علِّمها ؟ ! قال : إني أخافُ الله . قال الآخر : فأينَ رحمةُ الله ؟ فعلَّماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماءِ ؛ فمسخَها الله كوكباً . فعلى قول هؤلاء : هي الزهرةُ بعينها ، وقيَّدوها فقالوا : هي الكوكبُ الأحمر . يدلُّ على صحة هذا القول ما رويَ عن عليٍّ رضي الله عنه قال : " كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا رَأى سُهَيْلاً قَالَ : لَعَنَ اللهُ سُهَيْلاً إنَّهُ كَانَ عَشَّاراً بالْيَمَنِ ، وَإذَا رَأى الزُّهْرَةَ قَالَ : لَعَنَ اللهُ الزُّهْرَة ، فَإنَّهَا فَتَنَتْ مَلَكَيْنِ " وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما إذا رأى الزهرةَ قال : ( لاَ مَرْحَباً وَلاَ أهْلاً ) . وعن ابنِ عباس : أنَّ المرأةَ التي فَتَنَتْ هاروت وماروتَ مُسخت ، فهي هذا الكوكبُ الحمراء . يعني الزُّهرة . وأنكرَ الآخرون هذا ؛ وقالوا : إن الزهرةَ من الكواكب السبعة السيارة التي أقسمَ اللهُ تعالى بها ؛ فقالَ : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } [ التكوير : 15 ] وإنَّما المرأةُ التي فَتَنَتْ هاروتَ وماروت كان اسْمُها زَهْرَةٌ من جَمالها ؛ فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزهرةَ ذكرَ هذه المرأةَ لِموافقة الاسمين ؛ فَلَعَنَهَا . وكذلك سهيلٌ كان رجُلاً عشَّاراً باليمن فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النجمَ ذكرهُ ؛ فلعنَهُ ؛ واللهُ تعالى أعلمُ . قال المفسرون : فلمَّا أمسَى هاروتُ وماروت بعدما أصابَا الذنبَ هَمَّا بالصعودِ إلى السماءِ فلم تطاوعْهُما أجنحتُهما ، فَعَلِمَا ما حَلَّ بهما ، فقصدا إدريسَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبراهُ بأمرهما وأمَرَاهُ أن يشفعَ لهما ؛ وقالا : إنا رأيناك يصعدُ لك من العبادةِ مثلَ ما يصعدُ لجميع أهل الأرض ، فاشفَعْ لنا إلى رَبكَ ؟ ففعلَ إدريسُ ؛ فخيَّرهما اللهُ تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرةِ ، فاختارَا عذابَ الدنيا ؛ إذ عَلِمَا أنه ينقطعُ ، فهما ببَابلَ يُعَذَّبَانِ . واختلفَ العلماءُ في عذابهما ؛ فقال ابن مسعود : ( هُمَا مُعَلَّقَانِ بشُعُورِهِمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) . وقال قتادةُ : ( كُبلاَ مِنْ أقْدَامِهِمَا إلَى أُصُولِ أفْخَاذِهِمَا ) . وقال مجاهدُ : ( أنَّ جُبّاً مُلِيَتْ نَاراً فَجُعِلاَ فِيْهَا ) . وقيل : معلقان مُنَكَّسَانِ بالسلاسل . وقيل : منكوسانِ يُضربان بسياط الحديد . وروي أنَّ رجُلاً أراد تعلُّمَ السحر فقصدَهما ؛ فوجدهما معلَّقين بأرجُلِهما ؛ مُزْرَقَّة أعينهما ؛ مسوَّدة وجوههما ؛ ليس بين ألسِنَتهما وبين الماءِ إلا قدرُ أربعِ أصابع وهما معذَّبان بالعطش ؛ فلما رأى ذلك هَالَهُ مكانُهما ؛ فقال : لاَ إله إلا اللهِ . فلما سَمعا كلامهُ ، قالا : مَنْ أنْتَ ؟ قال : رجلٌ من الناس . قالوا : ومن أيِّ أُمَّةٍ ؟ قال : من أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم . قالا : أوَقَدْ بُعث محمدٌ ؟ قال : نَعَمْ . قالا : الحمدُ لله وأظهرا الاستبشارَ . وقال الرجل : وممَّ استبشارُكما ؟ قالا : إنه نَبيُّ الساعةِ ، وقد دَنَا انقضاءُ عذابنا . قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } ؛ يعني الملَكين ؛ و { مِنْ } صلةٌ ؛ أي لا يُعلِّمان أحداً السحرَ ، { حَتَّىٰ } ؛ ينصحاهُ أولاً وينهياه و { يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ، ومحنةٌ ؛ { فَلاَ تَكْفُرْ } ، بتعلُّم السحرِ . يقولان له ذلك سبعَ مرَّات . قال السديُّ وعطاء : ( فإنْ أبَى إلاَّ التَّعَلُّمَ ! قالاَ لهُ : ائْتِ هَذِهِ الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ ؛ فإذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي السَّمَاءِ ؛ فَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ . وَيَنْزِلُ شَيْءٌ أسْوَدُ حَتَّى يَدْخُلَ مَسَامِعَهُ يُشْبهُ الدُّخَانَ ؛ وَذَلِكَ غَضَبُ اللهِ ) . وقوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } { إِنَّمَا } وحَّدها لأنَّها مصدرٌ ؛ والمصدر لا يثنَّى ولا يُجمع مثل قوله : { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] . وفي مصحف أُبَي : ( وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ مِنْ أحَدٍ ) . وتعلُّم السحر لا يكون إثْماً ؛ كمن يقولُ لرجلٍ : علِّمني ما الزِّنا ، وما السرقةُ ؟ فيقول : هو كذا وكذا ؛ ولكنه حرامٌ فلا تفعلْهُ . وهما كانا لا يَصِفَانِ السحرَ لأحد حتى يقولا : إنَّما نحنُ اختبار وابتلاء للناس ؛ فلا تَكْفُرْ أيها المتعلِّمُ ؛ أي لا تتعلَّم للعملِ به . وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ قالت : قَدِمَتْ عليَّ امرأة من أهل دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ تَبْغِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد موته لتسألَهُ عن شيء دخلت فيه من أمرِ السِّحْرِِ ولم تعملَ به ، فلما لم تَجِدْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بكت حتى رحمتُها ، وقالت : إنِّي أخافُ أن أكون قد هلكتُ ؛ كان لي زوجٌ فغاب عنيِّ ، فدخلتُ على عجوزٍ فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلتِ ما آمُرك فأجعله يأتيك . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبَتْ أحدهما وركبْتُ الآخرَ ، فلم يكن كثيراً حتى وقفنا ببَابلَ ، فإذا برجلين معلَّقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاءَ بكنَّ ؟ قلتُ : لنتعلَّم السحرَ ، فقالا : إنَّما نحنُ فتنة فلا تَكْفُرِي وارجعي ، فقلت : لاَ ، قالا : إذهبي إلى ذلك التنُّور ؛ فبولِي فيه . فذهبتُ ففزعتُ ولم أفعل فجئتُ إليهما ، فقالا لي : فعلتِ ؟ فقلت : نعم ، فقالا : هل رأيتِ شيئاً ؟ قلتُ : لاَ ، قالا : كذبتِ ، إنك لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادِك ، إنَّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفري . فأبيتُ ، قالاَ : إذهبي إلى تلك التنُّور فبولِي فيه ، فذهبتُ فاقشعرَّ جِلدي فرجعتُ إليهما ، فقلت : قد فعلتُ : قالا : هل رأيتِ شيئاً ؟ قلتُ : لاَ ، قالا : كذبتِ ، لم تفعلي ارجعي إلى بلادك فلا تكفري . فأَبَيْتُ . قالا : إذهبي إلى تلك التنور فبولِي فيه ، فذهبتُ فبلت فيه ، فرأيت فَارساً مقنَّعاً بحديدٍ خرجَ مني حتى ذهبَ في السماء وغابَ عني حتى لم أره ، فجئتهما ، فقلتُ : قد فعلتُ ، فقالا لي : ما رأيتِ ؟ قلتُ : رأيت فارساً مقنَّعاً بالحديد ، خرج مني فذهبَ في السماء حتى غابَ ، قالا : صدقتِ ، ذاك إيْمانُك خرجَ منك ، إذهبي . فلما رأيتُ أني لا أريدُ شيئاً إلا كانَ سُقِطَ في يدي وندمتُ والله يا أمَّ المؤمنين ، ما فعلتُ شيئاً قطْ ولآ أفعلهُ أبداً . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } ، قيل : معناهُ : فيعملُ به السامع ؛ فيكفُر بالعمل ؛ فتقعُ الفرقةُ بينه وبين زوجتِه بالردَّة ، إذا كانت مسلمةً . وقيل : معناه : يسعَى بينهما بالنميمةِ والإغراءِ والإفشَاء وتَمويه الباطلِ لكي يبغضَ كلُّ واحد منهما صاحبَه فيفارقه . قرأ الحسنُ ( بَيْنَ الْمَرِّ ) بالتشديدِ . وقرأ الزهريُّ : بضمِّ الميم والهمزة . وقرأ الباقون بفتحِ الميم والهمزة . { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ } ؛ أي بالسحرِ ، { مِنْ أَحَدٍ } ؛ أي أحداً ؛ وقولهُ : { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ؛ أي بعِلْمِهِ وقضائهِ ومشيئته . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } ؛ أي يضرُّهم في الآخرةِ ولا ينفعهم في الدنيا . وقيل : معناه : يضرُّهم ولا ينفعُهم كلاهُما في الآخرة ؛ لأن السِّحرَ كان ينفعهم في دنياهم ، لأنَّهم يكتسبون به . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } ؛ أي عَلِمَتِ اليهودُ ، { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } ؛ أي لمن اختارَ السحرَ والكَفَرَ على الإيْمان ، { مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ } ؛ أي من نصيبٍ . وقال الحسنُ : ( مِنْ دِيْنٍ وَلاَ وَجْهٍ عِنْدَ اللهِ ) . وقال ابن عباس : ( مِنْ قِوَامٍ ) . وقيل : من خلاصٍ . قال أُمية : يدعون بالويل فيها ؛ لا خَلاَقَ لهم إلا السرابيلُ من قَطْرٍ وأغلال ؛ أي لا خلاصَ لهم . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } ؛ أي باعو به أنفسهم ؛ حيث اختاروا السحرَ والكفرَ على الدين والحقِّ . وقيل : لبئس ما باعَ المستعملون السحرَ به أنفسهم بعقوبة الآخرة ، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . وذهبَ جماعة إلى أن قوله : { مَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِْ } عطفٌ على { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ } في معنى النفي ، كأنه قال : لَم ينْزِلْ على الملَكين ولكن الشياطينَ هاروت وماروت وأتباعَهما يعلِّمان الناس السحرَ . والغرضُ من هذه الآية أنْ بُهْتَ اليهود وكذِبهم ؛ حملَهم على أخذ السحرِ من الشياطين ، وادَّعوا أنَّهم أخذوهُ من سليمانَ ، وأن ذلك اسمُ الله الأعظم ليكتسبوا به .