Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 243-243)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله عَزَّ وَجَلّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } ؛ قال ابنُ عباس : ( وَذَلِكَ أنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيْلَ أُمِرَ بالْخُرُوجِ إلَى قِتَال عَدُوِّهِمْ ؛ فَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ ثُمَّ جَبنُواْ وَكَرِهُواْ الْقِتَالَ ، فَقَالُواْ لِمَلِكِهِمْ : إنَّ الأَرْضَ الَّتِي تُرِيْدُهَا فِيْهَا الْوَبَاءُ فَلاَ تَأْتِهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الْوَبَاءُ ، فَقَالَ لَهُمْ اللهُ : مُوتُواْ ) . واختلفُوا في عددِهم ؛ فقال مقاتلُ والكلبي : ( كَانُوا ثَمَانِيَةَ آلاَفٍ ) . وقال أبو رَوْقٍ : ( عَشَرَةَ آلاَفٍ ) . وقال أبو مالكٍ : ( ثَلاَثُونَ ألْفاً ) . وقال السديُّ : ( بضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ ألْفاً ) . وقال ابنُ جُريج : ( أرْبَعُونَ ألْفاً ) وقال عطاءُ بن أبي رَبَاح : ( تِسْعُونَ ألْفاً ) . وقال الضحَّاكُ : ( كَانُواْ عَدَداً كَثِيْراً ) . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أُلُوفٌ } دليلٌ على كَثرتِهم ؛ إذ لو كانوا كما قالَ مقاتل والكلبيُّ لقالَ : وهم آلافٌ ؛ لأن مِن عشرةِ آلاف إلى ما دونِها يقالُ فيها : آلافٌ ، ولا يُقالُ فيها : أُلوفٌ ؛ لأن الألوفَ جمعُ الكثيرِ . والآلافُ جمعُ القليلِ . فمكثوا موتَى ثمانيةَ أيامٍ حتى انتفخوا وبلغَ بني إسرائيل موتُ أصحابهم ، فخرجوا إليهم ليدفنُوهم ، فعجزوا عنهم مِن كثرتِهم ، فحَظَرُوا عليهم الحظائِرَ ، ثم أحياهُم اللهُ تعالى بعد ثَمانيةِ أيَّامٍ ، فبقي فيهم من ريحِ النَّتَنِ التي كانت فيهم بعد الموتَ حتى بقيَ في أولادهم إلى اليومِ . وقال السُّدِّيُّ : ( وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ ، فَخَرَجَ قَوْمٌ مِنْهُمْ هَاربيْنَ مِنْ دِيَارهِمْ حَتَّى انْتَهَواْ إلَى مَكَانٍ فَمَاتُواْ وَتَفَرَّقَتْ عِظامُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ أوْصَالُهُمْ ، فَأَتَى عَلَيْهِمْ مُدَّةٌ وَقَدْ بَلِِيَتْ أجْسَادُهُمْ ، فَمَرَّ بهِمْ نَبيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيْلُ ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام ؛ لأنَّهُ كَانَ بَعْدَ مُوسَى يُوشُعُ بْنُ نُونٍ ، ثُمَّ كَالِبُ بْنُ يوفنا ، ثُمَّ حِزْقِيْلُ . وَكَانَ يُقَالُ لَهُ : ابْنُ الْعَجُوز ، وَذَلِكَ أنَّ أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزاً فَسَأَلَتِ اللهَ تَعَالَى الْوَلَدَ وَقَدْ كَبُرَتْ وَعَقُمَتْ ، فَوَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهَا ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ابْنَ الْعَجُوز ) . وقال الحسنُ ومقاتل : ( هُوَ ذُو الْكَفْلِ ، وإنَّمَا سُمِّيَ حِزْقِيْلُ ذَا الْكَفْلِ ؛ لأنَّهُ تَكَفَّلَ بسَبْعِيْنَ نَبيّاً وَأنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ ، فَقَالَ لَهُمُ : اذْهَبُواْ فَإنِّي إنْ قُتِلْتُ كَانَ خَيْراً مِنْ أنْ تُقْتَلُواْ جَمِيْعاً ، فَلَمَّا جَاءَ الْيَهُودُ وَسَأَلُواْ حِزْقِيْلَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ السَّبْعِيْنَ ، فَقَالَ لَهُمْ : ذَهَبُواْ وَلَمْ أدْر أيْنَ هُمْ . وَحَفِظَ اللهُ ذَا الْكَفْلِ مِنَ الْيَهُودِ . فَلَمَّا مَرَّ حِزْقِيْلُ عَلَى أُوْلَئِكَ الْمَوْتَى وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلْ يُفَكِّرُ فِيْهِمْ مُتَعَجِّباً ، فَقَالَ : الْحَمْدُ للهِ الْقَادِر عَلَى أنْ يُحْيِي هَذِهِ الأَجْسَادَ ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ : يَا حِزْقِيْلُ ، أتُرِيْدُ أنْ أُريَكَ كَيْفَ أُحْيي الْمَوْتَى ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ : لَهُ : نَادِهِمْ ، فَنَادَى : أيُّهَا الْعِظَامُ ، ثُمَّ قَالَ : ألاَ أيُّتُهَا الأَجْسَادُ الْبَالِيَةُ ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُنَّ أنْ تَكْتَسِيْنَ لَحْماً ، فَجَعَلَ اللَّحْمُ يَجْْرِي عَلَيْهِنَّ حَتَّى صِرْنَ أجْسَاداً مِنَ اللُّحُومِ ، ثُمَّ قَالَ : ألاَّ أيَّتُهَا الأَجْسَادُ الْبَالِيَةُ الْخَاويَةُ ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُنَّ أنْ تَقُمْنَ بإذْنِ اللهِ ، فَقَامُواْ . فَرَجَعُواْ إلَى بلاَدِهِمْ وَأقَامُواْ وَتَوَالَدُواْ ، وَكَانَ أحَدُهُمْ إذَا اكْتَسَى ثَوْباً صَارَ عَلَيْهِ كَفَناً يَكُونُ فِيْهِ ريْحُ الْمَوْتِ ) . وقال وهبُ : ( أصَابَهُمْ بَلاَءٌ وَشِدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ ، فَشَكَواْ مَا أصَابَهُمْ فَقَالُواْ : يَا لَيْتَنَا قَدْ مِتْنَا فَاسْتَرَحْنَا مِمَّا نَحْنُ فِيْهِ . فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى حِزْقِيْلَ : إنَّ قَوْمَكَ قَدْ صَاحُواْ مِنَ الْبَلاَءِ ، وَزَعَمُواْ أنَّهُمْ لَوْ مَاتُواْ اسْتَرَاحُواْ ، وَأيُّ رَاحَةٍ فِي الْمَوْتِ ؛ أيَظُنُّونَ أنِّي لاَ أقْدِرُ أنْ أبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ! فَانْطَلِقْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا ، فَإنَّ فِيْهِ أمْوَاتاً ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : ( يَا حِزْقِيْلُ ، نَادِهِمْ . وَكَانَتْ أجْسَادُهُمْ وَعِظَامُهُمْ قَدْ تَفَرَّقَتْ ؛ فَرَّقَتْهَا الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ ) فنادى حزقيل بالنداء الذي ذكرناه . ومعنى الآية : ألَم يعلمِ الذينَ ، وقيل معناهُ : ألَمْ ينتهِ عِلْمُكَ إلى خبرِ هؤلاءِ الذينَ خَرجوا من ديارهم ، والمرادُ بالرؤيةِ رؤيةَ القلب لا رؤيةَ العين . وقَوْلُهُ تَعَالَى : { حَذَرَ الْمَوْتِ } أي خرجوا هاربين حَذَرَ الموتِ ، وانتصبَ على أنه مفعولٌ له . وظاهرُ هذا يقتضي أنَّ خروجَهم كان على جهةِ الفرار من الوباءِ على ما فسَّره السديُّ . وقيل في معنى : { أُلُوفٌ } أي مُؤْتَلِفُواْ القلوب لم يخرجوا من تباغضٍ ، ومعنى { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } أي أماتَهم ، وقيل : أماتَهم الله بشيءٍ يسمعوهُ ، وسمعتِ الملائكة . قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } ؛ أي مُتَفَضِّلٌ على جميعِ الناس كما تفضَّلَ على هؤلاء بأن أحياهم بعد الموتِ وأراهم البصيرةَ لا غاية بعدها ، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } ؛ ربَّ النِّعَمِ . وفي الآيةِ دلالةٌ على أن الموتَ لا ينفع الهرب منه كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] وقالَ تعالى : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } [ الأحزاب : 16 ] . وإذا كان الآجالُ مؤقتةً محصورةً لا يقع فيها تقديمٌ وتأخير كما قدَّرَ الله تعالى ؛ لم ينفعِ الفرارُ من الطاعون وغيرِ ذلك . وقد روي : أنّ عُمَرَ رضي الله عنه أرَادَ أنْ يَدْخُلَ الشَّامَ وَبهَا طَاعُونٌ ، فَاسْتَشَارَ أصْحَابَهُ بذَلِكَ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُهَاجِرِيْنَ بالرُّجُوعِ ، فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ ، فَقَالَ لَهُ أبُو عُبَيْدَةَ : ( يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ ، أتَفِرُّ مِنْ قَدَر اللهِ تَعَالَى ؟ ! ) فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : ( لَوْ كَانَ غَيْرَكَ يَقُولُهَا يَا أبَا عُبَيْدَةَ ! نَفِرُّ مِنْ قَدَر اللهِ إلَى قَدَر اللهِ ، أرَأيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إبلٌ فَهَبَطْتَ بهَا وَادِياً لَهُ عَدْوَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، ألَسْتَ إنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَر اللهِ ، وَإنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَر اللهِ ) . فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه فَقَالَ : ( عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمٌ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إذَا وَقَعَ هَذَا الرِّجْزُ فِي أرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ وَأنْتُمْ بهَا فَلاَ تَخْرُجُوا عَنْهَا " فَحَمَدَ اللهَ تَعَالَى عُمَرُ رضي الله عنه وَرَجَعَ . فإن قيلَ : إذا كانت الآجالُ مقدرةً لا تتقدمُ ولا تتأخر ، فما وجهُ النهي منه صلى الله عليه وسلم عن دخولِ أرض بها طاعونٌ ؟ وأيُّ فرقٍ بين دخولِها وبين إبقائهِ فيها ؟ قيل : وجهُ النهي عن الدخولِ أنه إذا دخلها وبها طاعونٌ فجائز أن يدركَه أجلٌ بها فيقولُ قائل : لو لم يدخلْها ما ماتَ ، كما قال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } [ آل عمران : 156 ] فكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلَ أرضاً فيها طاعونٌ لِما يخشى أن يموتَ فيها أحدٌ بأجله ، فيقول الجُهَّالُ : لو لم يدخلها لم يَمُتْ .