Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 95-95)

Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ؛ رُوي أن هَاتين الآيتَين نزلَتا بالحديبيةِ ، وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمين ، وكان الصيدُ من الوحشِ والطير يغشَى رحالَهم . وفي قوله { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وجهانِ ؛ أحدُهما : وأنتم مُحرِمون بحجٍّ أو عُمرة ، والثاني : وأنتم داخِلون في الحرَمِ . وقولهُ تعالى : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ } دليلٌ على أن كلَّ ما يقتلهُ المحرِمُ من الصيدِ لا يكون مِلكاً ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى ذلك قَتلاً ، ولا يجوزُ أكلُ المقتولِ وإنما يجوز أكلُ المذبوحِ على شرط الذكاة . والصيدُ في اللغة : اسمٌ لكل مُمتَنعٍ متوحِّش ، فلا يفرقُ الحكمِ في وجوب الحلِّ بين المأكولِ منه وبين غيرهِ ، إلا أنه رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحَيَّةُ ؛ وَالْعَقْرَبُ ؛ وَالْغُرَابُ ؛ وَالْفَأْرَةُ ؛ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " وأرادَ بالكلب العقور : الذئبَ على ما وردَ في بعض الرواياتِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } ؛ روي أنه نزلَ في كعب بن عمرٍو ؛ عُرِضَ له حمارُ وحشٍ فطعنَهُ برُمحهِ فقتلَهُ ، ولم يكن عَلِمَ بنُزولِ التحريمِ . واختلَفُوا في صفةِ العمل الموجب للجزاءِ والكفَّّارة في قتلِ الصيد ، فقال الأكثَرون من أهلِ العلم : سواءٌ قَتَلَ الْمُحرِمُ الصَّيدَ عَمداً أو خطأًَ فعليه الجزاءُ ، وجعلوا فائدةَ تخصيصِ العمل بالذِّكر في هذه الآيةِ ما في نَسخِها بقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } ؛ لأن المخطئَ لا يجوزُ أن يلحقه الوعيدُ . والقول الثانِي : ما رُوي عن قتادةَ وطاووس وعطاء ؛ أنَّهم قالوا : ( لاَ شَيْءَ عَلَى الْخَاطِئ ) وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاس . والقولُ الثالث : وهو قولُ مجاهدٍ والحسن : ( أنَّ الْمُرَادَ بهِ إذا قَتَلَهُ نَاسِياً لإحْرَامِهِ ، وَحَصَلَ الْقَتْلُ عَمْداً ) . وهذا القولُ يقتضي أن غيرَ العامدِ الذاكر لإحرامهِ لا يؤمَرُ بالكفَّارة ، ولكنَّ اللهَ يعاقبهُ في الآخرةِ على ما فعلَهُ . وعلى هذا التأويلِ قالوا : إنَّ معنى قولهِ : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أي عادَ إلى هذا الفعلِ من بعد العلمِ بالنهي ، كان عقوبتهُ النقمة ينتقمُ الله منه . وقال آخَرون : هو القتلُ عَمداً وهو ذاكرٌ لإحرامه ، فحُكم عليه في العمدِ والخطأ الكفارةُ والجزاء ، وهو اختيارُ الشافعيِّ . وقال الزهريُّ : ( نَزَلَ الْقُرْآنُ بالْعَمْدِ ، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بالْخَطَأ ) . وقال ابنُ عبَّاس : ( إنْ قَتَلَهُ عَمْداً سُئِلَ : هَلْ قَتَلَ قَبْلَهُ شَيْئاً مِنَ الصَّيْدِ ؟ فَإنْ قَالَ : نَعَمْ ؛ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهُ ، وَيُقَالُ لَهُ : اذْهَبْ ، فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ، وَإنْ قَالَ : لَمْ أقْتُلْ قَبْلَهُ شَيْئاً ، حُكِمَ عَلَيْهِ ، فَإنْ عَادَ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ ثَانياً وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَمَا حُكِمَ ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ثَانِياً ، ويُمْلأُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْباً وَجيعاً ) . وعندَنا إذا عادَ حُكم عليه ثانياً ، وعليه الجمهورُ . وقال بعضُهم : إذا قتلَهُ عَمداً وهو ذاكرٌ لإحرامهِ ، فلا حُكم عليه ، وأمرهُ إلى اللهِ تعالى ؛ لأنه أعظمُ من أن يكون له كفَّارةٌ . والقولُ الأول أصحُّ هذه الأقاويلِ كلِّها ؛ لأن سائرَ جنايات الإحرامِ لا تختلفُ بين المعذور وغير المعذور ، وإنَّ الله تعالى أحلَّ للمُحرِم والمريضِ حلقَ الرأس على الأذى ، وأوجبَ عليه الفديةَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } نَوَّنَهُ أهلُ الكوفة ، ورفَعوا الـ ( مِثْلُ ) على البدلِ من الجزاءِ ، كأنه فسَّرَ الجزاء ؛ أي فعليهِ جزاءٌ مثل الصيدِ المقتول من النِّعم . وقرأ الباقون بالإضافةِ ، ومعناهُ : عليه أن يجزي بمثلِ المقتول ؛ أي يشترِي بقيمته من النَّعَمِ فيذبح . وقد تجوزُ إضافة الشيءِ إلى نفسه كما يقال : ثوبٌ جزوبات جديدٌ ، ويومُ الجمعةِ . ويحتملُ أن يكون معناه : عليه جزاءٌ مثل النَّعَمِ المقتولِ ، ومثلُ النَّعمِ المقتول : قيمتهُ من جهةِ الْحُكْمِ ، { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . وقولهُ تعالى : { هَدْياً } ؛ منصوبٌ على الحالِ ؛ أي يَحكُمان بقدر أن يهدي . وقولهُ تعالى : { بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ؛ لفظه لفظُ المعرفةِ ومعناهُ النَّكِرَةُ ، كأنه قال : بَالغاً الكعبةَ ، إلا أن التنوينَ حُذف استخفافاً ، وكنَّى بالكعبةِ عن الحرَمِ ؛ لأن حُرمتَهُ لأجلِ الكعبة . في ذكرِ بُلوغ الكعبة بيانُ اختصاصٍ من هذا الجزاءِ بالحَرَمِ ، وأنه لا يجوزُ ذبحهُ إلا فيه . ومعنى قولهِ تعالى : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } أي فعلَى القاتلِ الفداءُ مثل المقتولِ من النعم . والنَّعَمُ في اللغة : من الإبلِ والبقر والغنمِ ، فإذا انفردَت الإبلُ قِيْلَ : إنَّها نَعَمٌ ، وإذا انفردت البقرُ والغنم لم تسمَّ نَعَماً . واختلفَ أهلُ العلم في كيفيَّة الجزاء ، فقال أبو حَنيفة وأبو يوسف : ( يَنْظُرُ الحَكَمَانِ الْعَدْلاَنِ مِنْ أهْلِ الْمَعْرِفَةِ إلَى الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ ، فَيُقَوِّمَانِهِ حَيّاً فِي ذلِكَ الْمَكَانِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ ، فَإذا عُرِفَتِ الْقِيمَةُ خُيِّرَ الْقَاتِلُ ، فَإنْ شَاءَ اشْتَرَى بتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْياً مِنَ النَّعَمِ فَذبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَإنْ شَاءَ اشْتَرَى بهَا طَعَاماً فَأَطْعَمَهُ مَسَاكِينَ الْحَرَمِ وَغَيْرَهُمْ ؛ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أوْ شَعِيرٍ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ . وَإنْ شَاءَ صَامَ مَكَانَ كُلِّ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ نِصْفَ يَوْمٍ ، وَإنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَةُ الصَّيْدِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ ، صَامَ يَوْماً كَامِلاً إذا اخْتَارَ الصَّوْمَ ؛ لأَنَّ الصَّوْمَ مِمَّا لاَ تَبْعِيضَ فِيْهِ ) . وقال مُحَمد والشافعيُّ : ( إنْ كَانَ لِلصَّيْدِ الْمَقْتُولِ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ ، كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ النَّظِيرُ فِي الْخِلْقَةِ ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ؛ وَفِي بَقَرِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ ؛ وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ؛ وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ ؛ وَفِي الأَرْنَب عَنَاقٌ ؛ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ . وَإنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّيْدِ مِثْلٌ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ ، كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) . وعن محمَّد الخيار في هذا إلى الحكَمين دون التعيين ، وهو قولُ مالكٍ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } أي يحكمُ بالجزاءِ فقيهان عَدْلانِ ينظُران إلى أشبهِ الأشياء به ، فيحكُمان به . ورُوي عن قُبَيصة بن جابرِ قال : ( خَرَجْنَا حُجَّاجاً ، وَكُنَّا إذا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أوْقَدْنَا نَاراً ، وَأَحَلْنَا بشَيْءٍ وَنَتَحَدَّثُ ، فَبَيْنَمَّا نَحْنُ ذاتَ يَوْمٍ إذْ سَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ ، فَابْتَدَرْتُهُ وَرَمَيْتُهُ بحَجَرٍ فَأَصَبْتُ حَشَاهُ ، فَوَكَبَ دِرْعَهُ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ سَأَلْنَا عُمَرَ رضي الله عنه وَكَانَ حَاجّاً ، وَكَانَ عَبْدُالرَّحمَنِ بْنُ عَوْفٍ جَالِساً عِنْدَهُ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذلِكَ فَقَالَ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ : مَا تَرَى ؟ قَالَ : عَلَيْهِ شَاةٌ ، قَالَ : وَأنَا أرَى ذلِكَ ، قَالَ : فَاذْهَبْ فَاهْدِ شَاةً . قَالَ : فَخَرَجْتُ إلَى صَاحِبي فَقُلْتُ : إنَّ أمِيرَ الْمُؤْمِنِيْنَ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ ، قَالَ : فَلَمْ يَفَجَأْنَا إلاَّ عُمَرُ وَمَعَهُ الدُّرَّةُ ، فَعَلاَنِي بالدُّرَّةِ ، قَالَ : أتَقْتُلُ فِي الْحَرَمِ وَتُغْمِضُ الْفَتْوَى ؟ ! قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فَأَنَا عُمَرُ ، وَهَذَا عَبْدُالرَّحْمَنِ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } ؛ فيه قراءتان ؛ أحدُهما : الرفعُ والتنوين في ( كَفَّارَةٌ ) ، والرفعُ في ( طَعَامُ ) من غيرِ تنوين . والأُخرى : الرفعُ في ( كَفَّارَةُ ) بغير تنوينٍ ، والخفض في ( طَعَامِ ) على الإضافةِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } ؛ أي ليذوقَ عقوبة صُنعهِ . والوَبَالُ : تقبُّل الشيءِ في المكروه ، مأخوذٌ من الوبيلِ ، يقال : طعامٌ وبيلٌ ؛ وماء وبيلٌ ؛ إذا كانا ثَقيلين ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] أي ثَقيلاً شديداً . قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } ؛ أي تجاوزَ اللهُ عما مضَى من قتلِ الصيد قبل التحريم . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } ؛ أي من عادَ إلى قتلِ الصيد بعد العلمِ بالتحريم متعمِّداً لقتلهِ يعذِّبهُ الله في الآخرة ويعاقبهُ على فعلهِ . وأصلُ الانتقامِ : الانتصارُ والانتصاف ، وإذا أضيفَ إلى الله تعالى أريدَ به المعاقبةُ والمجازاة . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } ؛ أي منيعٌ بالنقمة ينتقمُ مِمَّن عصاهُ .