Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 9-9)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } ؛ قال الكلبيُّ : ( { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } مُبْتَدَأ ، وَخَبَرُهُ { يُحِبُّونَ } ) . وَهَذا ثناءٌ على الأنصار ، " وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أعْطَى الْمُهَاجِرِينَ مَا قَسَمَ لَهُمْ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى غَيْرِهِمْ أنْ يَحْسِدَهُمْ إذْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ . فَقَالَ لِلأَنْصَار : " إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لَهُمْ مِنْ دُوركُمْ وَأمْوَالِكُمْ ، وَقَسَمْتُ لَكُمْ مَا قَسَمْتُ لَهُمْ ، وَإمَّا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْقَسْمُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأمْوَالُكُمْ " فَقَالُواْ : لاَ ؛ بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارنَا وَأمْوَالِنَا وَلاَ نُشَاركُهُمْ فِي قَسْمِهِمْ . فَأَثْنَى اللهُ تعالَى عليهم بهذه الآيةِ " . والمعنى : لَزِمُوا دارَ الهجرةِ ولَزِمُوا الإيمانَ من قبلِ هجرةِ المهاجرِين ووَطَنُوا منازلَ أنفُسِهم ، فهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم من مكَّة من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } ؛ ضِيقاً وحسَداً ، { مِّمَّآ أُوتُواْ } ؛ مما أُعطِيَ المهاجرين من الغنائِم . ومعنى الآيةِ : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } يعني المدينةَ ، وهي دارُ الهجرةِ ، وتبَوَّأها الأنصارُ قبلَ المهاجرِين . وتقديرُ الآية : والَّذين تَبوَّءوا الدارَ مِن قبلِهم والإيمانَ ؛ لأن الأنصارَ لم يُؤمِنوا قبلَ المهاجرِين ، وعطفُ ( الإيْمَانَ ) على ( الدَّارَ ) في الظاهرِ لا في المعنى ؛ لأنَّ الإيمان ليس بمكانِ تَبَوَّءٍ . والتقديرُ : وآثَرُوا الإيمانَ واعتقَدُوا الإيمانَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ؛ معناهُ : ويُؤثِرُون المهاجرِين على أنفُسِهم بأموالِهم ومنازلهم ، ولو كان بهم فقرٌ وحاجة إلى الدار والنَّفقةِ ، بيَّن اللهُ أن إيثارَهم لم يكن عن غِنًى عن المالِ ولكن عن حاجةٍ ، فكان ذلك أعظمَ لأجرِهم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي ؟ فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أحَدِ أزْوَاجِهِ : " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ ؟ " فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إلاَّ الْمَاءُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ " ثُمَّ قَالَ : " مَنْ يُضِيفُ هَذا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ ؟ " . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، - قالَ في صحيحِ مُسلم : هُوَ أبُو طَلْحَةَ ، وَقِيْلَ : أبُو أيُّوبٍ ، والضَّيْفُ أبُو هريرةَ - فَمَضَى بهِ إلَى مَنْزِلِهِ ، فَقَالَ لأَهْلِهِ : هَذا ضيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرِمِيهِ وَلاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئاً ، فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ ، قَالَ : قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا ، ثُمَّ أسْرِجِي وَأحْضِرِي الطَّعَامَ ، فَإذا قَامَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ فَأَطْفِئِيهِ ، وَتَعَالَي نَمْضُغْ الْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْبَعَ . فَقَامَتْ إلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئاً ، ثُمَّ قَامَتْ فَأَسْرَجَتْ ، فَلَمَّا أخَذ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ فَأَطْفَأَتْهُ ، وَجَعَلاَ يَمْضُغَانِ ألْسِنَتَهُمَا ، فَظَنَّ الضَّيْفُ أنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ مَعَهَُ ، فَأَكَلَ الضَّيْفُ حَتَّى شَبعَ ، وَبَاتَا طَوِيَّيْنِ . فَلَمَّا أصْبَحَا غَدَوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ : " لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } " . وقال أنسٌ رضي لله عنه : ( أُهْدِيَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ رَأسَ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ وَكَانَ مَجْهُوداً ، فَقَالَ : لَعَلَّ جَاري أحْوَجُ إلَيْهِ مِنِّي ، فَبَعَثَ بهِ إلَيْهِ ، ثُمَّ إنَّ جَارَهُ قَالَ مِثْلَ ذلِكَ ، فَوَجَّهَ بهِ إلَى جَارٍ لَهُ ، فَتَدَاوَلَهُ تِسْعَةُ أنْفُسٍ حَتَّى رَجَعَ إلَى الأَوَّلِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ) . ويُحكى عن أبي الحسنِ الأنطاكيِّ : أنه اجتمعَ عندَهُ نَيِّفٌ وثلاثون رجُلاً بقريةٍ من قُرى الريِّ ومعَهم أرغفةٌ قليلة لم تُشبعْ جوعَتَهم ، فكسَّروا الرِّغفَانَ وأطفَأُوا السِّراجَ وجلَسُوا ليأكلُوا ، فلمَّا رفعَ فإذا الطعامُ بحالهِ لم يأكُلْ منه أحدٌ إيْثَاراً لصاحبهِ على نفسهِ . ويُحكى عن حذيفةَ العدويِّ قال : ( انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي وَمَعِي شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ، فَإذا أنَا بهِ فَقُلْتُ : أسْقِيكَ ؟ فَأَشَارَ : أيْ نَعَمْ ، فَإذا رَجُلٌ يَقُولُ : آهٍ ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أنْ انْطَلِقَ بهِ إلَيْهِ ، فَإذا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ ، فَقُلْتُ : أسْقِيكَ ؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ : آهٍ ، فَأَشَارَ هِشَامُ : أنِ انْطَلِقْ بهِ إلَيْهِ ، فَإذا هو قَدْ مَاتَ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى هِشَامٍ فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى ابْنِ عَمِّي فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ ) . ويحكى عن أبي يزيدٍ البسطاميِّ قال : " مَا غَلَبَنِي إلاَّ شَابٌّ مِنْ أهْلِ بَلَخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجّاً ، فَقَالََ لِي : يَا أبَا يَزِيدٍ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ قُلْتُ : إذا وَجَدْنَا أكَلْنَا ، وَإذا فَقَدَْنَا صَبَرْنَا . قَالَ : هَكَذا عِنْدَنَا كِلاَبُ بَلَخٍ ! فَقُلْتُ : مَا حَدُّّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : إذا فَقَدْنَا صَبَرْنَا ، وَإذا وَجَدْنَا آثَرْنَا ) . وسُئل ذو النونُ عن الزُّهد فقالَ : ( ثَلاَثٌ : تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ ، وَتَرْكُ الْمَفْقُودِ ، وَالإيْثَارُ عِنْدَ الْقُوتِ ) . قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ؛ أي مَن يدفَعُ عنه غائلةَ نفسهِ وحرصَ النفسِ حتى تطيبَ نفسهُ بذلك ، فأُولئك همُ النَّاجُونَ السُّعداء ، الباقون في الآخرةِ . والشُّحُّ في الآخرة : منعُ النَّفعِ ، وأمَّا في الدُّنيا فهو منعُ الواجب ، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أدَّى زَكَاةَ مَالِهِ ، وَأقْرَى الضَّيْفَ ، وَأعْطََى فِي النَّائِبَةِ " وقال سعيدُ بن جبير : ( شُحُّ النَّفْسِ هُوَ أخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ ) . وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ : لَقَدْ خِفْتُ أنْ لاَ تُصِيبَنِي هَذِهِ الآيَةُ { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وَاللهِ مَا أقْدِرُ أُعْطِي شَيْئاً أُطِيقُ مَنْعَهُ ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ : ( إنَّمَا ذلِكَ الْبُخْلُ وَبئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أنْ تَأْخُذ مَالَ أخِيكَ بغَيْرِ حَقِّهِ ) . وعن أبي هريرةَ قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيْمَانُ فِي قَلْب رَجُلٍ مُسْلِمٍ ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ مُسْلِمٍ قَطُّ " . واختلفَ العلماءُ في الشُّحِّ والبُخلِ ، فقال بعضُهم : هما واحدٌ ، وهو منعُ الفَضْلِ . وقال بعضُهم : بينهما فَرْقٌ ، والبخلُ أنْ يبخلَ الرجلُ بما في يدهِ ، والشحُّ أن يبخلَ بما في أيدِي الناسِ . وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " اتَّقُوا الشُّحَّ ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ أنْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ " . وعن أبي الْهَيَّاجِ الأسديِّ قال : " كُنْتُ أطُوفُ بالْبَيْتِ ، فَرَأيْتُ رَجُلاً يَقُولُ : اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي ، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذلِكَ ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذلِكَ ، فَقَالَ : إذا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أسْرِقْ وَلَمْ أزْنِ ، وَإذا الرَّجُلُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ) . ويُحكى أنَّ كسرَى قال لأصحابهِ ذاتَ يومٍ : أيُّ شيءٍ أضرُّ بابنِ آدمَ ؟ قالوا : الْفَقْرُ ، فقال كسرى : والشُّحُّ أضرُّ من الفقرِ ؛ لأن الفقيرَ إذا وجدَ شَبعَ ، وإن الشحيحَ لا يشبعُ أبداً .