Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 1-1)

Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { بَرَآءَ } ، مبتدأ والخبر : { إِلَى ٱلَّذِينَ } ، وحَسُنَ الابتداء بِنَكِرَةٍ ، لأنها موصوفة . ويجوز أن تكون رفعت على إضمار مبتدأ ، أي : هذه براءة . يقال : بَرِئْتُ من العهد براءةً ، وبَرِئْتُ من المرض وبَرَأْتُ [ أيضاً ] بُرْءاً ، وَبَرَيْتُ القلم بَرْياً ، غير مهموز مفتوح وأَبْرَيْتُ الناقة : جعلت في أنفها بُرَةً وهي حلقة من حديد . وسورة " براءة " من آخر ما نزل بالمدينة ، ولذلك قلّ المنسوخ فيها . ويدل على ذلك أن ابن عباس قال لعثمان ، رضي الله عنهما : ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني ، وإلى " براءة " وهي من المئين ففرقتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما : " بسم الله الرحمن الرحيم " ووضعتموهما في السبع الطُّوَل ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنزل عليه السور ذوات العدد ، فإذا نزلت عليه الآية قال : " اجعلوها في سورة كذا وكذا " ، وكانت " الأنفال " من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت " براءة " من آخر ما نزل ، وكانت قصتها تشبه قصتها ، ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في ذلك شيئاً ، فلذلك فرق بينهما ولم يكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم " . ورُوي أن عثمان قال : ظننت أنها منها . وكانت تُدْعَيَانِ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرينتَين ، فلذلك جعلتهما في السبع الطُّوَلِ . ففي قول عثمان هذا : دليل على أن تأليف القرآن عن الله ، عز وجل ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ، ويدل على أن ترتيب السور على ما في المصحف إنما كان على اجتهاد من عثمان وأصحابه ، ألا ترى إلى قول ابن عباس له : ما حملكم على كذا وكذا ؟ يدل على أنهم هم رتبوا السور ، وأن تأليف السور إلى تمام كل سورة كان على تعليم النبي عليه السلام إياهم ذلك . وقد صح أن أبيَّ [ بن ] كعب ، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ، وأبا زيد عم أنس ، كانوا قد جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . قال الشعبي : وأبو الدرداء حفظ القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومُجَمَّع ببن جارية ، بقيت [ عليه ] سورتان [ أَ ] وْ ثلاث . قال : ولم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان . وحفظ سالم مولى أبي حذيفة القرآن في عهد النبي عليه السلام إلا شيئاً بقي عليه . فهذا يدل على أنه كان مؤلفاً ؛ لأن هؤلاء لم يحفظوه إلا وهو مؤلَّف مرتَّبٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، صلوات الله عليه ، جل ذكره . وقال أبي بن كعب : آخر ما نزل " براءة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في أول كل سورة بـ : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء ، فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال " ، وكانت أولى بها لشبهها بها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعطيت السبع الطُّول مكان التوراة وأعطيت المِئِينَ مكان الزَّبور ، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل ، وفُضِّلْتُ بالمفصّل " . فهذا الترتيب يدل على أن التأليف / كان معروفاً عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وبذلك أتى لفظه ، عليه السلام . ومعنى ما رُوِيَ : أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن ، وأنه ضم إليه جماعة ، أنه إنما ( أمر ) بجمعه في المصحف ليرسل به إلى الأمصار ، لا أنه كان غير مؤلف ثم ألفه ، هذا ما لا يجوز ، لأن تأليفه من المعجز ، لا يكون إلا عن الله عز وجل . وقد قيل : إنما أمر بجمعه على حرفٍ واحدٍ ؛ لأنهم كانوا قد وقع بينهم الخلاف لاختلاف اللغات السبعة التي بها نزل القرآن ، فأراد عثمان أن يختار حرفاً واحداً ، هو أفصحها ليثبته في المصحف ، وإنما خص عثمان زيد بن ثابت لجمعه دون غيره ممن هو أفضل منه ؛ لأنه كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم . واختلف في الحرف الذي كتب عليه المصحف فقيل : حرفُ زيد بن ثابت . وقيل : حرفُ أُبَي بن كعب ؛ لأن قراءته كانت على [ آخر ] عَرْضةٍ عرضها النبي على جبريل عليهما السلام . وعلى الأول أكثر الرواة . ومعنى : حرف زيد ، أي : روايته وطريقته . " فَلْيَقْرَأُه بقراءة ابن أُمِّ عبد " ، يعني : ابن مسعود . فإنه إنما أراد به ترتيل ابن مسعود ، وذلك أنه كان يرتل القرآن إذا قرأه ، فخصه النبي عليه السلام ، بهذا الوصف لترتيله لا غير ذلك . قال الحسين بن علي الجعفي : فقراءة عبد الله هي قراءة الكوفيين ؛ لأن عمر رضي الله عنه ، بعث به إلى الكوفة ليعلمهم ، فأخذت عنه قراءته قيل أن يجمع الناس عثمان على حرف واحد ، ثم لم تزل في أصحابه ينقلها الناس عنهم . وأصحابه منهم : علقمة ، والأسود بن يزيد ، ومسروق بن الأجدع ، وزِرُّ ابن حُبَيْش ، وأبو وائل ، وأبو عمرو الشيباني وعبيدة ، وغيرهم . فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد ، كان أول من قرأ به بالكوفة أبو عبد الرحمن السَّلّمِي : عبد الله بن حبيب ، فأقرأ بجامع الكوفة أربعين سنة ، إلى أن توفي ، رحمه الله ، في إمارة الحجاج . وقد أخذ القرآن عن عثمان ، وعن علي ، وعن ابن مسعود ، وزيد ، وأُبي . وكان قد قرأ على علي ، وقرأ عليه علي ، وهو يمسك المصحف . وأقرأ هو الحسن والحسين . فلما مات أبو عبد الرحمن خلفه عاصم . وكان عاصم أخذ عن أبي عبد الرحمن ، وعرض على زِرٍ . وكان زر قد قرأ علي ابن مسعود . ثم انتهت قراءة ابن مسعود إلى الأعمش . وقرأ حمزة على الأعمش بالكوفة ، وقرأ أيضاً حمزة على ابن أبي ليلى ، وعلى حُمران بن أعين ، وقرأ حُمران على عُبَيد الله بن نُضَيْلة ، وقرأ عبيد الله على علقمة . وقرأ علقمة على ابن مسعود ، وقرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ أيضاً حمران على أبي الأسود وقرأ أبو الأسود على علي . وقد قال المبرد : إنما لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قبل " براءة " ؛ لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " خير ، و " براءة " أولها وعيد [ و ] نقض للعهود . وعن عاصم أنه قال : " بسم الله الرحمن الرحيم " لم تكتب أول " براءة " ؛ لأنها رحمة ، و " براءة " عذاب . قوله : { إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ } . إنما ذلك ، لأن عقد النبي على أمته كعقدهم لأنفسهم . وهؤلاء الذين بَرِئَ الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، إليهم من العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأذن لهم في السياحة في الأرض أربعة أشهر ، جنس من المشركين كان مدة العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقل من أربعة أشهر ، وأُمهلوا بالسياحة تمام أربعة أشهر ( ليرتاد كل واحد ) . والجنس الآخر كما عهده إلى غير أجل محدود / ، فَقُصِرَ به على أربعة أشهر ليرتاد كل واحد لنفسه ، ثم هو حرب بعد ذلك ، يقتل حيث وجد ، إلا أن يُسلم . فكان نزول " براءة " في بعض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين من العهود ، و [ في ] كشف المنافقين الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في تبوك وغيرهم ممن سر خلاف ما أظهر . وقيل : إنما أمهل أربعة أشهر ، من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عهد ، فأما من لم يكن له عهد ، فإنما جعل أجله خمسين ليلة ، عشرين من ذي الحجة والمحرم ، ودلّ على ذلك قوله : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] . قال ذلك ابن عباس . وكان النداء بـ : " براءة " يوم النحر . وقيل : يوم عرفة ، وبه تتم خمسون ليلة . ونزلت " براءة " أول شوال ، ومن ذلك اليوم كان أجل أربعة أشهر لأهل العهد . وقيل : أول شوال كان نزول " براءة " وذلك سنة تسع ، ومن ذلك الوقت أول أربعة الأشهر للجميع . وهو قول الزهري . فكان أجل من كان له عهد أربعة أشهر من ذلك الوقت ، ومن لم يكن له عهد انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك أربعة أشهر أيضاً . وقال ابن عباس : إنما كان أول الآجال من يوم أُذِّنَ بـ : " براءة " ، وذلك يوم النحر ، فجعل لمن له عهداً أربعة أشهر من ذلك اليوم ، وذلك إلى عشر من ربيع الآخر . ولمن لم يسم له عهد آخر الأشهر الحرم خمسين يوماً ، ثم لا عهد لهم بعد ذلك ولا ذمة ، يقتلون حتى يدخلوا في الإسلام . وكان علي هو الذي نادى بـ : " براءة " ، وكان أبو بكر أميراً عليهم ، فلم يحج المشركون بعد ذلك [ العام ] ، وكانوا يحجون مع المسلمين قبل ذلك . قال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، عاهد قريشاً زمن الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر الله عز وجل ، نبيه عليه السلام ، أن يُوفِّيَ بعهدهم إلى مدتهم ، وأن يؤخروا من لا عهد له انسلاخ المحرم ، ثم يقاتلون حتى يشهدوا [ أن ] لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وألا يقبل منهم إلا ذلك . وقال السدي : كان آخر عهد الجميع تمام أربعة أشهر لعشر خلون من ربيع الآخر ، وهذا كله كان في موسم سنة تسع . وقال الكلبي : إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بالأربعة الأشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون ، فأما من كان عهده ، أكثر من أربعة أشهر ، فهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يتم له عهده ، فقال تعالى : { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتح مكة سنة ثمان عَنْوةً ، واستخلف على الحج سنة تسع أبا بكر . ونزلت " براءة " بعد خروج أبي بكر في شوال . وكانوا يحجون على رسومهم التي كانوا عليها ، ولم يكن فرض الحج ولا أمر به ، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم " براءة " مع علي رضي الله عنه ، ليتلو الآيات على الناس وينادي بالناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان فنادى بذلك علي ، وأعانه على النداء أبو هريرة وغيره بمنىً وفي سائر أسواقهم . فحج النبي صلى الله عليه وسلم ، في العام المقبل سنة عشر ، ولم يحج معه مشرك ، وهي حجة الوداع ، وفي ذلك نزل : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] ، فلما نزل ذلك وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من الأطعمة والتجارات التي كان المشركون يقدمون بها ، فأنزل الله عز وجل : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ } [ التوبة : 28 ] ، الآية ، ثم أحل [ في ] الآية التي تتبعها الجزية ، ولم تكن قبل ذلك / ، جعلها الله عوضاً مما يفوتهم من تجارتهم مع المشركين . وهو اختيار الطبري [ ومما يدل على صحة ما اختار الطبري ] من أنه أمر الله عز وجل ، نبيه عليه السلام ، أن يتم لمن عهده [ أربعة أشهر فما دون أربعة أشهر ، ومن كان عهده أكثر أتم له عهده ] ، إلا أن يكون نقض عهده قبل انقضاء المدة ، فأما الذين لم ينقضوا ولا تظاهروا عليه ، فإن الله عز وجل ، أمر نبيه ، عليه السلام ، بإتمام العهد لهم ، وأمره أن يؤخر الذين نقضوا العهد أربعة أشهر ، وإن كان عهدهم أكثر مدة . وهو قول الضحاك . قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ [ لَهُمْ ] } [ التوبة : 7 ] . فأمر الله عز وجل ، نبيه [ عليه السلام ] ، بالاستقامة لهم على عهدهم ، ما استقاموا . وأمر الله عز وجل ، أن يؤخر الذين نقضوا وظاهروا عليه أربعة أشهر . وقد رُوي : أن علياً كان يقول في ندائه : ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته .