Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 1-21)
Tafsir: al-Hidāya ilā bulūġ an-nihāya
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } إلى آخرها . معناه : ورب الليل إذا غشى النهار بظلمته فأذهب ضوءه . وقيل : المعنى : يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء . ثم قال تعالى : { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } . أي : ( إذا ) أضاء وأظهر للأبصار ما أخفته ظلمة الليل . وكان قتادة يذهب - فيما أقسم الله به من الأشياء - أنه إنما أقسم به لعظم حاله عنده . ( ثم قال تعالى ) : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } . قيل : " ما " بمعنى " من " ، يريد نفسه تعالى جل ذكره . وقيل : " ما " والفعل مصدر ، أي : وخلق الذكر والأنثى . ( وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : والذكر والأنثى ) بالخفض بغير " ما " . وأجاز الفراء : وما خلق الذكر والأنثى بالخفض على البدل من " ما " . وقال الأخفش : " ما " بمعنى " الذي " ، جعلها لمن يعقل . وروي عن أبي [ عمرو ] أنه قال : أهل مكة يقولون للرعد : سبحان من سبحت له . وقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } هذا جواب القسم أي : إن عملكم لمختلف أيها الناس ، لأن منكم الكافر والمؤمن ، والعاصي والمطيع . وقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي : من أعطى في سبيل الله ومرضاته ، واتقى الله فاجتنب المعاصي ، وصدق بالجنة . قاله مجاهد . وقال ابن عباس : من أعطي ما عنده من الفضل واتقى ربه . وقال قتادة : من أعطى حق الله واتقى محارمه . وقال عباس : - وهو مروي عن مجاهد أيضاً - . { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي : وصدق بالخلف من الله جل وعز على نفقته في ذات الله . وقال الضحاك : { بِٱلْحُسْنَىٰ } " بـ لا إله إلا الله " وروي ذلك ( أيضاً ) عن ابن عباس ، وقاله [ أبو ] عبد الرحمن السلمي . وقال قتادة : { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } [ أي ] : بموعود الله جل وعز على نفقته ، فعمل / لذلك الموعود الذي وعده الله . وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم غربت فيه شمسه إلا [ وبجنبيها ] ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين - الجن والإنس - يقولان : اللهم عجل لمنفق خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً وأنزل الله جل وعز في ذلك من القرآن : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } " . ( وروى الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صباح يصبح إلا وصارخ يصرخ : أيها الخلائق ، سبحوا القدوس " . وروى أبو ذر ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده . وما من الله على عبده بمثل أن يلهمه ذكره " . وروي أنه ما من يوم إلا وهو ينادي : أنا يوم جديد ، وأنا عليكم شهيد ( ابن آدم ) ، إني لن [ أمر بك ] أبداً ، فاتق الله واعمل في خيراً . فإذا هو أمسى قال : اللهم لا تردني إلى الدنيا أبداً . وروي أن هذه الآية ( نزلت ) في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : ( كان ) أبو بكر ( الصديق رضي الله عنه ) يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني ، أراك تعتق أناساً ضعفاء ، ولو أنك أعتقت رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ؟ فقال : إني أريد ما عند الله . قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } الآية . وروى محمد بن إسحاق أن أبا بكر رضي الله عنه اشترى تسعة كانوا في أيدي المشركين ، فأعتقهم لله جل وعز . فأنزل الله : فأما من [ أعطى ] … الآية . و ( معنى ) { لِلْيُسْرَىٰ } : للحال اليسرى ، أو [ الخلة ] اليسرى ، وهي العمل بما يرضاها الله . ثم قال تعالى : { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ } . أي : بخل بالنفقة في سبيل الله ، واستغنى عن ربه فلم يرغب [ في العمل ] بطاعته وما يوجب له رضاء ربه . قال ابن عباس : هو " من أغناه الله [ فبخل ] بالزكاة . وقال قتادة : من بخل عن الله واستغنى في نفسه عن ربه . والاختلاف في { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } على نحو الاختلاف في : { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } أي : [ للخلة ] العسرى في الدنيا ، وذلك العمل بالمعاصي . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، [ فأتانا ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة ، فنكس رأسه ، فجعل [ ينكت ] بمخصرته ( في الأرض ) ، ثم قال : ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار [ قيل ] : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ ! فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ( ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء ) ، فقال صلى الله عليه وسلم : اعملوا ، فكل ميسر ، أما أهل السعادة [ فييسرون ] إلى عمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء [ فييسرون ] إلى عمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } الآيتين " . وقال الضحاك : للعسرى : للنار . والتيسير إنما يكون في الخير ، وإنما جاء هنا للشر على معنى : الذي يقوم لهم مقام ( التيسير ) . العسرى : مثل : " فبشرهم بعذاب أليم " . ومثله ما أنشد سيبويه : @ تحيَّةُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ . @@ وقال الفراء : لما وقع للخير تيسير جاز أن يقع في الشر مثله ، ولا يكون ذلك إلا إذا اجتمع الخير والشر . ثم قال تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } أي : وأي شيء يغني عنه ماله الذي بخل به إذا هلك وتركه . قال أبو صالح وقتادة : ( إذا تردى ) ، ( أي ) : إذا سقط في النار فهوى فيها . وقال قتادة : إذا تردى : إذا مات . ثم قال تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } . ( أي ) : إن علينا بيان الحق من الباطل . قال قتادة : على الله بيان حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . بمعنى الآية - على قوله - : إن علينا للهدى والضلالة . ولكن ترك ذكر الضلالة [ للدلالة ] عليه ، كما قال : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] ، وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه . ومثله ما أنشد سيبويه : @ فما أدري إذا [ يممت ] / وجهاً ( أريد ) الخير أيهما يليني @@ فحذف الشر لدلالة الخير عليه . فالأشياء تدل على أضدادها وإن لم تذكر الأضداد ، والتقدير : أريد الخير وأكره الشر . وقيل معنى الآية : إن علينا سبيل من [ سلك ] ( سبيل ) الهدى . أي : من أخذ سبيل فعلى الله سبيله ، كما قال : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] و { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] . وكما قال : { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } [ النحل : 9 ] أي : من أراد الله عز وجل فهو قاصد للسبيل هذا قول الفراء . وقال في قوله : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } ، أي : ( إن ) لنا ثواب هذه وثواب هذه . وقال غيره : معناه : وإن لنا ملك ما في الدنيا والآخرة ، نعطي من نشاء ونحرم من نشاء . والمعنى أنه يوفق من [ يشاء ] من خلقه إلى طاعته في الدنيا فيكرمه بذلك في الآخرة ، [ ويخذل ] من [ يشاء ] من خلقه عن طاعته في الدنيا ، فيهينه بذلك في الآخرة . ثم قال تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } أي : أنذرتكم أيها الناس ناراً تتوقد وتتوهج ، أعدت لمن عصى الله وكفر به . ثم قال تعالى : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } أي : لا يدخلها ويصلى سعيرها إلا الأشقى الذين كذب بآيات الله وأعرض عنها . كان أبو هريرة يقول : لتدخلن الجنة إلا من أبى : قالوا : يا أبا هريرة ، ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ ! فقال : الذي كذب وتولى . والمرجئة الذين يقولون : " [ الإيمان ] قول بلا عمل " ، يتعلقون بهذه الآية ، وفي تقديرها أقوال ، منها : أن المعنى لا يصليها إلا الأشقى ، ( و ) { ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } . فتكون الواو مضمرة . حكى المبرد وغيره أن العرب تقول : أكلت خبزاً لحماً [ تمراً ] ، فيحذفون حرف العطف . وأنشد أبو زيد : @ كيف أصبحت كيف أمسيت مما يثبت الود في فؤاد الكريم @@ وإضمار الواو قبيح ليس بكثير في كلام العرب ، وفيه نقض للأصول وخروج عن الظاهر . ( وقيل : التقدير : لا يصلاها إلا ) الأشقى من الكفار والفساق ، ثم أعاد ذكر الكفار - خاصة - تنبيهاً عليهم ، لأنهم أعظم ذنباً من الفساق . وقيل : التقدير : فأنذرتكم نارا هذه صفتها . وقيل : التقدير : لا يصلاها إلا ) أشقى أهل النار ، وأشقاهم : الكفار . فدل هذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم . [ وقيل : إن النار طبقات وصفوف مختلفة في شدة العذاب وهوله ، فأعلمنا الله في هذه الآية أن هذا الصنف من النار التي تتوهج وتتوقد ولا يدخله إلا الذين كذبوا وتولوا عن الإيمان ، وثم أصناف من ذلك عذاب النار دون ذلك يدخلها غير هذا الصنف . وأقل عذاب النار عذاب أليم ، أجارنا الله منها ] . وقيل : المعنى : لا يخلد فيها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ، فهذا [ للكفار ] بإجماع خاصة . وهذا القول أحسن الأقوال عندي . وقال الفراء : { ٱلَّذِي كَذَّبَ } معناه : [ الذي ] قصر عما أمر به ، ليس معناه جحد ، وهو مثل قوله : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] ، أي ، تقصير ولا تخلف . ثم قال تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } أي : وسيوقى دخول النار وصليها التقي . " فأفعل " في موضع " فعيل " . ثم وصف التقي فقال : { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } أي : يعطي ماله في الدنيا يتطهر بذلك من ذنوبه . ثم قال : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي : وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يعطي ماله يتزكى به [ عند الله ] من نعمة يجازيه عليها . أي : ليس يعطي ما يعطي مجازاة لأحد [ على ] يد له عنده ، ولا مكافأة على نعمة سبقت قبله ، لكن يعطي ابتغاء وجه ربه الأعلى و " إلا " في هذا المعنى " لكن " . وقيل : المعنى : وماله عند أحد في ما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها ، فيكون على القلب . وهذا أحد قولي الفراء . ومثله قول النابغة : @ وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي [ على وعل من ذي المطارة عاقل ] @@ يريد : حتى ما تزيد مخافة وعلٍ ( على ) مخافتي . وفيه بعد ، لأن كتاب الله لا يحمل على القلب إلا إذا لم يكن حمله إلا عليه . ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه . قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما . قال هشام بن عروة عن أبيه : أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها ، فأنزل الله جل ذكره فيه : { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } … إلى قوله : { يَرْضَىٰ } . قال ابن جبير : أعتق أبو بكر ناساً ستة أو سبعة لم يلتمس مِنهم جزاء ولا شكوراً . منهم : بلال وعامر بن فهيرة . وقوله : { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } أي : [ ولسوف ] يرضى في الآخرة هذا الذي يؤتي ماله يتزكى .