Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 103, Ayat: 1-3)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، خرج قوله : { وَٱلْعَصْرِ } مخرج القسم ، والقسم موضوع في الشاهد ؛ لتأكيد ما ظهر من الحق الخفي ، أو لنفي شبهة اعترضت ، أو دعوى ادعيت ؛ فكذلك في الغائب . ثم الأصل بعد هذا : أنه ليس في جميع القرآن شيء مما وقع عليه القسم إلا إذا تأمله المرء واستقصى فيه ، وجد فيه المعنى الذي أوجبه القسم لولا القسم . ثم اختلفوا في تأويل قوله : { وَٱلْعَصْرِ } : فمنهم من قال : هو الدهر والزمان . ومنهم من قال : هو آخر النهار ، فذلك وقت يشتمل على طرفي النهار ، وهو آخر النهار وأول الليل ؛ فكأنه يراد به : الليل والنهار . وقال أبو معاذ : تقول العرب : " لا أكلمك العصران " ، يريدون : الليل والنهار ، وفي مرور الليل والنهار مرور الدهور والأزمنة ؛ لأنهما يأتيان على الدهور والأزمنة وما فيهما ؛ فكان في ذكر الليل والنهار ذكر كل شيء ، والقسم بكل شيء قسم بمنشئه ؛ لأن كل شيء من ذلك [ إذا ] نظرت فيه ، دلك على صانعه ومنشئه . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، إن الدنيا وما فيها كأنها خلقت وأنشئت متجراً للخلق ، والناس فيها تجار ؛ كما ذكره في غير آي من القرآن ، قال الله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] ، وقال : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ، أي : إن الإنسان لفي خسار من تجارته ومبايعته { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } الآية . ولقائل أن يقول : كيف استثنى أهل الربح من أهل الخسران ، ولم يستثن أهل الخسران من أهل الربح ؟ ! فيقول : " إن الإنسان لفي ربح إلا الذين كفروا " ، واستثناء هذه الفرقة من تلك أولى في العقول من تلك ؟ ! والجواب عن هذا : أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقوم بأجمعهم كانوا أهل كفر وخسار ؛ فلذلك وقع الاستثناء على ما ذكر ؛ إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة ، وإن كان القسم الثاني في حد الجواز ، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة . ثم قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ } اسم جنس ؛ فكأنه أراد : جميع الناس ؛ ألا ترى أنه قال : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، ولا تستثنى الجماعة من الفرد ؛ فكأنه يقول - على هذا - : إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر . وقوله - عز وجل - : { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } يحتمل أن يكون تأويله : الصالحات التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره ؛ ألا ترى أنه قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 110 ] ، نقول : المعروف هو المعروف الذي هو معروف في الطبع والعقل ، والمنكر الذي ينكره العقل ، وينفر عنه الطبع . وإن كان المراد منه : الكفر ، فكأنه قال : إن الكافرين في هلاك وخسار ، إلا من آمن بالله تعالى ورسوله وعمل صالحا . ثم في هذه السورة ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكذلك ذكر الصالحات في سورة " التين " ، وترك ذكر الصالحات في سورة " الكَبَد " ؛ فكأن الله - تعالى - ذكر الصالحات في تلك السورة ؛ لما قد كان ذكرها قبل ذلك ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } [ البلد : 14 ] ، وغير ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } : الحق في الأصل كل ما يحمد عليه فاعله ، والصبر : هو الكف عن كل ما يذم عليه فاعله ؛ فكأن التواصي بالحق تواص بكل ما يحمد عليه ، والتواصي بالصبر تواص عن كل ما يذم عليه . ثم [ في ] ظاهر قوله - تعالى - : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية - ما يوجب أن من لم يجمع بين هذه الأشياء التي ذكرها { لَفِى خُسْرٍ } ؛ فيكون ظاهره حجة للخوارج والمعتزلة ، إلا أن الانفصال عن هذا - والله أعلم - : أن الله تعالى وعد الجنة لمن جمع هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية ، وذكر الإيمان مفردا في آية أخرى ، ووعد عليه الجنة ؛ فلا يخلو وعده الجنة عن الإيمان المفرد في تلك الآية من أحد وجهين : إما أن يكون ذكر الإيمان مفردا ، وأراد به الاكتفاء عن ذكر الجملة ؛ فيكون في ذكر طرف منه ذكر لجملته . أو يكون في إيجاب الجنة له على مفرد الإيمان ، فالحال فيه موقوفة . ولأن الله - تعالى - أوجب الجنة ، ولم ينف إيمانه عمن ينقص عن ذلك ، فالحال فيه موقوفة على كليته ، وإذا كان كذلك لم يقطع القول على إيجاب الجنة لمن أتى بالإيمان مفردا ، أو على إيجاب النار ؛ فيكون السبيل فيه على الرجاء ؛ لأنه لو لم يذكر كان يقع [ فيه اليأس ] ، وأصل كل عبادة في الدنيا إنما بنيت على الرجاء والخوف ؛ فلذلك كان الأمر على ما وصفنا . أو نقول بأن الله - تعالى - أوجب النار على من أتى بجميع السيئات ، ولم يكن فيه دليل على أن من أتى بالكفر وحده لا يستوجب به نارا ، فكذلك الله - سبحانه وتعالى - وإن أوجب الجنة لمن جمع بين هذه الأعمال ؛ فلا يدل على أن من أتى بالإيمان وحده ، لا يستوجب به الجنة . وعلى أنه يجوز أن يكون استثناء كل من أتى بشيء من هذه الأعمال بالانفراد ؛ فيكون فيه استثناء كل طائفة من ذلك على حدة ، كأنه قال : إلا الذين آمنوا وإلا الذين عملوا الصالحات ، وإلا الذين تواصوا بالحق . وإذا كان كذلك لا يكون حجة لهم ، وإذا أريد به الجمع يكون حجة ؛ فجاء التعارض والاحتمال ؛ فوجب التوقف . ويحتمل أن يراد به الاعتقاد ، أي : إن الإنسان لفي خسر ، إلا من آمن ، واعتقد هذه الأعمال الصالحة ؛ كقوله - تعالى - : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ … } الآية [ التوبة : 5 ] ، والله أعلم .