Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 107, Ayat: 1-7)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَرَأَيْت ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } ، اختلف في نزوله : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هي مدنية . وقال مقاتل ومجاهد وجماعة : هي مكية . وجائز أن يكون أولها نزل بمكة ؛ لأن الذي ذكر أنها نزلت في شأنه كان مكيا ، وهو العاص بن وائل السهمي مع ما أنهم هم الذين يكذبون بيوم الدين ، وآخرها نزل بالمدينة ؛ لأن في أواخرها وصف المنافقين ، وهو ما ذكر من المراءاة في الصلاة ، ومنع ما ذكر . ثم إن كان نزولها في الكفرة ، فالجهة فيه والمعنى غير الجهة والسبب لو كانت نزلت في المنافقين . ثم قوله - عز وجل - : { أَرَأَيْت } حرف يستعمل في موضع السؤال والاستفهام . ويجوز أن يكون استعماله على وجه التقرير عند السائل ؛ لما يراد به إعلامه ؛ على سبيل ما روي في الخبر : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما قبل منك ؟ " ، وكان ذلك في موضع التقرير ؛ فكذلك قوله : { أَرَأَيْت } ، معناه - والله أعلم - : أن اعلم أن الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين هو الذي يكذب بالدين . قال أهل التأويل جميعا : { يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } ، أي : بالحساب ، والبعث . وجائز أن يكون يكذب بالدين الذي يظهر ، أي : يكذب بالدين الذي أظهر لك . ولا نحقق أن كان في المنافقين ؛ لأن أهل النفاق كانوا يكذبون ما يظهرون من الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وإن كان في أهل الكفر ، فهو على الرؤساء منهم ؛ فتكذيبهم بالدين هو ما كانوا يظهرون لأتباعهم من الجهد والشدة ، يموهون بذلك على أتباعهم ؛ ليقع عندهم أن الذي هم عليه حق ، وأن الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل ؛ فيكذبون بالدين الذي يرون من أنفسهم ، ويظهرون بالتمويهات التي يموهون بها عليهم . فكيفما كان إن كانت نزلت في المنافقين ، أو في أهل الكفر ، أو في الذي كذب بالحساب والبعث ، أو بالذي ذكرنا أنه يظهر خلاف ما يضمر - ففيها عظة وتنبيه للمؤمنين وزجر لهم عن مثل صنيعهم ؛ لأنه نعت الذي كذب بالدين إن كان المراد به الحساب ، أو الدين نفسه ؛ حيث قال : { فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ، كأنه قال : الذي يكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم ؛ أي : يظلم اليتيم ، ويمنع حقه . { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ، يقول : - والله أعلم - للمؤمنين : لا تظلموا اليتيم ، ولا تمنعوا حقه ، ولا تسيئوا صحبة اليتيم ، كما فعل من كذب بالدين وحضوا على طعام المسكين ؛ يصف بخلهم واستهانتهم باليتيم والمساكين ، وسوء معاملتهم التي عاملوهم ، يعظ المؤمنين ويزجرهم عن ذلك . وجائز أن يكون قوله : { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ؛ لما عندهم أن من أعطي المال ، ووسع عليه الدنيا إنما أعطي ذلك لكرامة له عند الله - تعالى - ومن ضيق عليه ، ومنع ذلك عنه ؛ لهوان له عنده وحقارة ؛ كقوله - عز وجل - : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . وقوله - عز وجل - : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ … } الآية [ يس : 47 ] ، يظنون أن الله - تعالى - منع من منع ذلك ؛ لهوان له عنده ، ومن وسع عليه ، وسع لكرامة له عنده ؛ فيقول : كيف أكرم من أهانه الله تعالى ؛ فيحتمل أن يكون ما ذكر أنه لا يحض على طعام المسكين . ويحتمل أن يكون الذي حمله على ظلمه اليتيم ، وتركه إطعامه تكذيبه بالبعث ؛ لأنه ليس لليتيم من ينصره ، ويقوم بدفع من يقصد ظلمه ، ويمنع حقه ، وكان لا يخاف عقوبة البعث ؛ إذ لا يؤمن به . ثم يحتمل قوله : { أَرَأَيْتٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ … } الآية ؛ أن يكون في الاعتقاد والرؤية . ويحتمل أن يكون في حق الفعل نفسه ؛ فإن كان في الاعتقاد والرؤية ، فأهل الإسلام لا يعتقدون [ ذلك ] ، وإن كان في حق الفعل فإنهم ربما يفعلون ذلك . وحمله عندنا على الاعتقاد أوجب وأقرب ؛ لما وصفنا أن اليتيم لا ناصر له ، وليس للكافر خوف العاقبة ؛ لما لا يؤمن بذلك ، وإنما يمتنع المرء في الغالب من سوء الصحبة ؛ لهذين : إما رغبة في جزاء الآخرة ، أو خوف المكافأة في الدنيا ، والمساكين ليس لهم في الدنيا ما يكافئهم ويجازيهم ، وليس لليتيم ناصر ؛ ليخاف منه ، ولم يكن للكافر رغبة في ثواب الآخرة ، ولا خوف من العقاب ؛ لعدم تصديقه بذلك . ثم قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } هو النهاية في وصفه بالبخل ؛ لأن الحث على الصدقة أن يرجيه ويطمعه في ثوابه ، فإذا لم يرج هو نفسه ، فكيف يرجي غيره ؟ مع ما أن الحكمة عند هؤلاء الكفرة أن من جر إلى نفسه نفعا فهو الحكيم ، ومن ضر نفسه فهو جائر غير حكيم ، وهو إذا منع الصدقة نفع نفسه ، وإذا أوفى اليتيم حقه ضرها ؛ فلذلك لا يرغب فيها ؛ فهذا المعنى الذي وصفناه ، دعانا إلى توجيه التأويل إلى الاعتقاد . وقوله - عز وجل - : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } : إن كان هذا في أهل النفاق ، فأهل النفاق كذلك كانوا لا يفعلون شيئا من الطاعات إلا وكانوا عنها لاهين ساهين ، وإذا فعلوا شيئا منها ، فعلوا مراءاة ؛ كقوله - تعالى - : { يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، وقوله : { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] ، فذكر كسلهم وبخلهم ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ … } إلى آخر ما ذكر في المنافقين على ما ذكرنا من نعتهم . وجائز أن يكون في أهل الكفر ، وأهل الكفر كانوا يصلون ، كقوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً … } [ الأنفال : 35 ] ، أخبر أن صلاتهم في الحقيقة ليست بصلاة ؛ فجائز أن تكون على صورة [ الصلاة الحقيقية ] ، وقد ذكر أنهم كانوا يصلون مستقبلين نحو أصنامهم ، يرون الناس كثرة اجتهادهم في طاعة الأصنام ، حتى إذا رآهم من نأى عنهم ظن [ أن ذلك ] حق ، فيكون في ذلك صد عن إجابة الرسول ، ودفع وجوه القوم عنه ، وذلك قوله : { إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] . ويحتمل أن يكون كناية عن الخضوع والتذلل ؛ فيكون معناه : ويل للذين لا يخضعون ولا يخشعون . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : سهوا عن صلاتهم لأنفسهم ، وصلاتهم التي هي لأنفسهم هي أن تكون الصلاة لله - تعالى - ويجعلوها له ، ولا يصلوا لغير الله من الأصنام وغيرها ؛ لأن من صلى لله - تعالى - يرجع منفعتها في الحقيقة إليه ؛ لما تعلق بها من الجزاء الجميل ، فهم بالسهو عن تلك الصلاة وتركها [ يلحقون الضرر ] بأنفسهم ويجعلونها للأصنام التي لا تضر ولا تنفع . والثاني : سهوهم [ عن ] الصلاة حين أضاعوها ، وهو ما ذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } [ العنكبوت : 45 ] ؛ فيقول : سهيتم [ عن ] الصلاة فلم تمنعهم عما ذكر . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا : " هم الذين يؤخرونها عن وقتها " . وقال مجاهد : الساهي : الذي لا يبالي صلى أم لا ؛ ألا ترى أنه قال : { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ } . وقال الحسن : هم المنافقون ، يؤخرونها عن وقتها ، ويراءون إذا صلوا . وقال سعد : الترك عن الوقت . وقال أبو العالية : الساهي : [ هو ] الذي لا يدري على شفع انصرف أو على وتر ؟ وروي عن [ عطاء بن يسار ] أنه قال : الحمد لله حيث لم يقل : " في صلاتهم ساهون " ، ولكنه قال : { عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } . وقوله - عز وجل - : { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : هو الزكاة ، رواه ابن الزبير ، وعكرمة ، ومجاهد عنه . وروي عن علي - رضي الله عنه - : هو الزكاة . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في رواية أخرى هو العارية . وعن ابن عمر قال : هو الذي لا يعطي حقه ، وهو الزكاة . وروي عن علي - رضي الله عنه - في رواية : { ٱلْمَاعُونَ } : منع القدر ، [ والدلو ، والفأس ] . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مثله ، وكذا عن ابن عباس في رواية [ أخرى ] . وقال أبو عبيدة : كل ما فيه نفعه فهو الماعون . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما جاء أهلها بعد . فإن كان ذلك على العواري ، فالمعنى منها ذم البخل ، وأشده منع الفرض . وجائز أن يكون الماعون كل معروف وكل ما يعار ، يدخل في ذلك الزكاة وغيرها ؛ ففيه ذكر بخلهم وشحهم ومنع الحق من المستحق . قال أبو عوسجة : { يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } ، أي : يضرب ، ويدفع في قفاه ؛ يقال : دع يدع دعا ، فهو داع ، ومدعوع . وقال القتبي : { يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } ، أي : يدفعه ، وكذلك في قوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] ، أي : يدفعون . وقال أبو عوسجة : { وَلاَ يَحُضُّ } : لا يحرض ، ولا يحث ، { سَاهُونَ } غافلون . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { لاهون } ، و { أرأيتك } بالكاف ، وكذلك في حرف أبي رضي الله عنه ، [ والله أعلم بحقيقة ما أراد ] .