Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 108, Ayat: 1-3)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنعام عليه والإفضال ؛ ليستأدي بذلك شكره والخضوع له . ثم اختلفوا في { ٱلْكَوْثَرَ } : [ فقيل ] : هو الخير الكثير ، والخير الكثير : ما أعطي من النبوة والرسالة وما لا ينجو أحد من سخط الله - تعالى - إلا به ، وهو الإيمان به والتصديق له ، وما صيره معروفا مذكورا في الملائكة ، وما قرن ذكره بذكره ، ورفع قدره ومنزلته في جميع الخلائق ، وغير ذلك مما لا يحصى ، وهو ما قال : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 4 ] . وقال بعضهم : { ٱلْكَوْثَرَ } : نهر في الجنة ، وعلى ذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه سئل عن { ٱلْكَوْثَرَ } فقال : " نهر في الجنة " ، أو قال ذلك من غير سؤال . فإن ثبتت الأخبار فهو ذاك كفينا عن ذكره ، وإن لم تثبت الأخبار فالوجه الأول أقرب عندنا ؛ لأنه ليس في إعطائه النهر تخصيص في التشريف والعطية ؛ لأن الله - تعالى - وعد لأمته ما هو أكثر من هذا ؛ لما روي في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لأهل الجنة في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " ، ونحن نعلم أن هذا في الإنعام أكثر من النهر الذي وصف . وقال بعضهم : { ٱلْكَوْثَرَ } : شيء أعطاه الله - تعالى - رسوله لا يعرف . وأصله : أنه شيء خاطب به رسوله ، وهو قد عرفه ؛ فلا يجب أن يتكلف معرفته وتفسيره ؛ لأنه إن أخطأ لحقه الضرر ، وإن أصابه لم ينفع كثير نفع . وقيل : { ٱلْكَوْثَرَ } : هو حرف أخذ من الكتب المتقدمة . وقوله - عز وجل - : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } ، اختلف فيه : قال بعضهم : حقيقة الصلاة هي الخضوع والخشوع والدعاء ، أمره بجميع ما يعبده في نفسه ، وأمره أن يأتي بما تعبده من القرابين ، والذبائح ، والضحايا التي فيها نفار الطباع ؛ حتى أن من الكفرة من يحرم الذبائح والنحر ؛ للآلام التي فيها ، والطباع تنفر عن ذلك ؛ فتعبده بالذي فيه مناقضة طبعه ونفاره عنه . وجائز أن يكون لا على الأمر بالصلاة والنحر ، ولكن معناه : إذا فعلت ذلك فافعل لله ؛ لأن أولئك الكفرة كانوا يصلون للأصنام ، ويذبحون لها ؛ كقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، أي : للنصب ، فأمره أن يجعل ذلك لله تعالى . وقال الحسن : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } صلاة العيد ، وانحر البدن بعدها . وقال مجاهد وعطاء : صل الصبح بجمع ، وانحر بمنى . وقال بعضهم : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } حقيقة الصلاة ، وهي الصلاة المعروفة المفروضة ، وهي مخ العبادة ؛ على ما ذكر في الخبر . وكذلك ما ذكر أن المصلي مناجٍ الرب تعالى ؛ وهو - والله أعلم - لأنه ما من عبادة إلا وفيها شيء من اللذة وقضاء شهوة النفس وأمانيها من السير ، والركوب ، والأكل ، والشرب ، والكلام ، والانتقال من موضع إلى موضع ، وغير ذلك من الطاعات مما فيه شيء من اللذة للنفس وقضاء شهوتها - وإن قل - من الحج والزكاة والجهاد وغير ذلك ، إلا الصلاة نفسها ؛ فإن فيها قطع النفس عن جميع شهواتها وأمانيها ، وعن جميع ما يتلذذ به من أنواع اللذات ، وعلى ذلك ما سمي موسى - عليه السلام - : كليم الله ، ونجيه ؛ لأنه فارق قومه وجميع ما للنفس فيه لذة وراحة ، وأتى جبلا ليس فيه أحد ، وكلمه ربه في ذلك ؛ فسمي : نجي الله ، وعلى ذلك سمي المصلي : مناجيا ربه ، وخص بذلك الاسم ؛ لما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَٱنْحَرْ } : هو ما ذكرنا من نحر البدن الذي تعبده للكل ؛ لما فيه من نفار النفس بالتألم الذي يحصل لغيره بفعل غيره ؛ فالتألم به بفعل نفسه أكثر من التألم بفعل غيره ، وهو مجاهدة النفس وتغير ما امتحنه - عليه السلام - بتحمل المشقة لوجهه تعالى مرة بالتبليغ إلى الكفرة مع الخطر على نفسه ، ومرة بمجاهدة نفسه بالقيام بالليل ، ومرة بإتيان خلاف الطبع ، وهو ذبح البدن ؛ إذ الطبائع تنفر عن إراقة الدماء مع أنه أشفق الناس وأرحمهم على خلقه ، فبلغ من حسن إجابته له ، وطاعته له أن ساق مائة بدنة ، فنحر ستين منها بيده ، وولى عليا - رضي الله عنه - نحر أربعين ؛ على ما ذكر في الخبر . وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } : وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، وكذا روي عن علي ، رضي الله عنه . وعن عاصم الجحدري ، قال : هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة . ومن قول الثنوية : أنهم لا يرون ذبح شيء من الأشياء ؛ لما فيه من الألم والأذى . وقولهم هذا ليس بصحيح ؛ لأنا نعلم أن إفاتة الروح بالذبح أهون على المذبوح من موته حتف أنفه ؛ فإذا جاز في الحكمة أن تزهق روحه بغير الذبح فلأن يجوز في الذبح أحق . وأصله : ما ذكرنا أن هذه السورة نزلت في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المقصود به من بين الناس ، وهو يعلم بالذي خاطبه به من الصلاة ؛ والنحر ، والكوثر ، وغير ذلك ؛ فلا نتكلف نحن تفسيره مخافة الكذب على الله - تعالى - سوى أن نذكر أقاويل أهل التأويل . وكذلك قوله - عز وجل - : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } يذكر أهل التأويل : أن فلانا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبتر ؛ فنزل : إن الذي سماك أبتر هو الأبتر - لا نعرفه حقيقة ؛ لأنه لم يذكر أن أحدا من أولاد الفراعنة وأعداء الرسل - عليهم السلام - افتخر بأبيه أو بأحد من أوليائه والمنتمين بهم افتخروا بهم ، وافتخر أولاد أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حتى يتعينوا بذلك فيما بينهم ؛ يقول : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي : معاديك ومبغضك هو الأبتر دونك . أو يقول : أعداؤك هم الذين يبتر ذكرهم ، وأولياؤك مذكورون أبدا على ما قلنا . وأصله ما ذكرنا أنه خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد عرف ذلك ، ونحن لا نعلم في أي شيء كانت القصة ؟ وفيم نزلت الآية ؟ والله ورسوله أعلم . قال أبو عوسجة : الشانئ : المبغض ، يقال : شنئته : أبغضته ، والأبتر : هو الذي لا ولد له ذكر ، ولا عقب [ له ] . وفي قوله - عز وجل - : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلبة عليهم ، والقهر لهم ، والنصرة عليهم ، وإظهار دين الله - تعالى - في البلاد والآفاق ؛ إذ أخبر أن الذي عاداه وباغضه هو المنقطع والأبتر لا هو ، والله المستعان .