Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 110, Ayat: 1-3)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } : قال عامة أهل التأويل : إن قوله - تعالى - : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } هو مكة ، والنصر الذي نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة . قال أبو بكر الأصم : هذا لا يحتمل ؛ لأن فتح مكة كان بعد الهجرة بثماني سنين ، ونزول هذه السورة كان بعد الهجرة بعشر سنين ، ولا يقال للذي مضى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } ، ولكن أراد سائر الفتوح التي فتحها له ، أو كلام نحو هذا ، ولكن يحتمل أن يكون قوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } يعني : إذ جاء . وجائز ذلك في اللغة ، وفي القرآن كثير " إذا " مكان " إذ " ، فإن كان [ على ] هذا فيستقيم حمله على فتح مكة ؛ على ما قاله أولئك . أو يكون قوله تعالى - : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } ، أي : قد جاء نصر الله . أو أن يكون أراد بما ذكر من النصر والفتح : الفتوح التي كانت له من بعد حين دخل الناس في دين الله أفواجا ؛ على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { نَصْرُ ٱللَّهِ } ، أي : عون الله وخذلانه لأعدائه . أو أن يكون قوله - تعالى - : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } : هي فتوح الأمور التي فتحها الله - عز وجل - عليه من تبليغ الرسالة إلى من أمر بتبليغها إليهم ، والقيام بالأمور التي أمره أن يقوم بها ، فتح تلك الأمور عليه وأتمها ، فإن كان على هذا ، تصير فتوح تلك الأمور له نعيا له ؛ بالدلالة على ما قاله أهل التأويل : إنه نعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعيه ، وجهة الاستدلال الوجوه التي ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً } . ذكر أهل التأويل أنه كان قبل ذلك يدخل واحداً واحداً ، فلما كان فتح مكة ، جعلوا يدخلون دينه أفواجا أفواجا ، وقبيلة قبيلة . ويحتمل ما ذكرنا من سائر الفتوح ، أي : فتوح الأمور التي ذكرنا ، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ، شهرا أمامي ، وشهرا ورائي " . ثم [ في ] قوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً } الآية ، نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه ، وقد ذكر في الأخبار : أنه نعى إليه نفسه بهذه السورة . أحدها : ما ذكرنا من جهة الاستدلال عرف أنه قد دنا أجله ؛ حيث أتم ما أمر به ، وفرغ منه : من التبليغ والدعاء . والثاني : عرف ذلك اطلاعا من الله تعالى ، أطلعه عليه بعلامات جعلها له ؛ ففهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يدرك أفهامنا ذلك . والثالث : لما كفي مؤنة القيام بالتبليغ بنفسه بدخول الناس في الدين جماعة جماعة ، وكان قبل ذلك يقوم بنفسه ، عرف بذلك حضور أجله ، وهو نوع من الدلالة . ووجه الدلالة : أن القوم لما دخلوا في دين الله فوجا فوجا ؛ دل ذلك على ظهور الإسلام وكثرة أهله ؛ فكانت الغلبة والنصر دليل الأمن من الزوال عما هم عليه من الدين إذا زال الرسول . وقوله - عز وجل - : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، قال بعض أهل التأويل : أي : صل بأمر ربك ، وأصله : ما ذكرنا فيما تقدم : أن التسبيح هو التنزيه ، والتبرئة عن جميع معاني الخلق ، والوصف بما يليق به ، قال : نزهه وبرئه بالثناء عليه ، وصفه بالصفات العلا ، وسمه بالأسماء الحسنى التي علمك ربك . ويحتمل أن يكون معنى قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ، أي : قل : " سبحان الله وبحمده " على ما جاء في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه " " سبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله وأتوب إليه " . وهذا لأن " سبحان الله " حرف جامع يجمع جميع ما يستحق من الثناء عليه ، والوصف له بالعلو والعظمة والجلال ، والتنزيه عن جميع العيوب والآفات ، وعن جميع معاني الخلق ، جعل لهم هذا الحرف الجامع ؛ لما عرف عجزهم عن القيام بالوصف بجميع ما يستحق من الثناء عليه . وكذلك حرف " الحمد لله " ، هو حرف جامع يجمع شكر جميع ما أنعم الله عليهم ، جعل لهم ذلك ؛ لما عرف من عجزهم ، وقلة شكر ما أنعم عليهم واحدا بعد واحد . وعلى ذلك يخرج قوله : " اللهم صل على محمد " ، أمرهم أن يجعلوا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ الأحزاب : 56 ] ولما لم يجعل في وسعهم القيام بما يستحقه أمروا أن يقولوا : " اللهم صل على محمد " ؛ ليكون هو المتولي ذلك بنفسه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱسْتَغْفِرْهُ } : قال أبو بكر الأصم : دل قوله - عز وجل - : { وَٱسْتَغْفِرْهُ } على أن كان منه تقصير وتفريط في أمره حتى أمره بالاستغفار عن ذلك . لكن هذا كلام وحش ؛ لا يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقصير في شيء ، ولا بالتفريط في أمر قط ، ولكن قد جعل الله - تعالى - على كل أحد من نعمه وفضله وإحسانه في طرفة عين ولحظة بصر ما ليس في وسعه وطاقته القيام بشكر واحد منها ، وإن لطف ، وإن طال عمره ؛ فأمره بالاستغفار ؛ لما يتوهم منه التقصير في أداء شكر نعمه عن القيام بذلك . أو أن يكون لأمته لا لنفسه . فإن قال قائل : ما معنى أمره بالاستغفار ، وقد ذكر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فالجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه يجوز أن يكون أمر بالاستغفار لأمته ، نحو قوله - تعالى - : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] . أو أن يكون الله - تعالى - وعد له المغفرة إذا لزم الاستغفار ، ودام عليه . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } : أي : كان لم يزل توابا ، ليس أن صار توابا بأمر اكتسبه وأحدثه ، على ما تقول المعتزلة : إنه صار توابا . ثم قوله : { تَوَّاباً } ، على التكثير ، أي : يقبل توبة بعد توبة ، أي : إذا تاب مرة ، ثم ارتكب الجرم وعصاه ؛ ثم تاب ثانيا ، وثالثا ، وإن كثر ؛ فإنه يقبل توبته . والثاني : { تَوَّاباً } ، أي : رجاعا يرجعهم ويردهم عن المعاصي ، إلى أن يتوبوا ، أي : هو الذي يوفقهم على التوبة . ثم قال : { تَوَّاباً } ، ولم يقل : " غفاراً " ، وحق مثله من الكلام أن يقال : " إنه كان غفارا " ؛ كما قال في آية أخرى : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، ولكن المعنى فيه عندنا : أن المراد من الاستغفار ليس قوله : " أستغفر الله " ، ولكن أن يتوب إليه ، ويطلب منه المغفرة بالتوبة ؛ { إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } . ويجوز أن يكون فيه إضمار ؛ كأنه قال : " واستغفره ، وتب إليه ؛ إنه كان توابا " . ويجوز [ أن يستغنى ] بذكر الاستغفار في السؤال عن ذكره في الجواب ، وأحرى [ أن يستغنى ] بذكر التوبة في الجواب عن ذكرها في السؤال ، وقد يجوز مثل هذا في الكلام . ثم الدين اسم يقع على ما يدين به الإنسان ، حقا كان أو باطلا ، وعلى ذلك أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدين به إلى نفسه ، وما دان به الكفرة إليهم ، حيث قال : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، وأما إضافته إلى الله - تعالى - حيث قال : { يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً } [ الآية ] ؛ لأنه الدين الذي أمرهم به ، ودعاهم إليه ؛ لذلك خرجت الإضافة والنسبة إليه ، والله أعلم [ بالصواب ] .