Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 111, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } : أي : خسرت ، وخابت ، كذلك قال أبو عوسجة ، يقال : تب يتب تبا وتبابا . ثم ما ذكر من قوله : { يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } يحتمل حقيقة اليد . ويحتمل أن يكون ذكر اليد على الصلة . فإن كان على إرادة حقيقة اليد ، فهو يخرج على وجوه : أحدها : ما ذكر : أنه [ كان ] كثير الإحسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإنفاق عليه ، والصنائع إليه ، وكان يقول : إن كان الأمر لمحمد يومئذ ؛ فيكون لي عنده يد ، وإن كان لقريش فلي عندها يد ؛ فأخبر - والله أعلم - أنه خسر فيما طمع ورجا من اليد التي له عنده والإحسان الذي أحسن إليه ؛ إذ لم يصدقه ، ولم يؤمن به ، وخسر - أيضا - ما ادعى من اليد له عند قريش . والثاني : يحتمل أن يكون من أبي لهب تخويف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطش والأخذ باليد ؛ فأمن الله - تعالى - رسوله عما خوفه [ به ] ، حيث قال : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } ، أي : خسرت يداه ، ولا يقدر على البطش . والثالث : يحتمل أن يكون اليد كناية عن القوة في نفسه وماله في دفع العذاب عن نفسه ، وكذلك كانوا يدعون دفع العذاب عن أنفسهم ؛ بقولهم : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] . وذكر بعض أهل التأويل : أنه لما نزل قوله - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] ، جمع عشائره الأقرب فالأقرب منهم ، وقال : " إني لا أملك لكم من الله نفعا في الدنيا والآخرة إلا بعد أن تقولوا شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله " فقال أبو لهب عند ذلك : " تبا لك يا محمد ، ألهذا دعوتنا ؟ ! " فنزل عند ذلك : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } مجازاة له . فهذا وإن لم يكن في فعله في القصة استعمال اليدين ، فيجوز أنه كان يصرف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، أو حين دعى إلى الإيمان بالله - تعالى - مد يديه على التعجب من ذلك ، وقال : " ألهذا دعوتنا ؟ " فرد الله - تعالى - عليه ذلك ، وعيره به . وقد يجوز أن يظهر في الجواب مقدمة السؤال وإن لم يذكر ذلك في السؤال ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] ؛ فعلم بذلك أن السؤال إنما كان عن قربانهن في المحيض ؛ فكذلك الأول . وإن كان ذكر اليد على الصلة ، فهو يخرج على وجهين : أحدهما : ذكر اليد كناية عن العمل والفعل ، إلا أنه ذكر اليد ؛ لما باليد يقوم ويعمل ؛ كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عمران : 182 ] ، و { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، وذلك على الكناية عما كان منه من الصنيع ، أي : خسرت أعماله وبطلت . والثاني : يذكر اليد على إرادة : قدام وأمام ؛ كقوله - تعالى - : { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] ، أي : أمامه وخلفه ؛ فيكون معناه : ما قدم من الأعمال ، والله أعلم . ثم تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها : أحدها : خصه بالاسم ؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر ، وهو المقصود به ، والفراعنة قد يذكرون بأسمائهم ؛ لما هم المقصودون به ، وإن كان من دونهم يشاركونهم في ذلك ؛ كذكر فرعون ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم . والثاني : كان شديد الهيبة والخوف ؛ فذكره باسمه ، وخصه به ؛ ليعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يهابه ، ولا يخافه ، والله أعلم . والثالث : أنه كثير الأيادي والصنائع بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو كان الخطاب بهذا يعم الكفرة ، لكان يظن بما سبق منه من الأيادي أنه غير داخل تحت الخطاب ؛ فخصه بالذكر ؛ ليعلم أنه لا يغنيه من الله شيء . ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه : أحدها : يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس ، وبها كان معروفا دون اسمه ؛ فذكره بالذي كان معروفا به . والثاني : ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى ؛ فلم يرد أن ينسبه إلى غيره ، وهو العزى ؛ فذكره بالكنية لهذا . والثالث : أنه عيره بأشياء ، وخوفه بمواعيد ؛ فلو ذكره باسمه ، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره ؛ لما شرك غيره في الاسم ؛ إذ كانوا يسمون أولادهم وينسبونهم إلى أصنامهم ، ولم يكن أحد شركه في كنيته ؛ فلا يمكنه التحويل إلى غيره . وقيل : ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له ، أي : تصير النار له كالابن ، وهو كالأب لها ؛ وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل ، كما يقال : أبو منصور ؛ على رجاء أن يولد له ابن يسمى : منصورا . ثم إن الله - تعالى - سمى النار في بعض الآيات : أما للكافر ، كقوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 9 ] ، وفي بعضها : مولى ؛ حيث قال : { هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ الحديد : 15 ] ؛ فجاز - أيضا - أن تكون النار إذا قربت منه ، وانضمت إلى حجره أن تصير في التمثيل كالولد ، ويصير هو أبا لها ؛ فقال : { أَبِي لَهَبٍ } ؛ على هذا الوجه من التأويل . ووجه آخر : وهو أن ذكر الكنية وإن كان يراد بها التعظيم ، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة ؛ وهو على ما ذكرنا في البشارة : أنها وإن كانت تذكر عندما يسر ويبهج في الأغلب ، فعند ذكر العقوبة نذارة ، كقوله - تعالى - : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ؛ فعلى ذلك الكنية ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } ، هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أي : لم يغن ماله وقوته وما كسب من عذاب الله شيئا ، على ما يقولون : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] . والثاني : أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب ؟ ! . ثم قوله - عز وجل - : { وَمَا كَسَبَ } يحتمل الولد ، أي : ما أغنى عنه ما جمع من ماله وما كسب من الولد ؛ على ما ذكر في الخبر ، روى أبو الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وولده من كسبه " . وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - : أيأخذ الرجل من مال ولده ؟ فتلا { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً … } الآية [ الشورى : 49 ] ، فهو مما وهب الله لنا ؛ فهم وأموالهم لنا ، والله أعلم . ويحتمل ما أغنى عنه ما جمع من المال ، وما كسب من العمل والإنفاق الذي أنفق على الطمع الذي فعل ، أي : لم يغنه شيئا . أو [ لم يغنه ] ما كسب عن صد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه والاتباع له ، وسوء المقال الذي قال فيه . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما اكتسب } . وقوله - عز وجل - : { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } : أي : ذات التهاب . وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ حيث أخبر أنه سيصلى نارا ، ولا يصلى النار إلا بعد ما يختم بالكفر ، ثم كان كما أخبر ؛ دل أنه علم ذلك بالله تعالى . وفي هذه السورة دلالتان أخريان يدلان على نبوته : إحداهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قرأ هذه السورة عليهم بمكة حين لم يكن له ناصر في الدين ، وكانت المنعة والقوة للكفرة ، وكانوا جميعا أولياء أبي لهب وأنصارا له عن آخرهم ، ولا يحتمل أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة عليه ، وفيها سب له وتعيير إلى يوم القيامة ، مع قلة أوليائه وكثرة أعدائه ؛ إذ فيه خوف هلاكه - إلا برب العالمين . ومعنى آخر : أنه - عليه السلام - كان موصوفا بحسن العشرة وإجمال الصحبة مع الأجانب ؛ فما ظنك بالعشيرة والأقارب مع ما أنه كان متنزها عن الفحش في جميع أوقاته ؛ فما جاز له هذا إلا بالأمر من الله تعالى ؛ فدل ذلك على نبوته ورسالته . وقوله - عز وجل - : { وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } : قال بعضهم : أي : كانت حمالة النميمة والحديث بين الناس ، فأوعدها الله - تعالى - لذلك في الآخرة ما ذكر : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } وهي السلسلة ، ومنه يقال : فلان يحطب ؛ إذا أغرى . وقال بعضهم : كانت حمالة الحطب حقيقة ، كانت تحمل الحطب الذي فيه الشوك ، وتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ؛ فأوعدها الله - تعالى - بما ذكر من حبل من مسد في الآخرة . ومنهم من قال : إنها كانت كذلك في الدنيا ، كانت تحمل الحطب إلى منزلها ، وكان في جيدها حبل من ليف ؛ فعيرها بذلك ؛ لأنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر والحاجة . وذكر أنها كانت تمسك في عنقها حبلا من ليف سرا من زوجها ، وذلك مما لا يتحلى به النساء ، وليس هو من أسباب الزينة ؛ فأخبر الله - تعالى - عن سفهها وجهلها ؛ ليكون ذلك سبا وتعييراً مجازاة لما كانت تقوله في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك قالت لأبي بكر [ الصديق ] - رضي الله عنه - : " أما رضي محمد أن يهجو عمه حتى هجاني ؟ ! " أو قالت : " حتى هجاني رب محمد ؟ ! " صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .