Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 112, Ayat: 1-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } : ذكر أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب الله تعالى . وقيل : عن صفته . وقيل عن الله تعالى : ما هو ؟ . فنزلت هذه السورة معلمة بجميع من يُسأل عنه [ و ] جوابه ؛ ولذلك أثبت { قُلْ } ؛ ليكون مخاطبة كل مسئول عن ذلك أن قل ، لا على تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر ؛ إذ ليس في حق الائتمار بالأمر إعادة حرف الأمر في الائتمار ؛ فتبين بذلك أنه ليس على تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعليم ، بل هو أحق من سبق له الغناء عن تعليم الإجابة لهذا عند حضرة هذا السؤال ، كما سبقت منه الدعوة إلى الله - تعالى - بحقيقة ما يقتضي ما جرى به السؤال ، وكما أثبت كذلك ؛ ليقرأه أبدا ، وحق المخصوص بالأمر أن يأتمر ، ولا يجعل ذلك متلوا كذلك في الوقت الذي يحتمل المأمور الأمر به ، والوقت الذي لا يحتمل ؛ فثبت أن ذلك على ما بينا ، ودل قوله : { قُلْ } : أنه على أمر سبق عنه السؤال ؛ فيكون في ذلك إجابة لما سبق عنه السؤال ، وكذلك جميع ما في القرآن { قُلْ } ففيه أحد أمرين : إما إجابة عن أمر سبق عنه السؤال ؛ فينزل بحق تعريف كل مسئول عن مثله . أو يكون الله - تعالى - إذ علم أنه - عليه السلام - أو من يتبعه يسأل عما يقتضي ذلك الجواب ؛ فأنزل ما به يبقى في أهل التوحيد ؛ منا منه وفضلا . ثم لم يجب تحقيق الحرف الذي وقع عنه السؤال إلا لمن شهد وسمع ، وقد يتوجه ذلك [ الحرف الذي وقع عنه ] إلى ما ذكروا من الأسباب وغيرها ، وفيما نزل يصلح جواب ذلك كله ويليق به ، وإن كنا لا نشهد على حقيقة ما كان أنه ذا ، دون ذا ونجيب بذلك لو سئلنا عما ذكرنا ، وعن كل حرف يصح في العقل والحكمة الجواب بمثل ما اقتضته هذه السورة . [ و ] قوله - عز وجل - : { هُوَ } : اختلف في تأويله : من الناس من قال : هو إضافة إلى الذي عنه كان - أو يكون - السؤال المقتضي ما جرى به البيان من الجواب ، أي : الذي يسألون عنه : { ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } إلى آخر السورة . ومنهم من قال : هو اسم الله الأكبر ، يروى ذلك عن بعض أولاد [ علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ] أنه كان يقول في دعائه : " يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، يا من به كانت هوية كل هو " ، وذلك يخرج على وجهين : أحدهما : أنه هو لذاته هوية كل من سواه ؛ لما هو يكون محتملا للتلاشي والوجود ، إلا هو سبحانه لم يزل ولا يزال هو { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] على ما اقتضى بيان وحدانيته في هذه السورة ؛ وعلى ذلك قيل : هو الأحد بذاته ، المنشئ أحدية كل الآحاد ، المتعالي عن كل معاني أحدية من سواه . والثاني : أن يكون إضافه إلى اسمه الذي لا يحتمله اللسان ، وهو الذي لم يطلع عليه الخلائق ، وهو الذي يراد في الدعاء : " باسمك الذي من سألك به أعطيته ، ومن دعاك به أجبته " فيكون السؤال به بما يكنى عنه من الوجه الذي ذكرت ، لا أن يسعه اللسان أو يحتمل الطوق التفوه به تعالى . والتأويل الأول هو أقرب إلى الأفهام ، وأحق أن يكون على ذكر من يقتضي عنه السؤال ، ثم التفسير على ما جرى . وقوله - عز وجل - : { ٱللَّهُ } : اختلف في المعنى الذي جرى هذا في حق أهل هذا اللسان أنه مما اشتق من أمر عرفوه أو لا عن أمر عرفوه ؟ إذ في كل لسان لما أريد به عند الذكر لسان العرب اسم يدعى به ويسمى ، وإن اختلف وزن كل من ذلك على اختلاف الألسن ؛ ليعلم أن الأحرف والتقطيع في التكلم إنما هو ليفهم المقصود ، لا على توهم حقيقة الاسم بتلك الحروف والتقطيع ، وذلك كما يعبر عن تكوينه الخلائق بـ " كن " ، لا على تحقيق كاف أو نون في التكوين ؛ فعلى ذلك جميع ما يسمى الله - تعالى - لا على تحقيق الحروف التي تجري بها التسمية ممن لا يحتمل طوقه إلا بها ؛ لكن على ما يقرب إلى الأفهام المراد في التفوه به . وقال قوم : { ٱللَّهُ } هو المعبود في لسان العرب لا على الاستحقاق ، لكن على وضع ذلك كذلك ؛ دليله تسميتهم كل من عبدوه وكل شيء عبدوه : إلها ، وإن كان جميع ما سوى إله الحق ممن عبد لا يحتمل شيئا من تلك المعاني التي زعم من ادعى الاشتقاق عنها من الاحتجاب ، أو الالتجاء إليه ، ونحو ذلك ؛ فثبت أنه اسم موضوع للمعبود . وعلى ذلك قوله - تعالى - : { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] ، أي : معبوده ما يهواه ، لا أن للهوى شيئا من ذلك ؛ [ فيكون المعبود الحق هو الله - تعالى - لما له في كل شيء أثر عبودة ذلك ] الشيء ودلالة الربوبية له عليه سبحانه فهو المعبود بذاته ، بمعنى المستحق بذاته العبادة من جميع خلقه والاستسلام له والخضوع بما ذكرت من الموضوع في كل آية ذلك ، ولا قوة إلا بالله ، وهذا تحقيق ما ذهبنا إليه أنه خالق بذاته ؛ رحمان رحيم بذاته ، موصوف به في الأزل ، وإن كان الذي وصل إليه أثر رحمته وفيه ظهور دلالة تدبيره حدث بعد أن لم يكن على ما كانت العبادة والاستحقاق كان ممن حدث وفيمن كان بعد أن لم يكن ، وهو إله لم يزل ولا يزال . وعلى ذلك قوله - عز وجل - : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] و { رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 164 ] ، وإن كان من الأشياء ما سيكون ، لا أنها كانت كائنة ، وكذلك يوم الدين ؛ فعلى ذلك أمر " خالق " ، ونحو ذلك ؛ ومن هذا الوجه أنكر قوم أن يكون الإله اسم معبود في الحقيقة ، أو اسما مشتقا على لسان ؛ إذ هو لم يزل إلها ، ومن به العبادة أو عنه الاشتقاق حادث . والأصل عندنا : ما ذكرنا : أنه بجميع ما وصف به وصف بذاته ؛ إذ لا يحتمل التغير والاستحالة ، ولا نيل مدح بغير ممدح ، وإنما يمدح به لذاته : لأنه استحق من كلٍّ ذلك لوقت كون ذلك ، وعلى ذلك القول بـ " العالم " و " القادر " : أنه كذلك ، وإن كان الذي علمه ممن سواه وكل مقدور عليه حادث بعد أن لم يكن ، ولا قوة إلا بالله . وقال الضحاك : الله اسمه الأكبر ؛ لأنه يبتدأ به في كل موضع . ثم اختلف في معنى الاشتقاق : فمنهم من يقول : أصله : إله ، من أله الرجل إلى آخر ، أي : التجأ إليه واستجاره ؛ فآلهه ، بمعنى : أجاره وآمنه ؛ فسمي : إلها على وزن الفعال ؛ كما يسمى : إماما ؛ لما يؤتم [ به ] ، وفخم بإدخال الألف واللام ، ثم لين وحذف الهمزة كما هو لغة قريش ، ثم أدغم أحد اللامين في الآخر ، فشدد ؛ فصار الله . وعلى ذلك تأويل الصمد : أن يصمد إليه من الحوائج ، ويستغاث به ويلتجأ إليه . وقيل : إن اشتقاقه من وله يله ولها ؛ إذا فزع إليه ، فسمي به ؛ لأن المفزع إليه ، وهو قريب من الأول . ولكن حق ذلك في الاسم أن يكون ولاه ، فأبدل الواو ألفا ، كما يقال في وكاف : إكاف ، وكذلك أهل الحجاز يجعلون الواو ألفا ، قال الشاعر : @ فأقبلت ألهي ثكلى على عجل @@ وقيل : سمي به ؛ لأنه أله كل شيء ، أي : ذلـله وعبده ؛ فتأله له ، أي : عبده ، قال : قائلهم : @ وأله إلهك واحدا متفردا ساد الملوك بعزه وتمجدا @@ وقال آخرون : سمي به ؛ لاستتاره ، ومنه يقال : لهت ؛ فلا ترى ، وقال الشاعر : @ لاه ربي عن الخلائق طرا خالق الخلق لا يرى ويرانا @@ وقيل : سمي به ؛ لتحير القلوب عن التفكر في عظمته ؛ كقوله : ألاهني الشيء حتى ألهت ، ومنه مفازة ملهة ، يعني : العقل يحار عند النظر إلى عظمته ، ومنه أله يأله ؛ [ فهو إله ] . وقال الشاعر : @ وبهما تيه تأله العين وسطها مخففة الأعلام بيد ضر ما تتملق @@ قال - رضي الله عنه - : والأصل عندنا : الإغضاء عن هذا ؛ لما أن الحاجة إلى تعرف الاشتقاق والوضع ؛ لتعرف محل الأمر ، وموقع الحكم ، ومن جميع ما اشتقوا به الاسم يحتمل تسمية الغير بكل ذلك ، وتحقيق الإضافة إلى ذلك وتسميته : إلها ، أو إضافة ما به عرف الحقيقة - لا يحتمل غيره سبحانه وتعالى ، ولا يجوز التسمية به ؛ فثبت الغناء في معرفته عن جميع الوجوه التي أريد الاستخراج [ منها ] ؛ إذ هي طرق توصلهم إلى العلم بالمقصود والوقوف على المراد ، وقد عرف دون الذي ذكروا ، والله أعلم . والأصل عندنا في ذلك : أن الله - سبحانه وتعالى - بلطفه يمنع الخلق عن تسمية أحد : إلها ، إلا من جهة أحوال تعترض ؛ فسموا به على معنى جعل الاسم الذي جرت التسمية به حقيقة له ؛ فسموا ؛ ظنا منهم أن بذلك التوسل والتقرب ، لا أن يروا لشيء من ذلك حقيقة ذلك ، بل قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، وقالوا : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وقالوا : { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ؛ ليعلم أنهم عرفوا لله - تعالى - بما دعوا لأنفسهم في ذلك معاني تردهم إلى الله سبحانه وتعالى ، فذكروا مجازا من أحد لسانين ، والله أعلم . أما لسان الرسل في ذكر الله ففي أمور تقربهم إلى الله تعالى ، لقوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وقال : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] ، وقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ، وصف مبايعة العبد ونصره أو نصر دينه نصراً لله ومبايعته ، بما يقرب ذلك إليه ؛ فعلى ذلك تسميتهم ما عبدوها ، لا أنهم رأوها آلهة في الحقيقة . أو عن ألسن الفلاسفة أن ليس لله اسم ذاتي ؛ وإنما سمي هو بذكر كل ذي شرف ومنزلة عنده ؛ فعلى ذلك إذ محل من يعبدون عندهم ما ذكرنا من القول عنهم ؛ فسموا به ، لا أن حققوا كما ذكروا حقيقة ذلك الاسم إلى من عرفوه أنه إله ، ردوا أمرهم في ذلك ، وذلك من لطف الله - تعالى - فيما سخرهم عليه ؛ كتسمية الخالق والرحمن : أنهم لا يسمون أحدا بهما ، وإن كثرت أفعاله ، وعظمت رحمته في الخلق ؛ ليعلم أنها أسماء الله - تعالى - منع الخلق عن التسمي بها باللطف من حيث لا يعرف سببه . ثم قوله - عز وجل - : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } أي : الأمر هو الله أحد ؛ كما تقول : إنه زيد قائم ، أي : الأمر زيد قائم ، جواب من يسألك : ما الأمر والشأن في أن قمت هاهنا ؟ فتقول : الأمر زيد قائم ، أي : قمت لأجله ، إلى هذا يذهب الزجاج ؛ كأنه يذهب إلى أنه لما قال : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } ، فقيل له : ما الأمر والشأن ؟ فقال : الأمر الله أحد ؛ أي : ليعرفوا أنه كذلك . وقوله - عز وجل - : { أَحَدٌ } يتوجه إلى واحد ، ثم " واحد " اسم ينفي المثل في الإضافة ، كما يقال : هو واحد الزمان ، وواحد الخلق ؛ على نفي التشبيه له عما أضيف إليه ، ويكون واحدا من حيث العدد بما عن مثله يبتدأ الحساب ، ولا يبتدأ من أحد ؛ فيصير أحدا من ذا الوجه ، وإن كان الله - تعالى - بأي حرف ذكر ، ففيه ذلك ، وهو الواحد الذي يستحيل أن تكون وحدانيته من وجه يحتمل ثانيا ، أو من وجه تعديل ، هو الواحد الإله الحق المتعالي عن معنى الأعداد والأنداد ، وهو على ما ذكر الحكيم في الآحاد أنها أربع : واحد هو كلٌّ لا يحتمل التضعيف ؛ لإحالة كون وراء الكل . وواحد هو الأقل ، وهو الذي لا يحتمل التضعيف والتجزؤ ؛ لأنه أقل الأشياء ، [ فإذا تنصف يكون ] ذلك النصف أقل منه . وواحد هو وسط ، وهو الذي يحتمل التنصيف والتضعيف جميعا . والرابع : هو الذي قام به الآحاد هو ، ولا هو أخفى من هو ، هو الذي انخرس عنه اللسان ، وانقطع دونه البيان ، وانحسرت عنه الأوهام ، وحارت فيه الأفهام ، فذلك الله رب العالمين . والأصل في ذلك : أنه لا سبيل إلى العبارة عنه بغير هذا اللسان ، ولا وجه للتقريب إلى الأفهام بهذا اللسان إلا بما جرى به الاعتياد ، وظهرت به المعارف ؛ فلما ذكرنا من الضرورة جعل التوحيد في الحقيقة بالأدلة والبراهين في ضمن التسمية في عبارة اللسان ، وحقه مما أخبرت من ضرورات الأحوال في إرادة التقريب إلى الأفهام إلى عبارات اللسان المؤسس على الاعتياد في إظهار المعارف ؛ فعلى ذلك القول بـ " واحد " ، وبـ " أحد " ، لا على أحدية غيره من جهة التوسط ، أو من جهة القلة ، أو من جهة الكثرة ، مع ما كل من هو في معنى واحد ، فهو واحد الآحاد المجتمعة ، إلا الواحد الذي يقال جزء لا يتجزأ ، وهو من غير في الجملة متجزئ عن توهم ذلك الجزء غير متجزئ في الوهم ، أو هو الأقل منه ، وهو جزء في الحقيقة ، والله يتعالى عن الوصف بالكل والبعض ، والقليل والكثير ، والواحد مما له حق الأبعاض ، أو الكل ، أو رتبة القليل والكثير ، جل ثناؤه ؛ بل هو الذي [ خلق ] جميع ما وصفت ، وجعل لكل من ذلك مقابلا بما ذكر ؛ ليصير كل من ذلك زوجا ؛ فتكون الوحدانية الحق له ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } . فذكر أنه أحد ، وذكر أنه الصمد في تحقيق ما وصف من الأحدية ، وهو - والله أعلم - أن أحوج جميع من سواه ؛ حتى تحقق قصد جميع من سواه بالحاجات إليه بالكون في الخلقة وفي الصلاح بعد الكون ، وفي الذي به الدوام بعد الوجود ، والوجود بعد العدم ما احتمل الوجود دونه ، ولا البقاء إلا به ، أحاطت الحاجات بكلٍّ ؛ ليكون له الغناء عن الكل في الوجود والبقاء ؛ ليتحقق أنه الموجود بذاته والباقي بذاته ، والمتعالي عن معنى وجود غيره سبحانه ، وهو على ما ذكرنا من عجز الألسن عن البيان عنه بالعبارة إلا على التقريب إلى الأفهام بالمجعول من آثار هويته في جميع الأنام . ثم قيل في { ٱلصَّمَدُ } بوجوه يرجع جميع ذلك إلى ما بينا . أحدها : السيد الذي قد انتهى سؤدده ، ومعنى ذلك في المفهوم من السؤدد في صرف الحوائج إليه ، ورجاء كل المحاوج به . والثاني : في أن لا جوف له ، وذلك في وصف الوحدانية والتعالي عن معنى أحدية غيره من اجتماع أجزاء ممكن فيها الفرج والثقب التي هي كالأجواف . أو على ما فسر قوم بالذي هو في ظاهر العبارة مخرج الكتاب ، وهو الذي ذكر على أثره ، وهو قوله - تعالى - : { لَمْ يَلِدْ } ؛ لأن كل ذي الكون ذو جوف عنه يتولد الأولاد ، ويكون في ذلك إحالة قول من نسب إليه الولد ؛ فيقول : كيف يكون له ولد ، وقد تعلمون أنه ليس بذي جوف ؟ كما قال : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] في قوم نزهوه عن الصاحبة ، وهم لم يشهدوا الولادة إلا بها ، كما لم يشهدوا الولادة إلا عن ذي جوف ؛ فيكون في هذا نقض قول هذا الفريق فيه بالولادة بما نزهوه عن الجوف ، كما في الأول بما برءوه عن الصاحبة . وقيل : بما لذي الأجواف من الحاجات ؛ فيرجع إلى التأويل الأول : أنه المصمود إليه بالحوائج . وظن قوم : أنه إذا نفى عنه الجوف ثبت أنه مصمت ، وذلك معنى اجتماع أجزاء تتداخل فتتكاثر كذي الجوف هو اجتماع أجزاء تتفق ، فإذا تحقق التنزيه عن أحد الوجهين تحقق التنزيه عن الوجه [ الآخر ] ؛ ففي الوجهين نفي الوحدانية ، وتحقيق ازدواج الأجساد مع ما قد ينفى عن أشياء أمور لا تحقق لها المقابلة ؛ كما ينفى عن الأعراض : السمع والبصر والعلم ، لا على إثبات مقابلتها بما علموا أن الأعراض لا تحتمل الإعراضات ؛ فعلى ذلك العلم بوحدانية الله - تعالى - والتنزيه عن احتمال الأزواج يحقق القول الذي ذكرت . وقد قيل في الصمد : إنه الدائم ، وذلك - أيضا - يرجع إلى ما ذكرت : أنه لا يحتمل التغير والاستحالة وإصابة أثر الحاجة ، وهو المصمود إليه بالحوائج . وقد قائل قائل في التأويل الأول : @ لقد بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد @@ ويقال : صمدت إلى فلان ، أي : قصدت إليه ، وهذا يوضح معنى الصمد : أنه يصمد إليه في الحوائج . وقيل في ذلك : إن الصمد تأويله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } . قال الشيخ أبو منصور - رضي الله عنه - : الأصل : أنه - تعالى - عظم القول بالولاد ما عظم بجعل الشركاء ؛ وذلك أن معنى الولاد : أن يكون بجوهر من له ولد ؛ فيكون بذلك شريكا ، وذلك ينفي التوحيد ؛ فعلى ذلك القول بالولاد ؛ لذلك عظم القول به ، وألزم على من عرفه بالأدلة القول ببراءته عن الولاد ؛ كما ثبت الاشتراك من الوجه الذي بينا ، وقد شهد العالم بكليته بحق الخلقة على أنه - تعالى - منشئه عن الشركاء والأشباه جميعا ؛ فيبطل القول بالذي ذكرنا ، مع ما كان جميع الخلائق على الإشارة إلى كل منه يحتمل الأزدواج ، ومنه يكون التوالد ، والله تعالى متعالٍ عن ذلك . وبعد : فإن [ كلام العالم ] على الإشارة إلى آحاد متولد عن غير ، أو يتولد منه غير ، وهما أمران راجعان إلى ما عليه حق هذا العالم ، وعليه موضوعهم ؛ وقد ثبت تعاليه عن جميع معاني غيره ؛ إذ كل غير له بجميع معانيه حدث بعد أن لم يكن أتى عليه تدبير غيره ، وجرى عليه تقدير سلطان غيره ، والله - تعالى - لو كان يتوهم شيء من ذلك فيه تسقط له الألوهية ، وتحقق له الحاجة إلى غيره ، ويوجب جري سلطان غيره عليه ، وذلك يوجب غيرا خارجا عن هذه المعاني ؛ حتى تسلم الأدلة له على حد الموضوع ، وتصفو له الشهادة على ما قامت وأنقطعت بالخلقة ، وبما فيه من الحكمة ، ولا قوة إلا بالله . وعلى ذلك ختم السورة : أن ليس له أحد كفُؤاً ؛ لأنه من ذلك توجب المماثلة ، وفي المماثلة اشتراك ، وقد ثبت فساد العالم بتوهم الاشتراك في تدبيره ، وقد لزم التعالي عن المعاني التي للأرواح بها يقوم التدبير ، ويجري سلطان التقدير . وجائز أن يكون مخرج السورة في تحقيق نعت من قد عرفوه بإحدى خصال ثلاث : إما بالتلقين لكل عن كل ، إلى أن ينتهي ذلك إلى علام الغيوب ، فسخرهم بذلك وأنشأهم على ذلك ؛ حتى أيقن من جحد ذلك أنه بعد تلقين متوارث ظاهر لا يحتمل مثله الخطأ في حق توارث الأمور بما يبطل المعارف كلها بأسرها - أنشئوا وبها تعالموا ، وذلك كأول علوم الخلق وكالشيء المطبوع الذي لا يستطاع جحده إلا بما لعل الطباع المخلوقة على جهة الرياضة وأنواع الحيل . وإما بالتأمل فيها في كل جزء من أجزاء العالم من الأدلة عليه والشهادة له ؛ فبين بالآية للذين عرفوه بأحد الوجوه التي ذكرنا [ أن ] نعته كذا ؛ ليقطع به توهم المثل له ، أو العدل في أمر ؛ وليعرفوا أن القول بغير خارج عن الوجوه التي ذكرنا ، وأنه يرجع إلى ضرب من التلقين ، ليس له حق الطباع ولا حق التلقين الذي له صفة الكافية والكلية في التلقين ، ولا في حق شهادة الكل بالخلقة يدرك بالتأمل والتفكر ؛ فيمتنع عن ذلك ، ويرجع إلى حقيقة ما جرى به النعت دون غيره مما [ ألفوا فيه ] يرجع إلى تلقين من ذكر ، وتلبيس بلا حجة ؛ لذلك لا يضاهي شيئا مما ذكرت ، مع ما في كل ذلك جميع ما في غير ذلك من شهادة الخلقة ، والحاجة فيها إلى غيره من الإيجاد والإبقاء ، وهو الأحد بما لا دليل لغيره ؛ بل في ذلك إحالة الألوهية من كل الوجوه الثلاثة ، وهو الصمد بمعنى المصمود إليه في الحوائج ، المالك لقضائها ، وهو الذي لم يلد ولم يولد ، وهو المتعالي عن احتمال ولاد فيه ومنه ؛ لما ذكرت من فساد الألوهية الثابتة له بما ذكر من الوجوه . وقوله - عز وجل - : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ؛ لما في كل أحد سواه جميع الوجوه التي منها يعرف سلطان غيره عليه ، وأنه ذليل لمن ذل له كل شيء على السواء ، ولا قوة إلا بالله ، ومنه الاستهداء ، ولما ذكرت سميت هذه السورة : سورة الإخلاص ؛ لأنها في إخلاص التوحيد لله ، ونفي الأشباه والشركاء في الألوهية والربوبية ، وأن كل شيء سواه مربوب ومملوك له ، ولا قوة إلا بالله .