Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 113, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } : قال الفقيه - رحمه الله - : الأمر بالتعوذ به يحتمل وجوها ثلاثة : أحدها : على التعليم ، لا لنازلة كانت في ذلك الوقت ؛ لكن لما علم الله - تعالى - من عظيم شر من ذكر بما يظن بالأغلب أن شر ما ذكر يتصل بالذي ذكر في علم الله تعالى ؛ فأمرهم بالتعوذ به ، كما أخبر في أمر الشيطان : أنه عدو لهم ، وأنه يراهم من حيث لا يرونه ؛ ليكونوا أبدا معدين متيقظين فزعين إلى الله - تعالى - معتصمين ، وهذا أحق في التعليم من الذي ذكر في سورة الناس ؛ لأنه أضر من ذلك العدو ؛ لأن ضرره إنما يتصل به بإتيانه ما دعاه إليه الشيطان ، وما يوسوس في صدره الوسواس ، وذلك فعله يمكنه الامتناع عنه ، وهذا الضرر يقع بفعل غيره من وجه لا يعلم مأتاه - أعني : شر النفاثات ونحو ذلك - فهو أحق في تعليم العباد فيه ، والأمر بالفزع إلى من بلطفه جعل ذلك الفعل ممن ذكرنا معمولا فيه مؤثرا . والثاني : ما قيل : " نزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فقال ] : " إن عفريتا من الجن يكيدك ؛ فتعوذ بأعوذ برب الفلق ، وبرب الناس من شره إذا أويت إلى الفراش " . والثالث : قيل : إن واحدا من اليهود سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل هذا . قال أبو بكر الأصم : ذكروا في [ هذه السورة ] حديثا فيه ما لا يجوز ؛ فتركته . قال الفقيه - رحمه الله - : ولكن عندنا فيما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر - وجهان في إثبات [ رسالته ونبوته ] . أحدهما : بما أعلمه بالوحي أنه سحر ، وذلك فعل فعلوه سرا منه ، ولا وقوف لأحد على الغيب إلا بالوحي . والثاني : بما أبطل عمل السحر بتلاوة القرآن ؛ فيصير لتلاوته في إبطال عمل السحر ما لعصا موسى - عليه السلام - وأن هذا في كونه آية أعظم مما فعل موسى عليه السلام ؛ لأن ذلك يتنوع بتنوع ما له الفعل والعمل من حيث الجوهر والطبع من حيث مرأى العين ؛ فإنه ثعبان يلقف ما صنعوا . فأما إبطال السحر وعمله بتلاوة القرآن لا يكون إلا باللطف من الله تعالى ، والله أعلم . ثم الأصل في هذا عندنا : أنه قد ثبت الأمر بالتعوذ بقوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } ، وقد بينا حق الاشتراك فيما يتضمن هذا الأمر إن كان على نازلة في واحد ، أو على ابتداء التعليم ، فهو أمر فيه رجاء للفرج والمخرج من الأمور الضارة بما يعتصم فيها بالله - تعالى - بما عنده من اللطائف ؛ فجائز تمكينه من أمور ضارة باللطف من حيث لا يعلم البشر مأتاه ، ولعل الذي يعمل به لا يعلم حقيقة ذلك العمل الذي جعل الله لذلك العمل إلا بما سبق من وقوع ذلك ، وقد يجوز الأمر والنهي بأشياء بعينها من الأفعال ؛ لمكان ما يتولد عنها من المنافع والمضار باللطف من حيث لا فعل في حقيقة ذلك للخلق ؛ وإنما ذلك لطف من الله - تعالى - نحو ما نهى عن أكل أشياء ، وأمر بها ، مما بها الاعتداء والقتل ، من غير أن نعلم حقيقة وصول ذلك إلى ما يعدو أو يقتل وأي حكمة في ذلك ومعنى له ؟ . وكذلك الموضوع من المناكح لطلب الولد وسقي الأشجار [ والزروع بما يحدث الله فيها ، وإن كان وجه العمل بالمأمور به ، والمنهي عنه ، وحقيقته بغير الذي له ذلك . وعلى ذلك الأمر بالاستماع ] ، والنظر لما يلقى إليه ويراه ، وإن لم يكن حقيقة الإدراك فعله . وعلى ذلك التقدير جائز أن يكون الله - تعالى - يجعل النفث بالعزائم ، أو بأنواع السحر ، أو بأنواع الرقى - أعمالا في المقصود بها من النفع والضر ، لا يعلم حقيقة الوقوع والمعنى الموضوع فيه له من فيه ذلك الفعل ، وهو به مأمور ، وعنه منهي ؛ بما له من حقيقة الفعل ، وإن لم يكن النافع به في حقيقة فعله . ثم قوله - عز وجل - : { ٱلْفَلَقِ } اختلفوا فيه : قال بعضهم : الصبح . وقيل : كل شيء ينفلق من جميع ما خلق ، نحو الأرحام ؛ ليتعرف ما فيها ، والحب ، والنوى ، والهوام ، وكل شيء . فمن ذهب إلى تخصيص الصبح ؛ فهو لأنه آخر الليل ، وأول النهار ، وقد جرى تدبير الله - تعالى - في إنشاء هذين الوقتين على جميع العالم ، بحيث لا يملك أحد الامتناع عن حكمهما فيما جعل لهما ، وهما النهاية في العلم بعلم الله - تعالى - الغيب ؛ إذ جرى من تدبيره في أمر الأوقات في الليل والنهار على حد واحد كل عام ، بما فيهما من الرحمة للخلق وأنواع المحنة ، ومَنَّ عليهما بما يأتيان الخلق ويذهبان ؛ فكأنما ذكر جميع الخلق على ما ذكر في تأويل قوله - تعالى - : { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } [ الناس : 1 ] ؛ فيكون فيه لو [ قصد بالذكر ] ما في كل ذلك ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } ، له وجهان : أحدهما : من شر خلقه ؛ لما أضاف إلى فعله ؛ كما يقال : " من شر فعل فلان " ، أي : من شر [ ما ] يفعله . ويحتمل من شر يكون من خلقه ، لكن الإضافة إليه بما هو خالق كل شيء من فعل خلقه ، ومن خلق ما له الفعل ولا فعل . والأول كأنه أقرب ؛ لما ذكر في بقية السورة [ من ] الواقع بخلقه المكتسب من جهتهم ، وأضيف إليه ، لما [ بينا ، ولأن ] كل شر اكتسبه الخلق فذلك منسوب إلى الله - تعالى - خلقا ، وهو فعل المكتسب وكسبه ، فمتى كان المراد من قوله - تعالى - : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } هذا النوع ؛ فكأن ذكر ما بعده يكون تكريرا . وإذا حمل الأول على محض التخليق فيما لا صنع للخلق فيه من الشرور ، كان ذكر ما لهم صنع فيه - وإن كان بخلق الله تعالى ، لا يكون تكريرا - فيكون هذا التأويل أحق ، مع ما قد بينا أنه يمنع في فعل غيره بلطف ، [ أو إعجاز ، وفي الإعجاز لا يحتمل التعوذ من شر من لا يقدر على فعل يتصل به الشر ، وفي ذلك إثبات التمكين لما يقع به الشر ؛ فيجوز ] التعوذ من الذي منه أذية تكون من غيره ، على ما بينا من جواز الأمر والنهي عن أفعال لمكان ما يقع بها ، وإن لم يكن الواقع في الحقيقة لهم ؛ فعلى ذلك التعوذ من شر خلقه ، وهو التمكين [ والله الموفق والمعين ] . وفي هذا تعلق بعض من يقول [ بأن القوة ] تسبق الفعل : أنه لو لم يكن له قوة على الشر كيف كان يتعوذ من شر من لا يقوى عليه ؟ . والجواب من وجهين : أحدهما : أن التعوذ يكون بما سيفعل بما يملك هو ما يقع لديه الفعل ، وهو الآلات السليمة والقدر تحدث تباعاً على حدوث الأفعال ، وتحدث لما يختار هو ؛ فصارت القدرة في كونها لما يختار ؛ ككون ما يختار من الفعل بالاختيار بحدوث القدرة حالة الفعل ؛ فيتعوذ منه ؛ لعلمه أن الذي به كأنه في يده . والثاني : أن قد جرت العادة بالعلم بما يقع في المتعارف : كالعلم بما هو واقع في الرغبة والرهبة ؛ ألا ترى أنه يتعوذ من ظلم الجبابرة والظلمة ، على ما بينهم من بعد الأمكنة وطول المدد ؛ لإمكان الوصول بما اعتيد منهم بلوغ أمثال ذلك ، وإن كانت القدرة على الظلم في حقه للحال معدومة ، لا تبقى في مثل هذه المدة ؛ فعلى ذلك الأمر الأول : وقوله - عز وجل - : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ، اختلف فيه : قيل : الغاسق : هو الليل المظلم : والغسق الظلمة . وقيل : سمي الليل : غاسقا ؛ لأن الغاسق : البارد ، قال الله تعالى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَآءً وِفَاقاً } [ النبأ : 24 - 26 ] ، والليل أبرد من النهار ؛ لذلك سمي : غاسقا . والأصل في هذا : أن الذي ذكر لا يكون منه ضرر يتعوذ منه ، لكنه يرجع إلى من كان في ظلمة الليل ، أو في نور القمر من الذي يأتي منه المضار ، ومعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل ، ومنها في الليالي لا يمكن إلا بنور القمر ؛ فأمر بالتعوذ مما يكون فيها ، لا أن يكون منها ، وهو كقوله - تعالى - : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [ يونس : 67 ] ؛ لما يقع به الإبصار ؛ لا أنه يقع منه ذلك . وهذا - والله أعلم - ليس على تخصيص الليل بذلك ؛ لأنه ليس له فعل الضر ، لكن قد يعرض به الإمكان من الشر ؛ لما المعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل ، ومنها في الليل لا يمكن إلا بنور القمر ؛ فأمر بالتعوذ منه عما يتحقق فيه ؛ فعلى ذلك يجوز التعوذ من شر النهار ، على تأويل ما يقع به من التمكين من الشر ، ويوجد فيه ، والله أعلم . وقوله : { إِذَا وَقَبَ } اختلفوا في معنى { وَقَبَ } : قيل : إذا جاء ودخل . وقيل : ذهب . وقيل : معناه : القمر إذا خسف ، أمر بالاستعاذة من ذلك ؛ إذ هو علم من أعلام الساعة ؛ لهذا قال : { إِذَا وَقَبَ } ؛ إذ القمر لا يخسف إلا في الليل . وقوله - عز وجل - : { وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ } : فهذا تعوذ من شرهم بحسب سببه ، لكنه في الحقيقة فعل لهم ، وفي الأول يقع سببه بلا صنع لهم ، فكأنه في الجملة أمر بالتعوذ من كل سبب خيف تولد الشر منه ، فعلا كان ذلك له أو لم يكن ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [ لقمان : 33 ] ، وقد يكون للشيطان فعل في الحقيقة ، ولا يكون للحياة الدنيا فعل ؛ فوقع النهي عن الاغترار بهما ؛ فعلى ذلك التعوذ من شر الأمرين وإن لم يكن لأحدهما فعل بما يقع فيه . وجائز أن يكون من هذا الوجه في الملائكة محنة في الدفع والحفظ ؛ لقوله - عز وجل - : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الرعد : 11 ] ، قيل فيه : أي : بأمر الله يقع حفظه ؛ فجائز أن يكون في هذه الأمور الخفية ، وأنواع المضار من حيث لا يعلم إلا بعد جهد يقع الحفظ بالله - تعالى - على استعمال الملائكة . وعلى ذلك يجوز أن يكون أمر سلامة المطاعم والمشارب والمنافع التي للبشر عن إفساد الجن ، يحفظ ما ذكر ؛ ليكون فيها محنة للملائكة ، على ما كان مكان وسواس الشيطان إيقاظ الملائكة ومعونتهم . ويحتمل أن يكون الله - تعالى - لم يمكنهم إفساد ما ذكرنا وإن مكنهم الوسواس ؛ إذ باللطف يمنع من حيث لا يعلم . وقيل - أيضا - : من أمر الله : عذابه وأنواع البلايا إلى وقت إرادة الله - تعالى - الوقوع . وقوله - عز وجل - : { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } يخرج على وجهين : أحدهما : إذا كان الحاسد دون المحسود ، لا يقوى على الشر ليفعل به ، والشر المتوهم منه يكون من شر عينه ، وعمل الحسد إرادة زوال نعم المحسود وذهاب دولته . وإنه جائز أن يكون الله - عز وجل - بلطفه يجعل في بعض الأعيان عملا يتأدى بالنظر إلى ما يستحسنه من النعم إلى الزوال ، ويؤثرون ذهاب الدولة عنه ؛ فأمر بالتعوذ لهذا ، وقد بينا لك المتولدات من الأفعال بما جعل الله - تعالى - فيها من المضار والمنافع ما لا يبلغها علوم الخلق ، بل لو أراد الخلق أن يعرفوا ما في البصر من الحكمة التي تدرك بفتح البصر ما بين السماء والأرض من غير كثير مهلة ، لم يقدروا عليه . وروى عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا رقية إلا من عين أو حمة " . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : " العين حق ، فإن كان شيء يسبق القدر لسبقه العين " . وفي خبر آخر : " لا شر في الهام ، والعين حق " . ويدل عليه في قصة إخوة يوسف - عليه السلام - : { وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } [ يوسف : 67 ] . وقد فسر قوم وجه عمل العين وكيفيته ، لكنه أمر كعمل الشمس في العين نفسها فيما تبصر الشمس وتنظر إليها ، فإنها تضره وتغلبه عن النظر على بعدها من العين بما جعل الله - تعالى - وذلك من اللطف والحكمة ، وكذلك عمل العين في المعيون . والثاني : أن يكون بما حسد أن يبعث حسده على الحيل وأنواع ما به العين من السعي في الأمور التي بها الفساد على ضعفه في نفسه ؛ قال الله - تعالى - في صفة المنافقين : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ } [ المنافقون : 4 ] ، فمع ما بين من فشلهم وضعفهم ، أمرهم بالحذر عنهم ، وقال : { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] ، ثم أمر بالتعوذ من شره ؛ فكذلك الحاسد ، والله أعلم [ بالصواب ] .