Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } : ظاهره أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مشار إليه ، وهو التعوذ ، وحق الإجابة في مثله أن [ يقول : أعوذ ، لا أن يقول : { قُلْ أَعُوذُ } ] لكنه - والله أعلم - يخرج على وجهين : أحدهما : أن يكون ذلك أنزل بحق أن يصير ذلك أمرا لكل من بلغه ، وتعليما بالذي عليه من الاعتصام بالله - تعالى - والالتجاء إليه من شر الذي ذكره ؛ ليعيذه ، وتكون الإعاذة بوجهين : أحدهما : في تذكير ما عرفه من الحجج في دفع ما يخطر بباله من المكروه . والثاني : باللطف الذي لا يبلغه علم الخلق ، ولا تدركه عقولهم مما لديه نفع الأمن من الزيغ مما حقه الإفضال ، والذي ذلك حقه ، فلله - تعالى - أن يكرم به العبد مبتدئا ، وله أن يقدم فيه محنة السؤال والاعتصام به ؛ على الإكرام أيضا ، ويلزم على من عصم به عن الزلة ، أو هدي إلى حسنة : الشكر لله - تعالى - فيما ابتدأه أو أكرمه به عند السؤال . والوجه الثاني من وجهي الخطاب : أن يكون الخطاب لغيره ، [ وإن كان ] راجعا إلى مشار إليه ، فهو مما يشترك في معناه غيره ؛ فأبقى وأثبت ما به يصير مخاطبا من بلغ ذلك ، وهو قوله - تعالى - : { قُلْ } حتى يدوم هذا إلى آخر الدهر ، وعلى هذا جميع ما فيه حرف الكلفة والمحنة - أعني : صيغة الأمر - والله الموفق . ثم في قوله - تعالى - : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ … } إلى آخر السورة وجهان من الحكمة ، فيهما نقض قول أهل الاعتزال : أحدهما : أن المحنة قد ثبتت بالامتناع عن طاعة الشيطان والمخالفة له : فإما أن كان الله - تعالى - أعطاه جميع ما يقع به الامتناع حتى لا يبقى عنده مزيد ، أو لا يعطيه جميع ذلك ، بل بقي عنده شيء منه . فإن كان قد أعطاه ، فهو بطلب ذلك بالتعوذ والاعتصام بالله - تعالى - كاتم لما أعطاه ، طالب ما ليس عند الله - تعالى - فيكون الأمر بالتعوذ محنة وأمرا بما به كتمان ذلك ، وذلك حين استوفاه يكون إنكاره ستر نعم الله - تعالى - وقد تبرأ عن الأمر بالفحشاء والمنكر ، وبين أن ذلك عمل الشيطان . ثم في المحنة بهذا محنة بالاستهزاء بالله تعالى ؛ لأنه يطلب منه ما يعلم أنه لا يملكه ، ولا يجده عند نفسه ، وذلك من علَم الهزء عند ذوي العقول ، فمن ظن أن الله - تعالى - يمتحن عباده ويأمرهم بشيء مما ذكرنا ، فهو جاهل بالله - تعالى - وبحكمته وإن لم يكن الله تعالى [ يمتحن عباده ، ويأمرهم بشيء مما ذكرنا ؛ فهو جاهل ] [ بما ] أعطاه وعنده بعد ذلك . ثم كان من مذهبهم أنه ليس لله - تعالى - أن يمتحنهم بفعل إلا بعد إيتاء جميع ما عنده مما به قوامه ووجوده ؛ ففي ذلك اعتراف بلزوم المحنة وتوجه التكليف قبل إيتاء جميع ما عنده مما به الوصول إلى ما أمر به ، وذلك ترك مذهبهم مع ما كان عندهم أنه لو كان عند الله - تعالى - أمر ومعنى ، لا يقع فعل المختار ؛ لأجل أنه لا يعطيه ذلك - لم يكن له أن يمتحنه ، وهو بالامتحان جائر . وإما أن سألوه بفعل قد أمر به ، وإن لم يكن أعطاه ذلك ، وهم ما وصفوا الله - تعالى - بمثل ذلك أو بفعل يتلو وقت الأمر ذلك ؛ فيكون إعطاء ذلك وقت الأمر ؛ فكأنه ظن أن ي ] أمر ولا يعطي حتى يُسأل ، وذلك حرف الجور . ثم الأصل الذي اطمأن به قلوب الذين يعرفون الله - تعالى - أنه متى هدى الهداية التي يسأل أو عصم العصمة التي يطلب ، أو وفق لما يرجو من الفعل ، أو أعانه عندما يخاف أنه كان ذلك لا محالة ، وتحقق بلا شبهة ، ويأمن لديه من الزيغ والضلال ، وعلى ذلك جبلوا مما لا نجد غير معتزلي إلا وقد اطمأن قلبه به ، حتى يعلم أن هذا منه وقع المجبول عليه بالتقليد ، ولا قوة إلا بالله تعالى . وقوله - عز وجل - : { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ * مَلِكِ ٱلنَّاسِ * إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } ، ولم يقل : " أعوذ برب الخلق " ، وهذا أعم من الأول ، وإضافة كلية الأشياء إليه ، أو إضافته إلى الكل بالربوبية من باب التعظيم لله - تعالى - فما كان أعم فهو أقرب في التعظيم ، فهذا - والله أعلم - يخرج على أوجه : أحدها : أراد التعريف ، وبهذا يقع الكفاية في معرفة من يفزع إليه ممن يملك ذلك ، ليعوذ منه ، لكنه ذكر { بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } [ الفلق : 1 ] في موضع ، و { بِٱللَّهِ } في موضع ، و { بِكَ } في موضع ، كقوله - تعالى - : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } [ المؤمنون : 97 ] ، وقال : { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ غافر : 56 ] ؛ ليعلم به من سعة الأمر وتحقيق الفزع ، والرجوع إلى الله - تعالى - عند نزول ما ينزل بالمرء مما يخاف على نفسه ، ويشغل قلبه - أن له ذكر ما يحضره من أسماء الله - تعالى - أي اسم كان ؛ إذ ما من اسم إلا وفيه دلالة على نعمه وسلطانه وقدرته وعظمته ؛ ليكون في ذلك توجيه الملك إليه وإخلاص الحمد له بإضافة النعم ؛ فيكون ذلك من بعض ما به التشفع إلى الله - تعالى - من ذكر قدرته وإحسانه ، وأرفع ذلك في ذكر الناس بالإضافة إليه . والثاني : أن الذين عرف فيهم الأرباب والملوك والعبادات لمن دون الله - تعالى - هم الإنس دون غيرهم ؛ فأمر أهل الكرامة بمعرفة الله - تعالى - والعصمة عن عبادة غيره ، والاعتراف بالملك والربوبية [ له ] - : أن يفزعوا إليه عما ذكر ، ذاكرين لذلك ، واصفين بأنه الرب لهم ، والملك عليهم ، والمستحق للعبادة لا غير . أو لما كان للوجوه التي ذكرنا ضل القوم من اتخاذهم أربابا دون الله تعالى . أو نزولهم على رأي ملوكهم في الحل والحرمة ، وفي البسط والقبض . أو عبادتهم غير الله - تعالى - وفزعهم إليه ؛ فأمر الله - تعالى - أهل الكرامة بما ذكرت الفزع إلى الذي يذكر بهذه الأوصاف على الحقيقة على نحو فزع الضالين إلى أربابهم وملوكهم والذين عبدوهم دونه ؛ إذ إليه مفزع الكفرة - أيضا - عند الإياس عمن اتخذوهم دون الله ؛ لنصرتهم ومعونتهم ، والله أعلم . والثالث : أن المقصود من خلق هذا العالم هم الذين نزلت فيهم هذه السورة ، وغيرهم كالمجعول المسخر لهم ، قال الله - تعالى - : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وقال : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ … } الآية [ الجاثية : 12 ] ، وقال الله - تعالى - : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً … } الآية [ البقرة : 22 ] ، فإذا قيل : { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ * مَلِكِ ٱلنَّاسِ } ، فكأنه قيل : " برب كل شيء " ، لأن ما سواهم جعل لهم ، وذكر الخلق والتوجيه إليه في الاستعاذة والاستعانة هو اعتراف بألا يملك غيره ذلك ؛ فاستوى الأمران ، والله أعلم . وقيل : في { بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } : مصلح الناس ، وذلك يرجع إلى أن به صلاحهم في الدين وفي النفس . وقيل : ملك الناس ؛ على الإخبار بأن الملك له فيهم جميعا ، وفي الخلق مما لم يذكر فيه وجه الملك ؛ فبين أن ذلك كله في التحقيق لله - تعالى - وملكه ، ولغيره يكون من جهته على ما أعطي لهم بقدر ما احتاجوا إليه . وقيل : سيدهم ، لكن لفظة " السيد " لا تذكر لمالك غير الناس ، ويوصف بالرب والملك والمالك على الإضافة لا مطلقا ، يقال : رب الدار ، ومالك الجارية ، وملك المصر ، ونحو ذلك ، فكأنه أقرب . وقوله - عز وجل - : { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } : سمى الذي يوسوس بأنه وسواس وخناس ، وقيل في وتأويله من وجهين : أحدهما : أنه يوسوس لدى الغفلة ، ويخنس عند ذكر الله تعالى ، أي : يخرج ويذهب . وقيل : يخنس : لا يرى ، ولا يظهر ، كقوله - تعالى - : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] ؛ ولهذا قيل في الجواري الكنس : إنهن يطلعن من مطالعهن ، ويخنسن بالنهار ، أي : يختفين . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ * مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } صير الموسوس في صدور الناس من الجنة والناس . وقيل - أيضا - : على التقديم والتأخير ، معناه : قل أعوذ برب الناس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس . أما الوسوسة فهي أمر معروف ، وذلك بما يلقى من الكلمات التي تشغل القلب وتحير في أمر الدين ، بما لا يعرف الذي يلقى إليه المخرج من ذلك ، وعلى ذلك أمر أهل الأهواء ، وأصناف الكفرة ؛ كقوله - تعالى - : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [ الأنعام : 112 ] ، وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] ، وأما شياطين الجن ، فهو أمر ظاهر عند جميع أهل الأديان ومن آمن بالرسل عليهم السلام ، لكن الدهرية ومنكري الرسل يقولون : ليس في الجن شياطين ؛ وإنما هو أمر يُخَوَّف به مدعو الرسالة ؛ ليلزموا الخلق الاستماع إليهم في تعرف الجهل وما عندهم في دعواهم من العلوم والمعارف ، وهذا لسفههم قالوا ، ولو أنهم تأملوا في ذلك ، لعرفوا أنهم على غير بحث عما ألزمهم ضرورة العقل الطلب ، ودعتهم إلى البحث عنه ما مستهم من الحاجة ، وهي الخواطر التي تقع في القلوب ، والخيالات التي تعرض في الصدور ، منها [ ما ] إذا صورت وجدت قباحا ، ومنها ما إذا صورت وجدت حسانا ، ولا يجوز وقوع أمر أو كون شيء بعد أن لم يكن من قبل نفسه ؛ للإحالة في أن يصير لا شيء بنفسه شيئا قبيحا أو حسنا بلا مدبر ، وقد علم جميع الإنسان بالذي ذكرت من الابتلاء به مما يعلم أنه لم يكن من نفسه معنى يحدث له ذلك ؛ فثبت أن قد كانت الضرورة تلزم البحث عن ذلك . ثم لا يعلم من حيث طلب الأبدان الموجبة لها ولا في العقول - أيضا - دركها ؛ فيجب بها أمران منعهم عن العلم بهما القنوع بالجهل وحب الراحة : أحدهما : القول بالصانع ، ودخول العالم تحت تدبير حكيم عليم قدير . والآخر : القول بالرسالة تأتيهم من عند علام الغيوب ، وإذا كان ذلك بحيث لا يبلغه علم البشر فيعرف حقيقة ذلك ؛ فَيُعْلم عند النظر والبحث أمران عظيمان : أحدهما : الرسل بما معهم من المعجزات ، فيقولون بهم ، وبالتوحيد بما رأوا من الآيات الصدق ؛ إذ قد علموا أن في الأخبار صدقا ، لولا ذلك لكانوا لا يدعون شيئا ؛ إذ هو خبر [ له ] . والثاني : يلزمهم بما يعاينوا من مرجح الأمر من غير الحكماء أنها تقع متفاوتة مضطربة ، والعالم بما خرج متسقاً على الحكمة والمصلحة ؛ فعلموا أنه كان بمدبر حكيم يعلم ما به المصالح ؛ فيلزمهم به أمران أيضاً : التوحيد والرسالة ، ولا قوة إلا بالله . والأصل عندنا بتمكين الشيطان ما ذكرنا من الوسوسة أن الشيطان والملك خَلْقَان لله تعالى عرفناهما بالرسل - عليهم السلام - وبما بيَّنَّا من ضرورة الحاجة إلى العلم ممن بإلقائه يصير عند التصوير قبيحاً أو حسناً ، فيأتيان جميعاً بما مكنهما الله تعالى من الأمرين جميعاً : أمر الملائكة الخير والحكمة فيسهل عليه سبيله بتيسير الله تعالى وفضله ، وأمر الشيطان الضلال والشر فييسر عليه ، حتى صار الخير للأول كالطبع ، والشر للثاني كذلك ، فإذن كان كل واحد ممكناً من الأمرين ، قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ … } [ الليل : 5 - 6 ] إلى قوله - عز وجل - : { لِلْعُسْرَىٰ } [ الليل : 10 ] ، وقال الله - عز وجل - : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ … } إلى قوله تعالى : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] . ثم الأصل في الإنس أنهم امتحنوا بحقوق بينهم وبين الله تعالى وبحقوق فيما بينهم ، وكلفوا تثبيت الملائكة إياهم [ بقوله ] عز وجل : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] وأمروا برد ما يوسوس إليهم الشيطان بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] وغير ذلك . وعلى ذلك خلقت الملائكة ممتحنين بالكتابة على البشر بقوله : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 11 ] فتكون الحكمة في تكليف التمكين ما وصف من محنة الله تعالى إياهم طاعتهم في أنفسهم وفيما مكنوا من غيرهم ، على ما ذكرت من أمر الإنس ، وحكمة ذلك للإنس إلزام التيقظ والنظر فيما يقع في قلبه من الخواطر ؛ ليعلم الذي له والذي عليه . وكذلك في تكليف الملائكة كتابة قوله وفعله ؛ ليكون متيقظاً ومتنبهاً في كل أفعاله وأحواله كتيقظه فيما كان الأولياء والأعداء من الكاتبين الظاهرين عليه أنه يحذر كل الحذر عما يؤذي وليه ، ويقبل على كل أمر فيه نفع بما أمَّل ، ويحذر عدوه أشد الحذر ؛ لئلا يؤذيه من حيث لا يعلم ، فيتهمه كل تهمة . ثم معلوم ألا يمل الكتبة إلا بعد إحكامه وإصلاحه غاية ما يحتمل الوسع ، فعلى ذلك فيما خفي ؛ إذ هم في العقول في درك ما منهم وما عليهم كالذين ذكر لهم ممن ظهروا لأبصارهم ، والله الموفق . وكذلك صلحت المحنة والأمر في صحبة الأولياء والأعداء بحق الولاية والعداوة فيما لا يرون صلاحها وفيما يرون ؛ إذ من الوجه الذي فيه الولاية والعداوة مرئية لأبصار القلوب والعقول ؛ فيمكن الحذر والمعاملة جميعاً ، وعلى هذا التقدير لم يمكن الله أعداءه الذين لا يرون من معاداتهم بأفعال من أبدانهم وأموالهم بالسلب والتنجيس والإفساد ، وقد مكن أعداءهم من الإنس ذلك ؛ ليمكنهم الدفع عن ذلك والحذر عنه بما وقع الوقوف لبعض على حيل بعض والصرف عن ذلك ، وما هذا إلا كدرك الحواس بأفعالها وأسبابها بالحس ، وكذلك أمر الملائكة ، لكن من لا يحتمل عقله معرفة الصانع والتوحيد مع شهادة العقل وكل شيء فجهله بالشيطان غير مستبعد ولا مستنكر ، والله أعلم . قال - رضي الله عنه - : ثم اختلف في وجه تمكن الشيطان من الإنس فيما يوسوس إليه : قد روي في بعض الأخبار أنه يجري فيه مجرى الدم ، فأنكر ذلك قوم ، وليس ذلك مما ينكر بعد العلم باحتمال جري الدم فيه وجري قوة الطعام والشراب وما به حياة الأبدان والحواس مما لطف مجراه في جميع العروق والأعصاب وكل شيء ؛ بلطافة ذلك ؛ [ فعلى ذلك ] الشيطان . وعلى ما روي في أمر الملك مما يكتب ما لا يعلم موضع قعوده ولا يسمع صريف قلمه ولا ما يكتبه علينا من ذلك ، فعلى ذلك أمر الذي ذكرت . ثم قد ثبت القول بأمر الله تعالى نبيه أن يتعوذ به عن همزه ونزغه وحضوره بقوله تعالى : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ … } الآية [ الأعراف : 200 ] ، وقوله تعالى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ … } [ المؤمنون : 97 ] وقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ } [ الأعراف : 201 ] ، وقال : { ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ … } الآية [ البقرة : 275 ] ، فثبت أن أمره على ما بيناه . ثم القول في أي موضع لوقت ما له من الوحي والمس والنزغ أمر لا يحتاج إليه بحق ؛ لأن الله تعالى [ و ] عز وجل أخبرنا أنا لا نراه بقوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] ولكن الذي رجعت المحنة إلى أفعاله التي يقع لها آثار في الصدور ، وقد مُكِنَّا بحمد الله تعالى ومَنَّهِ لندرك منه ، وإنما علينا التيقظ لما يقع في الصدور من أفعاله ووساوسه لندفع بما مكننا الله تعالى [ و ] عز وجل من الأسباب ، وعرفنا من الحجج نقض الباطل والتمسك بالحق ، كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ } [ الأعراف : 201 ] وتوجهوا إلى الله تعالى بالتعوذ في طلب اللطف الذي جعله الله تعالى للدفاع ، كقول يوسف - عليه الصلاة والسلام - : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ … } الآية [ يوسف : 33 ] ، على العلم فيه بطوائف الأشياء من المجعول لدفع كيدهن ، وكذلك قول الراسخين في العلم : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً … } الآية [ آل عمران : 8 ] . لكن من الناس من يقول : هو يعلم النفس فيما تهوى فيزين لها ذلك ، والعقل فيما يدعو من ذلك فيمنعه عن ذلك . ومنهم من يقول : لا ، لكن في ذلك آثار من الظلمة والنور والطيِّب والخبيث ، فيعرف بالآثار وفيها موقع وسواسه حتى يصل إلى الفعل ، وقد يكون عمل الهوى والعقل جميعاً في الجسد وخارجاً منه ، وبخاصة آثار الأعمال . ومنهم من يقول : ليس له بشيء من ذلك علم ، لكن بكل ما يرجو العمل من التغرير أو في التمويه والتلبيس كالأعمى فيما يمس ويطلب المضار من المنافع ونحو ذلك ، لكن ذلك كله طريق عمل الشيطان وطريق إمكانه وحِيَله ، وذلك أمر لم نؤمر بمعرفته ، وإنما علينا مجاهدته في منع ذلك بالتيقظ أو بدفعه بما نتذكر ، هكذا ذكرت في الآيات ، أو بالفزع إلى الله سبحانه وتعالى في دفعه ومنعه إن حضر بما عنده من اللطائف التي لديها يقع الأمن عن الزيغ والظفر بالرشد . وتأول كثير منهم أن يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس ، وذلك ممكن ؛ لما قد يكون من كل جنس ضُلاَّلٌ وغُواة وأخيار وأبرار ، فأما حق تأويل السورة على ما وصفنا في ذكر وسواس الجن والإنس . ثم القول في المعوِّذتين أنهما من القرآن أو ليستا من القرآن ، قال الفقيه - رحمه الله - : لنا من أمرهما أنهما انتهتا بما انتهت إلى أهل هذا العصر معرفة القرآن في الجمع بين اللوحين بتوارث الأمة ، ولسنا نحن ممن يعرف بالمحنة والسير بما به نعلم أنهما معجزتان أو لا ، وإنما حق ذلك الأخذ عن أهل ذلك والشهادة [ له ] بعد الثبات أنه من القرآن وأنه معجز ، حقُّ أمثالنا فيه الاتباع ، وقد اتضح بما به جرى التعارف في جميع الشرائع التي بها يشهد أنها عن الله تعالى وأنها حق ، فعلى ذلك هذا . لكن ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه لم يكتبها في مصحفه ، وذلك عندنا يخرج على وجهين : أحدهما : أنه لم يكن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما شيئاً أنهما من القرآن أم لا ، ولم يكن أيضاً رأى على نفسه السؤال عن ذلك حقّاً واجباً ؛ لأن القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يلزم علم الشهادة والعمل به واحدٌ ؛ إذ المقصود من كل ذلك القيام بالمقصود من حق الكلفة لا التسمية ، ولم يكن النجباء يمتحنون أنفسهم بالسير في الوجوه التي بها يعرفون المعجز من غير ذلك أنه قرآن أو غيره ، وإنما ذلك من عمل المرتابين الشاكين في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرفوا أنه مبعوث مرسل ، فأما من تقرَّر عنده واطمأن به قلبه وزال عنه الحرج فيما آتاهم فقد كُفُوا ذلك ، وكذلك يجوز ترك البحث عن ذلك لما ذكرت ، لا أن عنده أنهما ليستا من القرآن ، وفي خبر عقبة الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " نزل اليوم آيات لم ير مثلهن قط " قيل : ما هن يا رسول الله ؟ فقال : " المعوذتان " ، دل أنهما من القرآن . وأيد أيضاً ما ذكرت في ترك الكتابة ما روي عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : " فقولوا " ، فنحن نقول بقولٍ لم يشهد في تلك بأنهما منه ولا ليستا منه بما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بهما ، فعلى ذلك أمر عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه . ويؤيد ذلك أيضاً أمر استعاذة القرآن أنها مقدمة على القراءة ، وحق هاتين السورتين لو كانتا منه بيقين أن تكونا في افتتاح المصحف كالاستعاذة للقرآن ، فهذا أيضاً بعض الذي يمنع [ العلم ] بحقيقة ذلك عنه ، وقد بينا جواز وجه الإشكال مع ما كان الإنزال لحاجة العباد ، وعلى ذلك جرى العمل بهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره ، فهو أمر لا يضر الجهل [ بالوجه ] الذي ذكرت . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : لو علمت أن أحداً أعلم بالقرآن مني وحملتني مطيتي لأتيته . وقد روي عمن ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل - عليه السلام - كل عام مرة إلا في العام الذي قبض عرض عليه مرتين ، وقد شهدهما جميعاً عبد الله ، فعلَّه لم يعرض ما شاء الله ، وإذا كان كذلك لم يكن هو ممن يسأل في هذا الباب غيره ليثبت عنده السماع بأنهما أثبتتا في المصحف ؛ فبقي قوله بحيث لا نعرف حقيقته ، ووجه آخر أن يكون رآهما منه لكن لم يكتب ؛ لوجهين : أحدهما : لما لم يكن موضع الكتاب والتدبير ، على ما ذكرنا أن يكون في أول المصاحف ، فكره أن يكتب بتدبيره ، ويتخير له موضعاً للكتابة ؛ فلم يكتب كذلك . والثاني : أنه يكتب ليحفظ ولا ينسى ، وقد أمن عليهما النسيان ؛ لأنهما بحيث يجب تلاوتهما في أوائل النهار ومبادئ الليل ، وعند النوازل ينفع التعوذ بهما من كل شر وكيد ، على نحو الاستعاذة وأنواع الدعوات المدعوة ، فلما أمن خفاءهما لم يكتب ، وعلى ذلك ترك كتابة فاتحة الكتاب ، والله أعلم بالصواب .