Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 78-82)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } . يحتمل الأمر بإقامة الصلاة : الأمر بالدوام عليها واللزوم بها ، أي : الزم بها وأدها . أو اسم التمام والكمال ، أي : أتممها وأكملها بالشرائط التي أمرت بها . ويحتمل قوله : { أَقِمِ } : فعلها ، ولم يفهم من قوله : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } الانتصاب على ما ينصب الشيء ويقام به ؛ فدلّ أنه لا يفهم من الخطاب ظاهره . وقوله - عز وجل - : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } زوالها { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } ، أي : إلى ظلمة الليل { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } ، أي : صلاة الفجر ، فيقول [ بعض ] الناس : في هذه الآية بيان أوقات الصلوات الخمس جميعاً ؛ لأنه ذكر أول ما يجب من الصلاة وهي الظهر إلى ما ينتهي وهي الفجر ؛ فعلى هذا التأويل { إِلَىٰ } لا تكون غاية ، ولكن تكون كأنه قال : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } ، والله أعلم . [ وقوله - عز وجل - : { لِدُلُوكِ } اختلف فيه : قال بعضهم : دلوك الشمس : زوالها { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } ، أي : إلى ظلمة الليل ] . ومنهم من يقول : فيه ذكر صلوات النهار ؛ لأنه ذكر دلوك الشمس ، وهو زوالها { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } ، وغسق الليل هو بدوّ ظلمة الليل . فيدخل فيه الظهر والعصر ؛ فعلى تأويل هذا يكون حرف { إِلَىٰ } غاية لا تدخل صلاة الليل فيه . ثم تخصيص الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر له بإقامة الصلاة يكون كأنه قال : ( أقم لهم الصلاة ) ، فإن كان هذا ، ففيه دلالة صحة صلاة القوم بصلاة الإمام ، وتعلق صلاتهم بصلاة الإمام حيث قال : ( أقم لهم الصلاة ) ، ولو كان كل أحد يقيم صلاة نفسه ، لكان لا يقول : ( أقم لهم الصلاة ) ، ولكن يقول ( صل الصلاة ) ؛ فدلّ أنه على ما ذكرنا . ثم قوله : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } : يحتمل وجهين : أحدهما : أقم الصلاة للذي تدلك له الشمس [ أي : تسجد ] كقوله : { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ … } الآية [ النحل : 48 ] . والثاني : أقم الصلاة للوقت الذي يتلو دلوك الشمس الصلاة [ وأقم قراءة الصلاة ] . ثم تخصيص الفجر لما ذكر حيث قال : { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } ، التخصيص لقرآن الفجر لأنه مشهود ، والفرضية بها بقوله : أقم قرآن الصلاة على ما ذكرنا . ثم قوله : { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ أي : لم يزل في علم الله كان مشهوداً ، أو صار مشهوداً ] ، ثم قال : { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } : وهي صلاة الفجر ، وإنما ذكر صلوات النهار فدخل صلوات الليل بقوله : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ } ، لكنهم يقولون : إن التهجد بعد النوم ، وقد يكره النوم قبل فعل المغرب والعشاء فلا يصح هذا . ومنهم من يقول : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } غروبها ، وهو قول عبد الله بن مسعود وغيره . وقال بعضهم : فيه ذكر صلوات الليل ؛ لأنه ذكر بدوّ ظلمة الليل ، وذلك بالغروب ، وقرآن الفجر وهو آخر ما ينتهي ظلمة الليل ؛ لأنه يبقي ظلمة الليل إلى وقت الفراغ من الفجر . وقوله - عز وجل - : { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : القرآن يكون كناية عن صلاة الفجر ، كأنه قال : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، وأقم - أيضاً - صلاة الفجر ؛ لأنه نسق على الأول ، ويحتمل قوله : { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } ، أي : قراءة الفجر ، أي : أقم قراءة الفجر . ويجوز أن يقال : ( القرآن ) مكان ( القراءة ) ، كقوله : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] ، أي : قراءته . ثم من الناس من احتج بفرضية القراءة في الصلاة بهذا ؛ لأنه نسق على الأول على ما ذكرنا كأنه [ قال ] ( أقم القراءة ) . ومنهم من يقول : إنما حث على قراءة الفجر دون غيرها من الصلوات لما طول القراءة فيها لتقصيره عن الأربع ؛ لأنه لم يجعل غيرها من الصلوات ركعتين فحث على قراءتها لهذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } . قال عامة أهل التأويل : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أي : حرس الليل وحرس النهار ، وعلى ذلك رويت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة . وقوله : { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } : أي : قراءة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، على هذا حمله أهل التأويل ، وعلى ذلك رويت الأخبار ، وإلا جاز أن يقال فيه [ بوجه ] آخر : وهو أن تشهده القلوب والسمع والعقول ؛ لأن ذلك الوقت هو وقت الفراغ عن جميع الأشغال والموانع التي تشغل عن الاستماع والفهم عنه ما لا يكون ذلك الفراغ لغيرها من الصلوات من صلاة المغرب والعشاء ؛ لأنها بقرب من الأشغال والحوائج ، ألا ترى أن الجهر بالقراءة إنما جعل في الأوقات التي هي أوقات الفراغ عن الاشتغال : وهي المغرب والعشاء ، ثم وقت الفجر هو أخلى وقت عن غيره ؛ لأنه بعد فراغ النوم ، وقبل هجوم وقت التقلب ، فالقراءة فيها والقلوب أشهد لها ، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } . قال بعضهم : النافلة : الغنيمة ، كقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] ، أي : الغنائم ، وقوله - عز وجل - : { نَافِلَةً لَّكَ } ، أي : غنيمة لك تغنم بها غنائم أو كلام نحو هذا . وقال الحسن : قوله : { نَافِلَةً لَّكَ } : أي : خالصة لك ، وخلوصها له وهو ألا يغفل هو عن شيء منها في حال من الأحوال ، وغيره من الناس يغفلون فيها عن أشياء . وقال بعضهم : ذكر أنه نافلة له ؛ لأنه كان مغفوراً له فما يعمل يكون له نافلة ، وأما غيره فإن ما يعمل من الخيرات يكون كفارة لذنوبهم فلا يكون لهم نافلة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } . قال : { يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } ، تحمد عاقبته بالتهجد ، أي : يبعثك ربك مقاماً تحمد أنت تلك العاقبة جزاء بتهجدك في الدنيا . وقال بعضهم : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } ما يحمده كل الخلائق الأولون والآخرون . وقال بعضهم : { مَقَاماً مَّحْمُوداً } هو مقام الشفاعة ، والله أعلم ، أي : تشفع لأمتك وأهل العصيان منهم . وجائز أن يكون هو صلة قوله - ما تقدم من قوله : { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] ، وقوله : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] ، وقوله : { فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 39 ] ، وما ذكر من المواعيد لما سمع هذا وقرع سمعه أخافه ذلك وأفزعه ؛ فنزل قوله : { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } إن عبدت الله وأطعته في جميع أموره ونواهيه ، وأقمت له الصلاة والصيام . وقوله - عز وجل - : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } : ظاهر هذا الخطاب يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن يدعو بما ذكر ، وقد عرف هو ما أمره من الدعاء بقوله : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، فلا حاجة تقع لنا إلى أن نطلب المراد من ذلك ، إلا أن يكون لغير في ذلك اشتراك ، فعند ذلك يتكلف فيه ويطلب المراد منه . وقد تكلم أهل التأويل في ذلك . قال بعضهم : قوله : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } ، كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة منها إلى المدينة وأمر أن يدعو بهذا الدعاء : ( رب أدخلني في المدينة مدخل صدق آمنا على زعم اليهود ، وأخرجني من المدينة إلى مكة مخرج صدق على زعم كفار مكة ظاهراً عليهم ) ؛ ألا ترى أنه قال : { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } عليهم ففعل الله ذلك له وأجابه ، وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف ( السلطان ) يتوجه إلى وجوه ثلاثة : يكون مرة عبارة عن حجة قاهرة غالبة . ويكون عبارة عن ولاية نافذة غالبة . ويكون عبارة عن اليد الغالبة الظاهرة أيضاً ، وقد كان - بحمد الله ومنته - لرسول الله على الكفرة ذلك كله . وقال بعضهم : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } في مكة ؛ ليعلم أهل مكة أني قد بلغت الرسالة { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ؛ ليعلم يهود المدينة أني نصرت وبلغت ما أمرت به . وقال الحسن : أخرجني من مكة مخرج صدق . وأدخلني في الجنة مدخل صدق . وقال بعضهم : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } فيما حملتني من الرسالة والنبوة ، وما أمرتني به لأؤديها على ما أمرتني ، وأبلغ الرسالة إلى الخلق على ما كلفتني ، { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ، أي : أخرجني مما كلفتني سالماً لا تبعة علي ، أو كلام نحوه . وأصله : كأنه أمره أن يسأل ربه الصدق في جميع أفعاله وأقواله ؛ وفي جميع ما يعبده به من الدخول في أمر أو الخروج منه ؛ إذ لا يخلو العبد من هذين : من الدخول في أمر والخروج منه ، سأله الصدق في كل حال وكل دخول وكل خروج . وقال مجاهد : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } في الرسالة والنبوة ، وهو ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } . قال بعضهم : حجة منه ، وقد أقامها على الكفرة . وقال بعضهم : { سُلْطَاناً نَّصِيراً } ، أي : اجعل في قلوب الناس هيبة ، ليهابوني ، وقد كان من الهيبة بحيث هابوه من مسيرة شهرين . وقال بعضهم : هو السلطان الذي ينصرون به الدين ، ويقيمون الحدود والأحكام ونحوه . وقيل : السلطان : هو إقامة الحدود والأحكام والشرائع ، وهو تفسير الولاية ؛ لأنه بالولاية ما يقيمها ، وهو ما ذكرنا : أن الولاية إقامة الأحكام . ثم قيل في الصدق والإخلاص : قال بعضهم : الإخلاص : هو ألا يجعل الشخص بقلبه نصيباً لأحد سواه ، والصدق وإن جعل لا يجد لذلك لذة ، الصدق عندنا أن يجعل الفضل في جميع أفعاله لله لا يجعل لنفسه شيئاً من الفضل ، وعلى ذلك يلزمه الشكر لربّه في جميع خيراته . وعن الحسن قال : لما مكر كفار مكة برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، فأراد الله بقاء أهل مكة ، فأمر نبيه أن يخرج منها مهاجراً إلى المدينة ، وعلمه ما يقول ، فأنزل الله : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } ؛ وعده الله لينزعن ملك فارس والروم ويجعله لأمته . وقوله - عز وجل - : { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } : قال بعضهم : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } وهو الإسلام . وقيل : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } : القرآن . وقيل : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } أي : محمد . أو يقول : جاءت آثار الحق فذهب الباطل وآثاره . أو جاءت حجج الحق وبراهينه وذهبت شبه الباطل وتمويهاته ، والحق : يحتمل ما ذكرنا من الإسلام ورسول الله . وقوله - عز وجل - : { وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } ، أي : ذهب وبطل غيره من الأديان ، وغيره من المذاهب ، وعبادة الأصنام ونحو ذلك . قالوا : وأصله : أن الناس كانوا في حيرة وتيه قبل بعث الرسول ؛ لما كانوا فقدوا دين الله وسبيله منذ كان رفع عيسى من الأرض إلى السماء لا يجدون سبيل الله ، ولا يهتدون إلى شيء ، حيارى ، حزانى حتى بعث الله محمداً ، ليدعوهم إلى دين الله ، ويبين لهم سبيله الذي كان يتمسك به الأنبياء من قبله ، ويخرجهم من تلك الحيرة التي كانوا فيه ، ففعل صلى الله عليه وسلم ؛ فذلك الذي قال الله تعالى : { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } ، أي : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } الذي [ كانوا ] فقدوه فسرُّوا بذلك ، { وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } ، أي : ذهب واضمحل ، { إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ، أي : ذاهباً مضمحلاً ، لا يجدي خيراً ، ولا يعقب لأهله نفعاً ، والحق هو الذي يعقب ويجدي نفعاً لأهله . ثم قوله : { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } لم يفهم أهل الخطاب بمجيء الحق : الانتقال من مكان إلى مكان ، ولا بذهاب الباطل على ما يفهم من مجيء فلان وذهاب فلان ، بل فهموا من مجيء الحق ظهوره وعلوه ، وفهموا من زهوق الباطل وذهابه : فناه واضمحلاله وتلاشيه ، وعلى ذلك لم يفهموا من مجيء الأعراض ما فهموا من مجيء الأجسام والأجساد ؛ فعلى ذلك لا يجب أن يفهموا من قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] : الانتقال من مكان إلى مكان ؛ وكذلك لا يفهم من قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] استواء الخلق ، ولا من نزوله : نزول الخلق ؛ على ما لم يفهم مما أضيف إلى الأعراض من الأفعال ما فهموا من الأجساد والأجسام ، بل فهموا [ من الله غير الذي فهموا من الآخر ] ؛ فعلى ذلك لا يفهم مما أضيف إلى الله تعالى ما يفهم مما أضيف إلى الخلق ، بل يتعالى عن أن يشبه الخلق أو يشبهه الخلق في معنى من المعاني ، أو في وجه من الوجوه ، بل هو كما وصف نفسه ؛ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، وقوله : { سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] وتعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً . وقوله - عز وجل - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ } ، كأن الآية نزلت في ابتداء الأمر ، حيث قال : { وَنُنَزِّلُ } ولم يقل : ( ونزلنا من القرآن ما هو شفاء ) . وجائز أن يكون قوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ } : نفس القرآن ، وهو ما ذكرنا . ويحتمل المواعيد التي في القرآن من وقائع تكون عليهم ، وكأن في ذلك شفاء للمؤمنين ، كقوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ … } الآية [ التوبة : 14 ] . أو نقول بأنه يجوز ( نفعل ) بمعنى ( فعلنا ) ، وذلك كثير في القرآن . ثم قوله : { مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، أي : شفاء للمستشفين في الدنيا ، ورحمة لمن تمسك به في الآخرة ، فيه شفاء لمن استشفاه في الدنيا ، ورحمة في الآخرة لمن تمسّك به ، وعمى وخسار وظلمة لمن أعرض عنه ، ونظر إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء [ والاستثقال ] ، وأما من نظر إليه بعين التعظيم والإجلال فهو له شفاء ورحمة وإن كان القرآن نفسه شفاء ونوراً ، وهكذا في الشاهد أن من أبصر شيئاً إنما يبصر بنور البصر وبنور الهواء بارتفاع ما يستر النورين جميعاً ؛ لأنه إذا كان عمى البصر لم يبصر شيئاً ، وإن كان نور الهواء متجلياً وكذلك لا يبصر إذا كان نور البصر متجلياً ، بعد أن سترت الظلمة نور الهواء . فإن كان ما ذكرنا أنه لا يبصر في الشاهد شيئاً إلا بنورين : نور البصر ، ونور الهواء ، فالكافر لم يبصر نور القرآن وشفاءه ؛ لما سترت الظلمة نور قلبه ، والمؤمن أبصر نوره وشفاءه بنور إيمانه ، وهكذا الأدوية ؛ فإنها لا تجدي نفعاً وإن كانت نافعة شافية في أنفسها إلا بقبول الطبيعة ؛ لأن الطبع إذا لم يقبلها وإن كانت نافعة شافية - لم تنفع صاحبها ، ولم تكن له شفاء ، وصارت كأنها في الأصل كانت ضارة غير شافية ؛ فعلى ذلك القرآن - وإن كان في نفسه شفاء ونوراً - ضار للكافر عمى وخساراً ، كأن لا شفاء فيه ولا رحمة لما سترت ظلمة الكفر نوره فصار كالزائد رجساً وطغياناً ونفوراً ، وهو ما قال : { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } ، والله أعلم .