Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 228-230)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم اختلف الناس في الأقراء في قوله : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } : قال بعضهم : الأقراء : هي الأطهار . وقال آخررون : هي الحيض . وهو قولنا . وعلى ذلك اختلف الصحابة : قال عمر وعلي وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - : هي الحيض . وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - : هي الأطهار . وبه أخذ أهل المدينة ، وقالوا : قلنا ذلك بالسنة والأخبار عن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - واللسان ، والمناقضة : أما السنة : فقوله لعمر : " مر ابنك فليراجعها ، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل من غير جماع ؛ فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء " ؛ فدل أن العدة التي تطلق لها النساء هي الأطهار . لكن الجواب لهذا من وجهين : أحدهما : أنه جعل ذلك عدة للطلاق ، لا عدة عن الطلاق . والعدة للطلاق غير العدة عن الطلاق ؛ وكذا نقول في الطهر الذي تطلق فيه النساء : إنها للطلاق ، لا عنها . والثاني : أن من قول الرجل أن له الإيقاع في آخر أجزاء الطهر ، وقد ذكر في الخبر : " الطلاق لقُبُلِ عدتهن " ، ولو كان المعنيُّ به : الطهر ، لكان الطلاق في آخر آجزاء الطهر قبل الحيض - في آخر أجزاء الطهر ، لا في القُبُل . فثبت أن القول بجعل الطهر عدة عن الطلاق بعيد . وأما اللسان فهو قول الناس : قرأ الماء في حوضه ، وقرأ الطعام في شدقه ، أي : حبس ، والطهر بسبب حبس الدم . لكن عندنا : الطهر جبلة وأصل ، وعليها خلقت وأنشئت ، والحيض عارض ، فإذا كان في الرحم دم خرج ، وإلا كانت على أصل خلقتها طاهراً ؛ لأن الطهر يحبس الدم ، فإذا كان هذا ما ذكرنا بطل احتجاجه باللغة واللسان . وأما الناقضة [ فـ ] هي أن يقول : جعلتم هي معتدة مع زوال الأذى عنها ما لم تغتسل في إبقاء حق الرجعة . فأما دعوى المناقضة فهي بعيدة ؛ لأن الكتاب جعلها باقية ما لم تغتسل على حكم الأذى ؛ فإن كان فيه طعن فعلى الكتاب . وقال : ذكر الله تعالى : { ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } باسم التذكير ، لا باسم التأنيث ؛ فدل أنه أراد الأطهار ، يقال : ثلاثة رجال ، وثلاث نسوة ، فإذا أدخل فيه ( الهاء ) عقل أنه أراد الطهر . قيل : إن اللغة لا تمنع عن تسيمة شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة ونحو ذلك إذا لم يكن من ذي روح ، فإذا كان كذلك فلا دلالة فيه على جعل ذلك طهراً . وقال : القرء : هو الانتقال من حال إلى حال ؛ يقال : أقرأ النجم : إذا غاب ، وأقرأ : إذا طلع ، ونحوه . لكن هذا ليس بشيء ؛ لأنه لو كان القرء هو الانتقال من حال إلى حال لكان يقال للنجم إذا طلع : أقرأ ؛ فيكون الاسم للظهور ، لا للغيبوبة ، أو لهما جميعاً ؛ فلا دلالة في ذلك . وأما الأصل عندنا : فقوله عز وجل : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فأمر بالإمساك عند بلوغ أجلهن . والبلوغ : اسم للتمام . ثم لا يخلو بلوغ الأجل من أن يكون بالإشراف على أول أجزاء الطهر أو عند انتهائه . فإن كان على انتهاء الطهر فلا غاية له ينتهي إليه ليقطع عليه الحكم ، وإن كان على الإشراف عليه أيضاً كذلك ، ثم لو حمل على الانتهاء أيضاً يبعد بما يعرف ذلك بالحيض الذي يقطع جهة الإمساك ؛ فحمل على ما يعرف ، لا على ما لا يعرف - والله أعلم فثبت أنه الحيض ؛ لأن لها الغاية . والثاني : قوله تعالى : { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] ، كذا اتفقوا فيه أنه مذكور على البدل ، ولم يعرف ذكر الأبدال في الأشياء إلا على أثر الأصول حيثما ذكر - ذكر الحيض عند ذكر البدل - فبان أن المبدل من ذلك إنما هي الحيض ، المجعولة أصولاً في تقضي العدة هو الحيض . واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " عدة الأمة حيضتان " ؛ ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض . [ ثم الدليل على أن المراد من قوله : { ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } ، وإن احتمل الطهر ، يرجع إلى الحيض [ وجوه : أحدها : ] أن ( ثلاثة ) اسم لتمام العدد ، فيصير كأنه قال : ثلاثة أطهار ، لو أراد به الطهر ، أو ثلاثة حيض ، لو أراد به الحيض . ثم هم على اختلافهم اتفقوا على أنه بالحيض ثلاثة ، وبالطهر طهران وبعض الأول . ثبت أن الحيض أولى مع ما كان فيه الاحتياط إذ احتمل الوجهين أن يدخلا جميعاً في الحق لا يزال بعد أن ثبت إلا بالبيان ، ويبين ذا أن في الخبر تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لقبلها النساء ، أنه الحيض حتى يكون قبله الطهر مع ما يحتمل عدة فعل الطلاق في الانقضاء يبين ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إن عدة الأمة حيضتان " وهي بعض عدة الحرة ، ووقت طلاقها وقت طلاق الحرة . فبان أن العدة اثنتان [ والثاني : ذكر الحيض عند ذكر البدل وذلك حكم الأبدال أن يذكر أصولها عند ذكرها . والثالث : قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } والبلوغ اسم للتمام ووفاء بعد المراجعة من بعد الإشراف عليه ، وهو بالطهر لا يعلم حتى يرى الدم ؛ لأن الطهر لا غاية له ، وذلك يمنع على قولهم الرجعة ؛ فثبت أنه الحيض ؛ لأن له الغاية ، وإن لم ينقطع الدم وقت ولما كان الطلاق وقت ابتداء الحرمة ، وذلك طهر ، ووقت تقضي العدة وقت تمام ذلك ، فهو التطهر ، مع ما ينقضي سبب الملك باطلاق ، ووقته الطهر ، وبقية الملك بتقضي العدة ، فيجب أن يكون وقته الطهر على إلحاق جميع الفروع مع الأصول ، وإلحاق التوابع بالمتبوعين ، ولا قوة إلا بالله ] . ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض ] . وقال الشافعي : قوله صلى الله عليه وسلم : " عدة الأمة حيضتان " أي : قرءان والقرءان هما الطهران . فيقال له : [ أبلغت في المقلة ] ، وأفرطت في الحجاج ، حيث فهمت من الحيض القرء ، وهو أوضح عند أهل اللسان بالسماع من المفهوم له به مع ما في ذلك تجهيل رسول الله صلى الله عليه وسلم باللسان ، وهو أفصح العرب وأعلم البشر ، حيث عبر عن الطهر بالحيض . ووجه آخر : أنهم اتفقوا على أنه لو طلق في بعض الطهر فالبقية منه عدة ، ومثله من الاعتداد قرءان ونصف ، والكتاب أوجب الاعتداد بالثلاث ؛ فثبت أن الأمر بالاعتداد أمر بالحيض ، لا بالإطهار للمعنى الذي وصفنا ، وإن كان القرء اسماً للطهر والحيض في اللغة . ثم الأصل في المسألة : أن أول ابتداء الحل لزوجها ولغيره بالطهر ، وكذلك نهاية الحل إنما جعلت بالأطهار . ثم الأصل : أن ابتداء حرمتها على الزوج الأول بالطهر ، فيجعل انتهاء الحرمة في مثله بالطهر . وحاصل هذا أنه جعل نهاية الحل فيه وفي غيره بما به ابتداء الحل ، فكذا يجعل نهاية الحرمة فيه وفي غيره بما به ابتداؤه . وإذا ثبت أن المنظور في الحل والحرمة في الابتداء بالابتداء ، وجب أن يكون المنظور في الحل والحرمة بالانتهاء . ثم في قوله : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } ، وفي قوله : { فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ } ، وفي قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } ، وفي نحو هذه الآيات دلالة تأخر البيان ، حيث لم يبين ما الأقراء ؟ ، ولم يبين الاعتزال من أي موضع ، ومن أي مكان ؟ ، ولم يبين المخالطة في ماذا ، وفي أي شيء ؟ فالاختلاف فيه باق إلى يوم التناد ؛ فبطل قول من ينكر تأخر البيان ، وثبت قول من أقر به . وبالله التوفيق . وقوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . ففي الآية دلائل : أحدها : أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره ؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن ، إذ هو غير مستحسن في العقل . ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] ، وقد يلزم ( إصلاح ذات البين ) في غير الإيمان ، وكذا قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] ، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد ، وقد يجوز ذلك للمسلم في غير داره ؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة في أحد لا يمنع لزوم ذلك في غير المذكور . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه . وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن في الخلق ؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق ، وفي الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط . والله أعلم . ثم اختلف في قوله : { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } . قال بعضهم : الحبل والحيض . وكذلك روي عن علي وعبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهم ، أنهم قالوا : { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } : الحبل والحيض ؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم . ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم ؛ فبان أن الحامل لا تحيض . وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما ذلك دم عرق انقطع " وهو الأمر الظاهر المتعارف في النساء أن الحبل يحبس الدم . وقال بعض أهل التأويل : { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } : الحبل خاصة دون الحيض ؛ لوجهين : أحدهما : أنهن في الجاهلية كن يكتمن ذلك فيلحقن بغير الآباء ، فأوعدن على ذلك بعد الإسلام ؛ فثبت أن الحيض لا يحتمل . والثاني : أن الحيض لا ينسب بكونه في الرحم ، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه . والله أعلم . لكن الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة ، وما فيه من الدلالة أنهن مؤتمنات فيما يخبرن ؛ لوجهين : أحدهما : ما جاء في الخبر من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها . والثاني : لولا أنها ممن يقبل خبرها فيه لما أوعدن على الكتمان . ثم يحتمل الكتمان من وجهين : أحدهما : أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزواجهن بقولهن : العدة باقية ، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعاً . ويحتمل : ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة . ويحتمل قول أبي حنيفة ، رحمه الله تعالى ، في كتمانها ، إذ قال في المرأة إذا جاءت بولد في العدة ، فشهدت امرأة على الولادة والحبل : لم يكن ظاهراً أن يقبل قولها ؛ إذ هي أمرت بالإظهار ، والكتمان أورث تهمة في القبول . ويحتمل : ألا يحل لهن أن يكتمن الحبل فيلحقن بغيرهم من الأزواج . والله أعلم . وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً } . يحتمل وجهين : يحتمل : أنهن لا يملكن الرجعة ، ولا منع أزواجهن عن المراجعة ، بل ذلك إلى بعولتهن . ويحتمل : { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } في نكاح في العدة ، لا في حق الرجعة ؛ إذ الزوج يملك نكاحها في العدة ، وغيره من الناس لا يملك ، كقوله : { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } . وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ } ، فيه دليل أن قوله : { ٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } ، إنما عنى به المطلق طلاقاً لم يقطع على نفسه جهة العود . وقوله في ذلك : { إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً } ، يحتمل وجوهاً : يحتمل : إصلاح ما بينهن . ويحتمل : إن أرادوا إمساكهن بالمعروف ، كقوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } ، فهو ممسك لها وإن كان مضرّاً . ثم الأصل في هذا : أنه وإن قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، ليس على ألا يصير ممسكاً لها بغير المعروف . وأصل هذا : أن ليس في القول بأن { لَّمْ تَفْعَلُواْ } ، دليل الجواز ، والفساد إذا فعل ذلك . ثم اختلف في قوله : { فِي ذَلِكَ } أي : في الوقت الذي يعيد به ، أو { فِي ذَلِكَ } القروء . والله أعلم . وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } . روي عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } . وقال آخرون : لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة . وقال غيرهم : لهن من الحق في المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم الأبضاع إلى الأزاوج ؛ فيدل هذا على أن الخلوة ، والتسليم منها ، يحل محل قبض الحق منها لزوجها . وقيل : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ } ، الحقوق ما تلزمهن من حقوق الأزواج ، يلزم مثلها على الأزواج لهن ، وإن كانت مختلفة . وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . قيل : هو الطلاق بيد الرجل وليس بيدها . وقيل : هي الإمارة والطاعة والأمر . وقيل : هي ما فضل الله به عليها من الجهاد والميراث وغيره . وقيل : لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل ، وذلك ليس لهن . وقيل : هي فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر . وقال الشيخ أبو منصور ، رحمه الله تعالى ، في قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } ، أي من الحقوق على الأزواج . ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة ، ويحتمل ما أتبع من قوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } ، ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار . وعليها من الحقوق : مقابل الأول : البذل له وألا يوطئن فرشهن أحداً . ومقابل الثاني : أن يحسن إليهن في البر باللسان والقول المعروف الذي فيه تطيب نفسه به ، كما وصف الحميدة منهن . " من إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا دعوتها أجابتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها " . ومقابل الثالث : ألا تتلقاه بمكروه ، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه . والله أعلم . و " الدرجة " : التي ما له من الملك فيها ، والفضل في الحقوق عليها ، وما جعل " قواماً عليها " ، وغير ذلك . والله أعلم . ويحتمل : ما لهن من قوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } ، وعليهن بذل حقهم المعروف ، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت ، مع حفظ ماله عندها ، والله أعلم . وقوله عز وجل : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } . فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين . وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } . أن له الرجعة بعد طلاقين ، بذكره مرتين . وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة ؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة ، وهو على مالك ؛ لأنه يقول : ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع . والتسريح بإحسان : هو التطليقة الثالثة ، كذلك " روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه سئل عن " التسريح بإحسان " ، فقال : " هو التطليقة الثالثة " . فإن قيل : أيش الحكمة في ذكر ( المعروف ) في الإمساك ، و ( الإحسان ) في التسريح . قيل : وذلك أن في ( التسريح ) قطع الحقوق التي أوجبها النكاح ، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا ، والإحسان أبداً إنما يكون عند ابتداء الفعل ، لا عند المكافأة . وأما ( المعروف ) في الإمساك فالنكاح أوجب ذلك ؛ كقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] . قيل : " الميثاق الغليظ " : الحقوق التي أوجب النكاح . وهذا - والله أعلم - وجه الحكمة ، و ( المعروف ) ما عرفا في النكاح ، و ( الإحسان ) هو ما يبتدئ مما لم يعرفا . وقوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } . فظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج ، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعاً ، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج يحفظ عليهما حدود الصحبة ، فيشبه أن يكون في الآية الإضمار ( فهما الحكمين ) ، فيكون كقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } [ النساء : 35 ] ، فيكونان هما اللذان يحفظان عليها الحد والمحدود . ويحتمل : أن يكون الخطاب في قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } للحكام ؛ لأنهم هم الذين يتولون النظر في أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود الله . ثم القول عندنا في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } ، إذا كان النشوز واقعاً من قبل الزوج فإنه لا يحل له أخذ شيء على الخلع استدلالاً بقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] . وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر ، ويكره الزيادة [ وتجوز ] . أما قدر المهر فإنه لا بأس إذا كان من قبلها استدلالاً بقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } ، ذكر رفع الحرج عن الذي فدى فيما عنه نهي في غير هذا وهو المؤتمن ؛ لذلك قلنا : إنه يجوز إذا كان النشوز من قبلها قدر المهر . وأما الزيادة فإنها تكره استدلالاً بما روي في الخبر : " أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت بغض زوجها ، فقال : " أتردين عليه حديقته ؟ " فقالت : نعم ، وزيادة . فقال : " أما الزيادة فلا " ففيه الدلالة أن النشوز إذا كان من قبلها فإنه يجوز قدر المهر . وقال ابن داود : خالف الشافعي ظاهر الكتاب فيما جعل له أخذ ما فدى والزيادة ، والكتاب رفع الحرج عن أخذها ما فدى ، لم يجعل له غيره بقوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } . وقال ابن شريح : ما ذلك الأخذ في الطلاق ، إنما ذلك في الطلاق كرها ؛ لأنه ليس في الآية ذكر الطلاق . واستدل بقوله : { آتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] ، فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذي ذكره ، ثم كان له أخذ ما تبذل في غير الطلاق ، فعلى ذلك في الطلاق [ وفي الطلاق ] أحق . والله أعلم . والأصل عندنا : جواز ما بذلت أخذه مما احتيج به الرجل إن كان له ذلك في غير الطلاق ، وهو في الطلاق أجوزه ؛ لأنها تنتفع ، غير أنه يكره له الفضل لما ذكرنا من الآية والخبر . ثم يجوز هو لأنه تبادل ، فكان كالعقود التي تكره لربح ما لم يضمن على الجواز فكذا هذا . والأصل : بأن الطلاق بالبذل بينها ، وهو لو لم يملك البينونة مطلقاً لم يملكه بما شرط ؛ فثبت أنه يملك . وأصله : أنه بالطلاق ، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد فانتفعت بإزاء ما بذلت ؛ لذلك سلم للزوج ما أخذ . والله أعلم . قال : ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح ، فيصير أخذ ما يأخذ بالذي أعطى ، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل ، وذلك وصف الربا . والله أعلم . ثم اختلف في قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } : قيل : { يَخَافَآ } علما ، يعني الرجل والمرأة . وقيل : علم الحكمان ألا يقيما حدود الله . وعلى ذلك قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } ، { خِفْتُمْ } يعني علمتم . وقيل : الخوف هو الخوف ، فكأنه أقرب ؛ لأن العلم يكون فيما مضى من الحال أنهما أقاما حدوداً أو لم يقيما . وأما الخوف في حادث الوقت أمكن ؛ لأنه لا يعلم باليقين ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، وهو كقوله : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأنعام : 15 ] . ثم ختلف في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } : قال بعضهم : أراد بقوله : ( عليهما ) ، ( عليه ) خاصة . وهذا جائز في اللغة إضافة الشيء إلى الاثنين . والمراد واحد منهما ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من أحدهما ، ومثله كثير . وقال آخرون : أريدا جميعاً : المرأة بالفداء ، والزوج بالأخذ ؛ لأن الزوج نهي عن أخذ شيء مما آتاها بقوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } ، ثم أباح ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط . وقيل : أراد بذلك الزوج خاصة . وهو ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } . قيل : إذا لم يفهم بحد من حدود الله تعالى ما يفهم من حد الخلق ، كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله : { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، و { وَجَآءَ رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] ما فهم من استواء الخلق ومجيئهم ؟ والاستواء والمجيء إلى احتمال معان أن ينفي عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود التي في الشاهد . فإذا لم يفهم من هذا ذلك لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا ، وقد قال : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . وقوله : { حُدُودُ ٱللَّهِ } . قيل : أحكام الله وسننه . وقيل : أوامره ونواهيه . [ وقيل : آدابه وهو واحد . ] وقوله : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } . يحتمل وجهين : يحتمل : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ } مستحلاًّ بها ، فيكفر بتعديه ذلك ، فهو ظالم - ظلم كفر . ويحتمل : { وَمَن يَتَعَدَّ } تجاوز أمر الله وما نهاه عنه غير مستحل لها ، فهو ظالم نفسه ، غير كافر . وقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } ، فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ، وقوله : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } ، قيل : التطليقة الثالثة ، وعلى ذلك جاء الخبر ، وهو واحد عندنا ، يدل عليه أيضاً قوله تعالى : { حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } . ويحتمل : عقد النكاح خاصة ، دون الجماع من الثاني ؛ إذ ليس في الآية ذكر الدخول بها . وأما عندنا : فهو على الجماع في النكاح الثاني ، يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا ، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسليتها " ، فيكون النكاح مضمراً ، وهو أولى ؛ لأن الآية في عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء . وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة - إذ هي لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها ، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه . وقوله : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } . فيه دليل على أن في التراجع إيجاب عقد بهما جميعاً ؛ فدل على قطع رجعه الثاني المحل للزوج الأول ، وذلك أن لا رجعة فيه لغيره . وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } ، أضاف ( الرد ) إلى الأزواج ؛ فدل أنهم ينفردون به دونهن . ثم ذكر الكتاب : { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ، جعل سبب الحل على الزوج الأول نكاح الثاني ، لم يجز أن ينهى عنه ، وقد جعل هو سبب رفع الحرمة ؛ إذ مثل هذا - في أحكام الله تعالى - لا يوجد ولا يستقيم وهو كالوضوء فيما جعل سبباً لإقامة الصلاة ، ولم يجز أن يجعل سبباً لها ثم يكره الإقدام عليه وينهى عنه ، وكالتحريم إذ جعل سبباً للدخول بها في الصلاة لم يجز النهي عنها ، وبها قوامها ، كذا هذا ، لما جعل سبباً لرفع الحرمة به لا جائز أن ينهى عنه . ثم فيه دلالة جواز نكاح المحلل . فإن سئلنا عن قوله عليه الصلاة والسلام : " لعن الله المحلل المحلل له " قيل : لحوق اللعن لأجل النكاح على قصد الفراق والطلاق ، ليس لأجل التحليل على الأول ، ورفع الحرمة عنه ، دليله قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله لا يحب كل ذواق مطلاق " ؛ وذلك لقصده الفراق بنكاح ؛ إذ النكاح بني في الأصل على البقاء والدوام عليه ، وفيه التعفف ، وفي الطلاق زوال ما به يقصد ؛ فلهذا لحق ما لحقه من اللعن . ثم المحلل له لما طلب بنكاح الزوج الثاني ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها ، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة ، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر ، انزجر عن ذلك . ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه ؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجراً ومنعاً عن ارتكابه . وقوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } ، يخرج على الترخيص ؛ وذلك - والله أعلم - أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم يحرم فأخبر - عز وجل - وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة - أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبداً . والله أعلم .