Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 256-257)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } . قيل : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } ، أي : لا يكره على الدين . فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض . وقال بعضهم : نزلت في المجوس ، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، أنه يقبل منهم الجزية ، ولا يكرهون على الإسلام . ليس كمشركي العرب ألا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، ولا يقبل منهم الجزية ، فإن أسلموا وإلا قتلوا . وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه كتب إلى المنذر بن فلان : " أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية " وعلى ذلك نطق به الكتاب { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] . وقال قوم : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } أي : لا دين يقبل بإكراه ، بل ليس ذلك بإيمان . والثاني : أن { ٱلرُّشْدُ } قد تبين من الغي ، وبين ذلك لكل أحد حتى إذا قبل الدين قبل عن بيان وظهور ، لا عن إكراه . وقال آخرون : قوله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } ، أي : لا إكراه على هذه الطاعات بعد الإسلام ؛ لأن الله تعالى حبب هذه الطاعات في قلوب المؤمنين فلا يكرهون على ذلك . ومعناه : أن في الأمم المتقدمة الشدائد والمشقة ، ورفع الله عز وجل تلك الشدائد عن هذه الأمة وخففها عليهم ، دليله قوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، وقوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 157 ] ، ومثل ذلك كثير ، كانت على الأمم السالفة ثقيلة وعلى هذه الأمة مخففة ، فإذا كانت مخففة عليهم لا يكرهون على ذلك . وقال آخرون : هو منسوخ بقوله عليه السلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله " . وقال آخرون : إن قوماً من الأنصار كانت ترضع لهم اليهود ، فلما جاء الإسلام أسلم الأنصار ، وبقي من عند اليهود من ولد الأنصار على دينهم ، فأرادوا أن يكرهوهم ، فنزل الآية { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : ويحتمل { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } ما قال في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] . وقوله تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } . يعني قد تبين الإسلام من الكفر بالله فلا تكرهون على ذلك . وقوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ } . اختلف فيه : قيل : { بِٱلطَّاغُوتِ } ، الشياطين . وقيل : كل ما يعبد من دون الله فهو طاغوت من الأصنام والأوثان التي تعبد من دون الله . وقيل : { بِٱلطَّاغُوتِ } ، الكهنة الذين يدعون الناس إلى عبادة غير الله بكفر هؤلاء وتكذيبهم . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - : ومن جملته : ومن يكفر بالذي يدعو إلى عبادة غير الله ، ويكذبه في ذلك ، ويؤمن بالذي يدعو إلى عبادة الله ، ويصدقه ، أنه داع إلى حق . وقوله تعالى : { وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ } . فيه دلالة : أن الإيمان بالله هو إيمان بالأنبياء والرسل والكتب جميعاً ، إذ لم يذكر معه غيره ، والكفر بالذي ذكرت يمنع حقيقة الإيمان بالله ؛ لأنه [ في آخر السورة ذكر { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، على طريق التفضيل - ] من آمن بالله آمن به وبأمره ونهيه وشرائعه - لكن الذي قال : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، لقول قوم حيث قالوا : { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [ النساء : 150 ] ، وإلا لكان في الإيمان بالله إيمان بجميع ذلك . وقوله تعالى : { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . يحتمل هذا وجهين : يحتمل : فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا انفصام لذلك العقد ولا انقطاع ، لا تقوم الحجة ببعضه . ويحتمل : { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } ، بنصره إياه بالحجج والبراهين النيرة التي من اعتصم بها لا انفصال بها عنه ولا زوال . ثم فيه نقض على المعتزلة ؛ لأنه أخبر عز وجل أن من آمن بالله فقد استمسك بكذا . والمعتزلة يقولون : صاحب الكبيرة يخلد في النار ، وهو مؤمن بالله ، فأية عروة أوهى من هذا على قولهم ؟ وأن له زوالاً وانقطاعاً من ثوابه الذي وعد له عز وجل بإيمانه وتصديقه به . وبالله العصمة . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لقولهم ، { عَلِيمٌ } بثوابهم . أو { سَمِيعٌ } ، بإيمانهم ، { عَلِيمٌ } ، بجزاء إيمانهم . والله أعلم . وقوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . قيل : الولي : الحافظ . وقيل : الولي : الناصر ، وهو ناصر المؤمنين وحافظهم . وقيل : سمي وليّاً لأنه يلي أمور الخلق من النصر والحفظ والرزق وغيره . وعلى ذلك يسم الولي وليّاً لما يلي أمور الناس . وقيل : قوله : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، أي : الله أولى بهم إليه رجاؤهم أطعمهم ، وهو الذي يكرمهم ، وأن الطاغوت أولى بالكافرين ، كما قال : { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ] ، أي أولى بهم . والله أعلم . وقوله تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } . وقوله : { يُخْرِجُهُمْ } ، بمعنى : أخرجهم . وجائز هذا في اللغة ( يفعل ) بمعنى ( فعل ) ، و ( فعل ) بمعنى ( يفعل ) ، جاز فيها ، غير ممتنع عنه . وقوله تعالى : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } ، و { مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } ، هو ابتداء نشوئهم عليه ، ليس أن كانوا فيه ثم أخرجهم ، كقوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } [ الرعد : 2 ] ، رفعها ابتداء ، ليس أن كانت موضوعة ثم رفعها . فعلى ذلك الأول . والآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ إذ من قولهم : إن جميع ما أعطى مؤمن من الإخراج من الكفر ، أعطى مثله الكافر ؛ فكأنهم يقولون : أخرجهم جميعاً من الظلمة ، وعليه إخراج الكفار أيضاً من الظلمات ، إذ ذلك هو الأصلح له ، وعليه أن يعطي ما هو الأصلح لهم في الدين . فإذا كان هذا قولهم ، فهو ولي الكفرة والمؤمنين جميعاً على قولهم ؛ إذ هو بالسبب الذي ذكر الولاية للمؤمنين فيعطي أيضاً للكفرة . فإن قالوا : إنه أضاف ( الكفر ) إلى الطاغوت ، وأنتم تضيفونه إلى الله عز وجل ؟ قل : هو ظاهر الكذب ؛ لأنا لا نضيف ذلك إليه ( الكفر ) . إنما نقول : إنه خلق فعل الكفر من الكافر كفراً ، وخلق فعل النور من المؤمن نورا . على أنه إن كان هذا في الكفرة فما القول في [ الأول ] من قولكم : إنه منعم على المؤمن ، ثم لا نعمة فيه على المؤمن إلا بالأمر والأقدار ، والأقدار منه موجود للكافر في كفره على قولكم ، ثم لا نعمة تقع في الأمر والدعاء للمؤمن إلا ويقع مثله للكافر ، إذ هو في الأمر والدعاء كالمؤمن سواء . ولا قوة إلا بالله . وليس في القول : إنه خالق ، بأنه خالق فعل كل أحد على ما عليه إضافة الكفر إليه ، بل إنما يضيف الخير إليه بما منه فيه من الإفضال على الشكر له . فدل أن له عز وجل في المؤمن فضل صنع ، ليس ذلك له في الكافر . و ( الكفر ) في اللغة الستر ، وكذلك ( الظلمة ) : هي الستر . يقال : ( كفرت الشيء ) أي سترته ، وكذلك يقال : ( ليل مظلم ) ؛ لأنه يستر ضوء النهار ونوره ، فيستر الأشياء عن أبصار الخلق . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - في قوله : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ … } الآية : دلت هذه الآية على أن كان من الله إلى الذين آمنوا معنى لم يكن منه إلى الذين كفروا به كان إيمانهم ، ولو لم يكن إلا الأمر والأقدار أو البيان ، على ما قالت المعتزلة ، لكان كل ذلك عندهم إلى الكفرة ، فلا وجه لتخصيص المؤمنين بما ذكر ، وجعل الطاغوت أولى بالكافرين ، وصنع الله إلى كل واحد ، ولم تكن من الله تلك الزيادة ، فإذا كان الذي ذكر لهم في أنفسهم فلا وجه للامتنان بذلك . ومن البعيد ذكر الامتنان فيما به الإلزام والأمر . وما ذكرت المعتزلة إنما هي أسباب الإلزام ، ولولا ذلك كان أيسر عليهم وأقل لائمة . فكيف بمن بها ثابت أن كان منه فضل ، ليس ذلك في أعدائه فيه استوجب الحمد منهم ؛ ولهذا يضاف إليه الخيرات على الشكر له ، وتوجيه الحمد إليه ، ولا يضاف إليه الشر بما ليس في ذلك تشكر ، إنما منه الخذلان بما علم من إيثار الكافر عداوته واختياره الكفر به ؛ فلذلك لم يجز الإضافة إليه ، والإضافة إلى الله جل ثناؤه لا باسم الخلق يخرج مخرج التعظيم له والخضوع من العبد بالحمد له والشكر . ولا يجوز مثله فيما ليس فيه ذلك على ما لا يضاف إليه الأنجاس والخبائث والجواهر القبيحة ، وإن كان من طريق الخلقة جرى عليها تدبيره وخرجت على تقديره . فعلى ذلك أفعال الخلق ، وعلى ذلك القول بأنه رب كل شيء ، وإله كل شيء . ثم على الإشارة لا يوصف بذلك في الأشياء الخاملة المستخف بها . فمثله الأول . والله أعلم . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] ، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 258 ] ، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 108 ] ، ونحو ذلك يخرج على وجوه : أحدهما : أنه لا يهديهم وقت اختيارهم ذلك ، ويكون على ألا يخلق منهم فعل الهداية ، وهم يختارون فعل الضلال . ويحتمل : من في علمه أنه لا يهتدي ، فيرجع المراد به إلى الخاص . ويحتمل : لا يهدي طريق الجنة في الآخرة من كفر بالله في الدنيا . ويحتمل : لا يجعلهم في حكمهم ، كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] . وقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . ذكر أن الكفرة هم أصحاب النار ، وذكر في آية أخرى أن الملائكة أصحاب النار بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } [ المدثر : 31 ] ، لكنه ذكر الملائكة أصحاب النار ؛ لما يتولون تعذيب الكفرة فيها ، فسماهم بذلك ، وذكر الكفرة أصحاب النار ؛ لأنهم هم المعذبون فيها ، والملائكة هم معذبوهم بها . والله أعلم .