Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 65-69)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } الآية ، على المعتزلة في قولهم : إن على الله الأصلح لهم في الدين ؛ لأنه أخبر أنهم أخلصوا الدين لله إذا ركبوا في الفلك ، ولا شك أن ذلك أصلح في الدين ، فلما لم يبقهم على تلك الحال ليكونوا على ذلك الإخلاص ؛ بل أخرجهم منها فعادوا إلى ما كانوا فدل ذلك أن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدين . وقوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } قوله : { لِيَكْفُرُواْ } أي : أنجاهم ليكونوا على ما علم منهم أنهم يكونون ، وقد علم أنه يكون منهم الكفر ، فأنجاهم إلى البر ؛ ليكون منهم ما قد علم أنه يكون ويختارون ، وكأن إخلاصهم الدعاء في الفلك لم يكن إخلاص اختيار ، ولكن إخلاص دفع البلاء عن أنفسهم ؛ إذ لو كان ذلك إخلاص اختيار ، لا دفع البلاء لكانوا لا يتركون ذلك في الأحوال كلها ، فهذه الآية وإن كانت في أهل الكفر ، ففي ذلك - أيضاً - توبيخ لأهل الإسلام ؛ لأنهم لا يقومون بالشكر لله وإخلاص العبادة له في حال السعة والنعمة كما يكونون في حال الضيق والشدة ، فينبههم ليكونوا في الأحوال كلها مخلصين العمل لله شاكرين له ؛ لئلا يكون عملهم على حرف وجهة كعمل أهل النفاق ، وكعمل أولئك الكفرة ، والله أعلم . وقوله : { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } قيل : يكذبون . وقيل : يعدلون . وقيل : يؤفكون : يؤفنون ويحمقون ، والمأفون : الأحمق ، والأفن : الحمق . وقوله : { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } أي : سوف يعلمون صدقي في قولي ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما عادوا إلى ما كانوا عليه إذ أنجاهم من الأهوال التي ابتلوا بها ؛ أي : سوف يعلمون ما أوعدهم الرسل . وفي قولهم : { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } وجه آخر : وهو أن يقال : ما هذه المحاسن والأعمال [ التي ] تعملون وتعدون محاسن وصلاحاً في هذه الدنيا إلا لهو ولعب ؛ لما لا تبقى ولا تنتفعون بها إلا ما ابتغي بها وجه الله والدار الآخرة ، وهو ما قال : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي : هي الباقية الدائمة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون } . وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } قد ذكرنا في غير موضع : أن الاستفهام من الله يخرج مخرج الإلزام والإيجاب ، أو يخرج مخرج الخبر ، لا على حقيقة الاستفهام ؛ لأنه عالم بذاته ، يعلم ما في باطنهم وظاهرهم ، وما يسرون وما يعلنون ، بما كان ويكون ، لا يستفهم عباده شيئاً ، ولكنه يخرج على ما ذكرنا على الخبر ، أو على الإلزام والإيجاب ؛ فالخبر كأنه يقول : قد رأوا وعلموا أن الله جعل الحرم مأمناً لهم يأمنون فيه ، وكان الناس حولهم يتخطفون ويخافون ، والإلزام والإيجاب أن يقول لهم : اعلموا أن الله جعل لكم الحرم مأمناً تأمنون فيه والناس من حولكم على خوف يسلبون ويُسْبَوْنَ ويقتلون . ثم يخرج تذكيره إياهم هذا على وجهين : أحدهما : أن الله قد جعل لكم الحرم مأمناً تأمنون فيه ؛ لتعظيمكم حرم الله وبيته ، والناس حولكم على خوف ، وأنتم تشاركون من حولكم في الدين ، فكيف تخافون الاختطاف والاستلاب إذا دنتم بدينه واتبعتم رسوله ، فإذا آمنكم بكونكم في حرم الله وتعظيمكم بيته ، ودفع عنكم الاستلاب والاختطاف ، فكيف تخافون ذلك إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره ؟ ! بل الأمن والسعة إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره أكثر وأحق ؛ فكأنهم إنما تركوا اتباع دينه خوفاً من الاختطاف ؛ كقولهم : { إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } [ القصص : 57 ] فقال لهم : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] . أو يذكر هذا لهم : أنه قد أمنكم وصرف عنكم مع عبادتكم الأصنام وصرفكم الشكر إليها عند كل مكروه وسوء بكونكم في مجاورة بيته وحرمه ، فإذا صرفتم العبادة إليه وشكرتم نعمه - أحق أن يؤمنكم ويوسع عليكم نعمه ويدفع عنكم ما لم يدفع عمن حولكم ، وأنتم شركاؤهم في عبادة الأصنام واتخاذهم إياها آلهة . على هذا يخرج ، والله أعلم . وقوله : { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } يحتمل قوله : { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي : بما أوحى إليكم إبليس من الباطل تؤمنون ، وهو ما أوحى إليهم : أن هؤلاء شفعاؤكم عند الله وعبادتكم إياها تقربكم إلى الله زلفى ؛ كقوله : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ … } الآية [ الأنعام : 121 ] . وقوله : { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي : بما أوحى إليكم محمد من الله تكفرون . أو أن يكون قوله : { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي : بالشرك يؤمنون { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي : بتوحيد الله يكفرون . أو أن تكون النعمة - هاهنا - هي القرآن ، أو ما ذكرنا ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله يخرج على وجهين : على الخبر مرة ، وعلى الإيجاب تارة والإلزام : [ أي ] : اعلموا أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله . وعلى الخبر : أي : قد علمتم أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ؛ إذ قد عرفتم بعقولكم قبح الافتراء والكذب فيما بينكم ، فلا كذب ولا افتراء أوحش أو أقبح من الافتراء على الله ، فكيف افتريتم عليه وهو أوحش وأقبح ؟ ! . وقوله : { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ } يحتمل : { كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ } برسول الله ، أو بالقرآن الذي عجزوا عن إتيان مثله ، أو بالتوحيد ، أو كذب بالحق الذي ظهر حقه وصدقه لما جاءه . وقوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } كأنه يقول : اعلم أن جهنم مثوى للكافرين ؛ يذكره على التصبّر على أذاهم ، والتسلي له بما كان يضيق صدره لمكان تركهم الإيمان والإياس منهم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } يشبه أن يكون هذا صلة قوله : { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي : ليس من أجهد نفسه في طلب الدنيا والعمل لها إلا لهواً ولعباً ، وأما من أجهد نفسه لله وطلب مرضاته فهو حق وله دار الحياة التي لا موت فيها ولا انقطاع . ويشبه أن يكون على الابتداء لا على الصلة بالأول ؛ يقول : والذين جاهدوا أنفسهم في هواها وشهواتها وأمانيها حقيقة ابتغاء مرضات الله وطلب الهداية والدين وسبيله { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ذكر السبل - هاهنا - لما سبق ذكر الجماعة ، يقول : الذين جاهدوا فينا لنهدينهم كلا سبيلا فيكون سبلا للكل ، وأما قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] أن السبل على الإطلاق على غير تقدم ذكر من الهدى ، أو شيء من الإضافة إلى الله - هي سبل الشيطان ، والله أعلم . وقوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } يحتمل قوله : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } في التوفيق لهم في الإحسان والأعمال الصالحة . أو مع المحسنين في النصر لهم والمعونة لهم مع أعدائهم . أو مع المحسنين يحفظهم ويتولاهم . ثم لم يفهم أحد من الخلق من قوله : { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } و { مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } ما يفهم من الخلق وذوي الأجسام والجثات ، فكيف فهم بعض الناس من قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] و { وَجَآءَ رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] و { يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 210 ] في كذا ما يفهم من استواء الخلق ومجيئهم وإتيانهم ؟ ! ليعلم أن فهم ذلك على ما يفهم من الخلق بعيدٌ محال ، والله أعلم بالصواب .