Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 26-27)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } الآية [ آل عمران : 26 ] : يحتمل قوله : { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } وجهين : أحدهما : مالك ملك كل ملك في الدنيا له حقيقة الملك . والثاني : أن الملك له ، يؤتي من يشاء من ملكه ، وينزع ممن يشاء الملك ، وهو المالك لذلك ، والقادر عليه . والآية ترد على القدرية قولهم : لأنهم يقولون : إن الله لا يعطي الكافر الملك ، وهو قد أخبر - عز وجلّ - أنه يؤتي من يشاء الملك ، وقد يؤتي الكافر به الملك ، فإن قالوا : أراد بـ " الملك " : الدين ، فقد أخبر - عز وجل - أيضا أنه ينزع ، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا . ثم في الآية تقوية لمن قرأ : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] بالألف لأنه أعمّ وأجمع ؛ لأنه قال : { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } وهو أعمّ . والثاني : أن " الملك " إنما يعتبر عن الولاية والسلطان ، و " المالك " : إنما يعبر عن حقيقة الملك ، ومن له في الشيء حقيقة الملك - فله ولاية التغلب والتصرف فيه ولاية السلطان ، ولا كل من له ولاية السّلطان يكون له ولاية التغلب فيه ؛ لذلك كان بالألف أقرب ، ومن قرأ : " ملك يوم الدين " بغير ألف ذهب إلى أن هذا كقوله : { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [ الحج : 56 ] ومن الملك يقال : ملك ؛ لا يقال : مالك ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . والمالك - على الإطلاق - لا يقال إلا [ على الله ] ؛ وكذلك الرب - على الإطلاق - لا يقال إلا [ على الله ] ، وأما العبد فإنه يقرن الشيء إليه ؛ فيقال ربّ الدار ومالكها ، ورب الدابة ومالكها ، والله أعلم . وقوله : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } : قال قائلون : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة . وقال آخرون : الخطاب بذلك لكل عاقل ؛ وهو كقوله : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] إلى آخر الآية ، ذلك الخطاب لكل أحد لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصّة . وقال الشيخ - رحمه الله - : ليس هو خطاب ؛ ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد ؛ لأنه لو خوطب به لم يذكر " قل " عند قراءته . وقوله : { ٱللَّهُمَّ } : قال قائلون : " اللهم " يعني : يا آلهتهم . وقال آخرون : " الله " - على القطع - " أمّنا " اقصدنا بالخير ، والله أعلم . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } الآية : فكأنه - عز وجل - امتحن من رغب في الملك ، أو نال حظّاً منه - أن يصرفوا وجه الرغبة إليه ، أو يروا حقيقة ما نالوه منه ؛ فيوجهون إليه الشكر ، ويخضعون له بالعبادة والطاعة فيما أمرهم به ؛ لينالوا شرفة ويدوم له عزّه ؛ وذلك كقوله : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ النساء : 134 ] ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم ، ومنعتكم عن القيام بحقهِ - هو الذي يملك ذلك ؛ فإليه فاصرفوا سعيكم ، وبشكره استديموا ، الذي له اخترتم جل كدحكم ؛ فإنه يملك ذلك دون غيره ؛ وجملة ذلك في قوله : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [ النحل : 53 ] ومعقول فيما عليه طبع البشر ، وإليه دعاهم عقولهم : أن كل شيء تؤثره أنفسهم - كان الذي يحق عليهم طلبة عند من به يوصل إليه ، واختيارهم ما به يبلغون ما يأملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك ، فمثله يلزم أمر الملك ولذَّات الدُّنيا ، وتقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم ؛ لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة ، وطلب ذلك من الوجوه التي يطلب بها البشر - لم يكن الدين لهم ذلك بأحق من غيرهم ؛ بل كان فيمن حرموا مَنْ هم أولى بذلك ، وأحق أن يكون في ذلك متبوعاً لا تابعاً من الذين نالوه ؛ ليعلم أن الذي يملك دفع ذلك إلى أحد أو تمليكه أحداً ، غير الذين صرفوا كدحهم ، وجعلوا له سعيهم ؛ فيكون لله في كل أمر ممّا عليه أمر البشر آية عظيمة ، وعلامة لطيفة على تفرده بملك ذلك ، وتوحُّدِهِ بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده . وعلى ذلك إذ ثبتت في ذلك أدلة التوحيد ، ولزوم الاعتبار به ؛ ليعرف من له الحق - ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة ؛ أن الملك ناله الجبابرة ، والسعة التي تصل إلى الكَفَرَة - لم يكن نالوه بتقدير الله ، ولا وصلوا إليه بتدبيره ؛ إذ حقه ما ذكرت من عظيم ما فيه من النعم ؛ ليلزمهم به أرفع المحن وأعلى الشكر ، وله أن يبلو بالحسنات والسّيئات ؛ كما وعد عز وجل ؛ وجملته : أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء ، فليس الذي يعطي منه على الاستحقاق ، ولا ما يمنع على العقوبة - وإن احتمل الدفع والمنع لذلك - ولكن له وللمحن ، والمحنة أكثرها على مخالفة الأهواء ، وتحمل المكاره ، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم ، أو التمكين ليمتحنوا ؛ فيتبين الإيثار والترك لوجه الله ، والرغبة فيمن إليه حقيقة ملك كل شيء ، أو الميل إلى من إليه أنواع التغرير والمخادعات من غير تحقيق ، ولا قوة إلا بالله . وعلى ذ1لك قوله : { أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } [ البقرة : 258 ] يبيّن ذلك احتجاجه على إبراهيم [ - عليه السلام - ] بالذي ذكر ، وإغضاء إبراهيم عنه ، ولو كان الذي آتاه [ الله ] الملك إبراهيم [ - عليه السلام - ] لم يكن ليجترئ على تلك المقالة بقوله : { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، ولا قوة إلا بالله . ثم على قول المعتزلة ؛ إنّ الله - تعالى - إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه ، وينزع عن أعدائه في الجملة ، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك ، وكان الوجوب على ضدّ ذلك ؟ ! أيظن المعتزلة أن الملحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول ، أو يمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ مما لقنتهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد ، واستترت بستره في الظاهر ، ثم أعطت للملحدة هذا ؛ ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد ، ودفع حجج أهله ، جل الله عما وصفته الملحدة ، وتعالى ، فيه العصمة والنجاة . ولما أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم به إبليس ، حتى كانوا بمثله يحتجون ؛ فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم ، بما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا ؛ فظنوا أنهم أجل عند الله - تعالى - وأرفع في المنزلة منهم ، من لم يكن ليؤثرهم بالرسالة عليهم ، لكن أولئك حققوا حقائق النعم لله ، ونيل ما نالوا من الملك والشرف به ، والمعتزلة رامت إزالة ذلك عن الله ؛ ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له ، والطاعة لمن بعثه الله ، وأسأل الله تمام نعمه في الدين والدنيا . وقوله : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } ، وقوله : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } ونحو ذلك : وجوه من الأدلة . أحدها : أن يعلم أن الله [ - عز وجل - ] فيما يخلق - لا يخلق على معونة الأسباب ، وتوليد الطبائع ؛ لأن الأسباب تكون بموضع الإشكال ؛ وكذلك الطباع تولد الذي في جوهرة ؛ نحو : الحار يولد الحرارة ، والبارد [ يولد ] البرودة ؛ فبين [ الله - تعالى - ] الإنشاء على أحوال التضاد ؛ [ ليعلم ] أنه القادر على اجتماع ما شاء بلا معونة من ذلك ولا توليد ، ولا قوة إلا بالله . والوجه الثاني : أنه جرى تقدير ذلك على ما لا تفاوت له ، ولا اختلاف في اختلاف الأعوام ؛ ليعلم أنها مسوّاة على التدبير ، أحكمه على ذلك العزيز الحكيم ، الذي لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه أمرّ وليعلم أن الذي قدر على ذلك واحد ؛ إذ لم يختلف ولم يتناقض ، ولا قوة إلا بالله . وأيضاً ، أنه قد صيّر كل جوهر بأحداث الآخر ؛ كأنه لم يكن قط ، ولا كان بقي له أثر ، ثم رده بالوصف الذي كان ؛ حتى لا يفوت منه شيء ، حتى لا سبيل إلى العلم بالتفصيل بينهما ؛ ليعلم أن قدرته على البعث ، بعد أن يفني كل الأجزاء والآثار ، على ما كان ، ولا قوة إلا بالله . وأيضاً ، أنه إذ بنى الأمر على ما فيه من عظيم الحكمة ، وعجيب التدبير - لم يجز أن يكون فعله خارجاً على العبث ، ثم في رفع المحنة ، وإبطال الرسالة في تعليم ما في ذلك من الحكمة ، وما يلزم بمكان ذلك التدبير من الشكر والمعرفة ، ثم من الترغيب فيما يملك من النعمة ، والترهيب عما عنده من النقمة - إبطال الحكمة ، وتقرير العالم مَع ما ذكرت على العبث ، وذلك فاسد في العقول ، وموجود في الجواهر عظيم حكمة منشئها ، ثبت بذلك العبادة والرسالة والجزاء ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { لْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } إلى آخره : يحتمل وجهين : يحتمل أن تؤتي ابتداء من غير أن كان آتاهم مرة ؛ وكذلك تنزع - أي تمنع - ابتداء من غير أن كان آتاهم ، ثم ينزع ؛ كقوله : { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } [ الرعد : 2 ] رفع ابتداء من غير أن كانت موضوعة فرفعها ؛ وكقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] إخراج الابتداء ، لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم ، فعلى ذلك هذا ، وعلى ذلك قوله : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } إيلاج ابتداء ، لا أن كان أحدهما في الآخر ؛ كقوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القصص : 71 ] و { ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً } [ القصص : 72 ] أخبر أنه لم يجعل واحداً منها مؤبّدا ؛ وكذلك قوله : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } إخراج ابتداء ؛ أن يخلق الحي من الميت ابتداء ، ويخلق الميت من الحي من غير أن كان فيه ؛ ويحتمل هذا كله أن كان يؤتي الملك بعد أن لم يكن ، ويعزّ بعد الذل ، وينزع الملك بعد أن كان ، ويذل بعد أن كان العز ؛ [ وكذا قوله : { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } : أن يدخل بعض هذا في هذا ، وهذا في هذا ] . وقوله : { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } : قيل : أن يخرج حي الأقوال من ميت الأفعال ، وميت الأفعال من حي الأقوال ، يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ؛ على ما سمى الله - تعالى - الكافر ميتاً ، والمؤمن حيّاً في غير موضع من القرآن . وقيل : يخرج حي الجوهر من ميت الجوهر ، وميت الجوهر من حي الجوهر . وقيل : يخرج الحي من المني ، ويخرج المني من الحي . وقيل : البيضة من الحي ، والحي من البيضة . وقيل : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة . وقوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . قيل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } : يعرف الخلق عدده ومقداره . وقيل : بغير تبعة ولا طلبة ؛ أي : لا يحاسبهم فيما أعطاهم من بعد ما أعطاهم . ويحتمل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } ، أي : لا يعطيهم بحساب أعمالهم ، ولكن بتفضل ، خلافاً للمعتزلة . ويحتمل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } : في الآخرة . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : " بغير هنداز - فارسية معربة " . وعن مقاتل : " لا يقدر ذلك غيره ؛ يقول : ليس فوقي ملك يحاسبني ، أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب ، لا أخاف من أحد يحاسبني " والله أعلم .