Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 37-40)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } . في ذلك آيات من وجوه : أحدها : آية القدرة على البعث والإحياء بعد الموت . والثاني : آية الوحدانية له والألوهية . والثالث : آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي . أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهاراً ، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكليته حتى لا يبقى منه شيء ؛ ومجيء الآخر وانتزاع هذا من هذا وإدخاله في الآخر دلالة أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة ، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت ؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهاراً وجعل النهار ليلاً ، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر - أعني : في جعل الليل نهاراً وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر - ليست بدون الإحياء بعد الموت ، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره ؛ فلا يعجزه شيء ، ولا قوة إلا بالله . وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه ، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا ، وهذا في هذا - دلالة أنه فعل واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد ، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر ، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره ، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه ، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر ، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو ردّ على الثنوية . وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله - أعني : حاجة أهل الدهر - وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك ، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم - دل أنه كان لم يزل عالماً بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم ، وأن له علماً ذاتيّاً وتدبيراً أزليّاً لا علماً مكتسباً ومستفاداً ، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار ، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل ، ولا [ يقدر ] أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر ؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم ، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا ، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم ، وإداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا - دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد ؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال ، وهذا يبطل قول الفلاسفة : إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها ، محرقة بذاتها ، فلو كان يدرك بنفسه ، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك ، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه ، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف ، والله أعلم . وقوله : { نَسْلَخُ } أي : ننزع منه النهار . وقوله : { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } . أي : داخلون في الظلمة ، يقال : أظلم فلان : إذا دخل في الظلمة . ثم سورة يس نزلت كلها بمكة محاجة أهل مكة في إنكارهم التوحيد ، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رماداً ، وإنكارهم الرسالة ، وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة : منهم من أنكر التوحيد ، ومنهم من أنكر البعث ، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها ، فبين الله - تعالى - في هذه السورة وذكر فيها الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري البعث وعلى منكري الرسالة ، وهو ما ذكر من الآيات ، من ذلك قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } ، وفيه دلالة القدرة على البعث على [ ما ] بينا فيما تقدم . وفي قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } دلالة الوحدانية له ؛ لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات والأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض لمنافع من السماء تتصل بالأرض ؛ فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبرهما واحد ؛ إذ لو كانا فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا فيما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العرف ، والله أعلم . وما ذكر أيضاً من الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية ، ودلالة البعث ، ودلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي : أما دلالة الوحدانية فهو ما جمع في الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في منافع الخلق وحوائجهم وأنهما شكلان ؛ فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد ؛ [ لأنه لو كان فعل عدد ] لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره ، فدل الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد - أنه فعل واحد . وفيه دلالة البعث لما ذكرنا من ذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكليته ، ودل إجراؤهما مجرى واحداً من أوّل إلى آخر ما ينتهي ذلك وينتهي العالم على تقدير منافعهم وحوائجهم أنه عالم بذاته مدبر بنفسه ، وأن له علما ذاتيّاً وتدبيراً أزليّاً لا مكتسباً مستفاداً ، وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر ، وتسخيرهما بمنافع هذا العالم وحوائجهم ، وقطعهما في يوم وليلة واحدة مسيرة خمسمائة عام ؛ فدل ذلك كله على أنه واحد لا شريك [ له ] قادر لا يعجزه شيء ، وعالم مدبر لا يخفى عليه شيء ، وعلى ذلك ما ذكر في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير ؛ من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب أنشأها لهم وأعلمهم [ بها ] ؛ ليصلوا إلى تلك المنافع والحوائج ؛ فدل أنه فعل واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا ، وأنه عالم بذاته مدبر ؛ ولذلك قال : { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي : ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يعجزه شيء ، والعليم الذي لا يخفى عليه شيء ، وبالله القوة . ثم قوله : { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } . وفي بعض الحروف : { والشمس تجري لا مستقر لها } فعلى هذا القول أي : تجري أبداً لا مستقر لها ولا قرار . ومن قرأ : { تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } : أي : لنهاية لها وغاية . ثم اختلف في تلك النهاية : فمنهم من يقول : نهايتها وغايتها هو ذهاب هذا العالم وانقضاؤه وتبديل عالم آخر ؛ كقوله : { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] ، وقوله : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] قدر نهايتها ، ومنهم من يقول : مستقرها : هو نزولها في كل يوم في منزل ، لما ذكر أن لها منزلا ، تنزل كل يوم في منزل ، ثم تطلع من مكان آخر ؛ وكذلك قال : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } . ومنهم من يقول : نهايتها ما ذكر في الخبر : " أنها إذا غربت ترفع إلى السماء السابعة ، تخرّ لله - تعالى - ساجدة تحت العرش ، ثم يؤذن لها بالطلوع " ؛ ذكر في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما أذن لها بالطلوع والارتفاع يأتيها جبريل بحلة من ضوء الشمس ، على مقدار ساعات من النهار في طوله في الصيف وقصره في الشتاء ، وما بين ذلك في الخريف والربيع ، فتلبس تلك الحلة ، كما يلبس أحدكم ثوبه " ، وذكر في القمر كذلك من الحبس والسجود لله ، إلا أنه ذكر فيه : " أن جبريل يأتيه بحلة من نور العرش " ، وفي بعض الأخبار : " بكف من ضوء العرش ، وبكفّ من نوره " ، فيلبس تلك الحلة - أي : ذلك النور والضوء - كما يلبس أحدكم ثوبه ، فذلك قوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] ذكر للشمس ضياء ، وللقمر نوراً كما ذكر في الخبر . وقال بعضهم : { لِمُسْتَقَرٍّ } : جريانها في البحر الذي خلق الله دون السماء بحر مكفوف حار ، فيه تجري الشمس والقمر ، والجوار الكنس . ويحتمل قوله : { تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } أي : تجري في مكان وتسير فيه ، والله أعلم . وقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } . { ٱلْعَزِيزِ } : الذي لا يعجزه شيء ، ويعزّ من أن يغلبه شيء ، { ٱلْعَلِيمِ } : الذي يعزّ من أن يخفى عليه شيء . وقال بعضهم : { ٱلْعَزِيزِ } : الذي أظهر أثر الذل في غيره ، لا ترى أحداً إلا وأثر الذل والحاجة فيه ظاهرة . وأما دلالة الرسالة : فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد ، وعرفهم وأتاهم بحججه وبراهينه ؛ دل أنه بالله عرف ذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } . أي : قدرناه منازل يزيد ويستوي وينتقص ، وكذلك جعل للشمس منازل أيضاً تزداد وتنتقص وتستوي ، لكن جعل منازل القمر في تغييره في نفسه يتغير ويزداد ويستوي وينتقص ، وأما الشمس فإنه جعل تغييرها في الزيادة والنقصان والاستواء في الأزمنة والأوقات ، فأما في نفسها فليس فيها تغيير ولا نقصان ولا زيادة ، فهو - والله أعلم - لما ذكر أنه جعل القمر سبباً للوصول إلى معرفة الأوقات والحساب والحجج بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] ، وعلى ذلك جعل طلوعه وغروبه مختلفاً في الليل والنهار ، وفي كل وقت وكل ساعة ، وأما الشمس فإنها في نفسها على حالة واحدة ، لا زيادة فيها ، ولا نقصان ، ولا تغيير ، إلا في الوقت الذي تنكسف ، وكذلك طلوعها وغروبها في وقت واحد لا يختلف ولا يتغير إلا في أزمنتها وأوقاتها ؛ فإنه يأخذ هذا من هذا ، وهذا من هذا ، ويدخل في هذا هذا ، ومن هذا في هذا ، وأمّا الأيام فإنه لم يجعل فيها تغيير ، فهو - والله أعلم - لما لم يشتد على الناس حفظها ولا جعل سببا لتعريف الأوقات والحساب . وقوله : { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } . قيل : إنه عود الكباسة القديم الذي قد أتى عليه حول ، فاستقوس ودق ، شبه القمر آخر ليلة ليطلع به أو أول ليلة . قال بعضهم : شبه القمر بالعرجون القديم ، وهو العذق اليابس المنحني القديم الذي أتى عليه الحول ؛ وهما واحد . وقوله : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } . جائز أن يكون ذكر الشمس هاهنا كناية عن النهار نفسه ، والقمر كناية عن الليل ؛ ألا ترى أنه ذكر الليل والنهار على أثر ذلك حيث قال : { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } يخبر أنه لا يدرك هذا هذا ولا سابقاً لهذا . وجائز أن يكون ذكرهما كناية عن الليل والنهار ، ولكن على بيان حقيقتهما ألا يدرك ضوء هذا هذا ؛ ولا ضوء هذا هذا ، فيغلبه ، ولكن يكون هذا في وقت وهذا في وقت آخر ، لا يجتمعان في وقت واحد . أو يذكر أنه لا يغلبه هذا على هذا ما دام في سلطانه ، ولا هذا على هذا ما دام سلطانه ، فإنما يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره : وأما قدرته : فهو ما ذكر من تقدير الشمس والقمر والليل والنهار ، حفظهما حتى لا يغلب أحدهما صاحبه فيذهب به ؛ دل حفظه إياهما وما ذكر ، وتقديره إياهما على ما قدر أنه إنما كان بقدرة ذاتية ، ودل إجراؤه إياهما على مجرى واحد وعلى سنن واحد منذ أنشأهما وقدرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم : أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزليّ ، لا مستفاد مكتسب ، وهذا ينقض على الثنوية مذهبهم أن منشئ الظلمة غير منشئ النور ؛ لأنه لو كان اثنين على ما يقولون لكان إذا غلب هذا على هذا ، وجار سلطانه منعه من أن يأتي الآخر ، فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد لا عدد . وقوله : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . يعني : الشمس والقمر ، قال بعضهم : أي : في دورانه واستدارته يجرون على ما ذكرنا ، لا يمنع هذا هذا ، ولا هذا هذا ؛ وعلى هذا التأويل هو الدوران الذي يدور عليه الشمس والقمر . وقال بعضهم : إن تحت السماء في الهواء بحراً مكفوفاً ، فيه تطلع الشمس وفيه تغرب ، وكذلك القمر ، فإن كان على هذا فيكون قوله : { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } على حقيقة السباحة والعوامة ، ويروى في ذلك خبر على ما ذكرنا . وقال القتبي وأبو عوسجة : { نَسْلَخُ } ، أي : نخرج ، والعُرجون : عرجون النخلة ، مثل العنقود من العنب ، والعراجين جماعة ، { يَسْبَحُونَ } : من السباحة .