Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 1-6)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يجوز أن يقرأ { سَبَّحَ للَّهِ } وسبح الله ، كما يقال في الكلام : شكر لله ، وشكر الله ، ونصح لله ونصح الله . ويجوز أن يكون معناهما في الظاهر مختلفا ، ويتفق في الحقيقة والباطن ؛ لأن التسبيح : هو التخليص والتنزيه والتبرئة ، فمتى أضيف الفعل إلى الله تعالى ، ووقع عليه ، فيقال سبح لله ، فمعناه : أنه نزهه وبرأه عن جميع معاني الخلق ، وخلصه عن شبه المخلوقين ، وإذا قيل : سبح لله ، فقد وقع الفعل على الأشياء المخلوقة ؛ أي : خلصها كلها له وبرأها عن غيره ، وإذا وصف بأن كل الأشياء له ، وهو المالك لها ، وهم عبيده ومماليكه ، خاضعون أذلاء ، فقد وصف بالغناء ونفي الحاجة عنه ، وأنه متبرئ عن الشبه بمماليكه ومخلوقاته ، فهما جميعا من هذا الوجه ينظمان معنى واحدا ، وإن كانا مختلفين وفي الباطن مؤتلفين ؛ كما أن الإسلام : هو أن يجعل كل شيء من الخلق لله تعالى خالصا سالماً له ، والإيمان : هو التصديق بالربوبية له في كل شيء ، فمتى صدق الله تعالى بالربوبية في الخلق والأمر ، فقد جعل الخلق سالما له ، فمتى جعل سالما له فقد صدقه في الربوبية ، فقد اتفقا من حيث المعنى ، وإن اختلفا من حيث الظاهر ، فعلى ذلك هذا ، والله الموفق . ثم يحتمل ما ذكر من التسبيح : هو تسبيح الخلقة ، تشهد له خلقة كل شيء بالوحدانية والألوهية ، فهذا على خلقه الكافر والمؤمن جميعا وغيرهما من المخلوقات . ويحتمل أن يكون أراد الممتحنين الذين في السماوات والأرض ، ويرجع إلى تسبيح خاص ، وهو تسبيح النطق واللسان عن اختيار . وجائز أن يرجع إلى كل ذي روح يجعل الله في سرية هذه الأشياء من التسبيح له ما يعلمه هو لا يعلمه غيره إلا بإعلام الله تعالى إياه ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } يخرج على وجوه : أحدها : العزيز : هو الذي أفقر الخلق وأحوجهم إليه ، والحكيم : هو المحكم للأشياء المتقن لها . أو العزيز : القاهر الغالب ، الحكيم : هو العالم بالأشياء على حقيقتها . أو العزيز : هو المالك كل ملك ؛ كقوله : { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] الحكيم : الواضع كل شيء موضعه . وقوله - عز وجل - : { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } جائز أن يكون { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } تفسيراً لقوله : { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . وقوله - عز وجل - : { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي : يملك أن يحيي هذا ، ويميت غيره ، أو يحيي من شاء ، ويميت من شاء ، ويملك إحياء من شاء وإماتة من شاء ، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من الإحياء والإماتة وغيرهما { قَدِيرٌ } . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } قالت الباطنية : الأول : معناه : المبدع الأول ، والآخر : المبدع الثاني ، والظاهر : هو الناطق ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، والباطن : هو صاحب التأويل ؛ يقولون : إن المبدع الأول أتم للمبدع الثاني المعونة ؛ فيستعين بها المبدع الثاني على خلق هذا العالم وإنشائهم ؛ لأنهم يقولون : إن المبدع الثاني هو الذي دبر هذا العالم ، وأنشأهم بإعانة المبدع الأول ، والناطق هو الذي دبر الشرائع ، والباطن - وهو صاحب التأويل - هو الذي يبين الشرائع التي دبرها الناطق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يصفون أن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، ويقولون : لا يجوز أن يوصف بهذه الأشياء ؛ لأن الأولية تنفي الآخرية ، والظاهر ينفي الباطن ؛ كل حرف من هذه الحروف يبطل الآخر في الشاهد . وجوابنا : أن ما قلتم من المبدع الأول والثاني والناطق والباطن ، ليس بشيء له معنى على ما ذكرنا في موضعه ، وأما عندنا : فإن قوله : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } هو حرف التوحيد : هو الأول بذاته ، والآخر بذاته والباطن بذاته ؛ قال هذا ؛ ليعلم ولا يفهم من أوليته أولية غيره ، ولا يفهم من آخريته آخرية غيره ، فكذلك لا يفهم من ظاهريته ظاهرية غيره ، ولا من باطنيته باطنية غيره ؛ لأن في الشاهد من كان له أولية لا يكون له آخرية ، ومن كان له آخرية لا يكون له أولية ، وكذلك من كان له ظاهرية لا يكون له باطنية ، ومن كان له باطنية لا يكون له ظاهرية ؛ فكل حرف من هذه الحروف مما ينقض الحرف الآخر وينفيه في الشاهد ، فإنما ذكر هذه الأحرف لنفسه ؛ ليعلم ألا يفهم من أوليته أولية الأشياء ، ولا يفهم من آخريته ما يفهم من آخرية الأشياء ، وكذلك ما ذكر من ظاهريته وباطنيته ، وهذا كما ذكر : أنه عظيم ولطيف ؛ وكل واحد منهما في الشاهد مما يناقض الآخر وينفيه : ما عظم ينفي ويناقض ما لطف ، لئلا يفهم من عظمة ما يفهم من عظمة غيره ، ولا من لطافته [ ما يفهم ] من لطافة غيره ، والله الموفق . وقال بعضهم : الأول : الذي لا ابتداء له ، والآخر : الذي لا انتهاء له ، والظاهر : هو الغالب القاهر ، الذي لا يغلبه شيء ، والباطن : الذي لا تدركه الأوهام . وقال بعضهم : هو الاول الذي له أولية الأشياء ، والآخر الذي له آخرية الأشياء ، والظاهر بالحجج والآيات ، والباطن الذي لا تدركه الأوهام ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } كأن خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام : الستة الأيام التي تدور عليها أيام الدنيا ، وهي أيام حكمة ، فإنما خلق في هذه الأيام كيان الأشياء وأصولها ، لا أنه خلق كلية الأشياء فيها ، وما يكون أبد الآبدين ، فعلى هذا التأويل يكون قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي : استوى أمره ، فخلق الممتحن ، وهم البشر ؛ إذ المقصود بخلق هذه الأشياء كلها البشر ، ولهم إنشاء هذه الأشياء . وإن كان المراد من قوله : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أيام الدنيا الذي يكون اليوم مقداره ألف سنة ؛ على ما ذكره في آية أخرى ؛ فيكون ما ذكره من خلق السماوات والأرض وما بينهما خلق أصول الأشياء وكيانها وما يتولد منها ، بل يقع ذلك على الكل ، فيكون على هذا تأويل قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } البعث ؛ أي : استوى خلق ما خلق وأنشأ من العالم بالبعث ما لولا ذلك البعث لم يكن إنشاء هذا العالم الأول حكمة ؛ فالمقصود من إنشاء هذا العالم البعث ، وله يصير إنشاؤه حكمة ، فيكون به استواء الأمر . ثم تأويل العرش : يحتمل الملك ؛ استوى ملكه بخلق الممتحن أو بالبعث الذي ذكرنا ، ولا نفسر أنه ما أراد بقوله : { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } ؛ لأنه لا يعلم ما أراد به ، إذ قال في ذلك : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أمر أن يسأل به خبيرا ، ولم يرد بذلك : أنه يسأل به عنه ؛ فلا يسمع تفسيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ، أي : كثرة ذلك وازدحامه ، لا يلتبس عليه ولا يستر عنه شيء . والثاني : يخبر أن السماء والأرض مع ثقلهما وكثافتهما لا يستران ولا يحجبان عليه الوالج فيهما ، والخارج منهما والنازل منهما ، والإحاطة بذلك ؛ ليعلم أن لا شيء يحجب عنه ، ولا يخفى عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } هذا الحرف يخرج على وجهين : أحدهما : { وَهُوَ مَعَكُمْ } : أي : عالم بكم وبأفعالكم ، ومحيط بكم ، وحافظ عليكم . والثاني : { وَهُوَ مَعَكُمْ } يتوجه المعنى فيه لاختلاف الأحوال ؛ يقول : إن كنتم محبين له ، خاضعين مطيعين ، فهو معكم بالنصر لكم والمعونة على أعدائكم ، وإن كنتم معرضين عنه معاندين فهو معكم بالمعونة عليكم ، والانتقام منكم ، والله أعلم . وقوله : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قال أهل التأويل : أي : علمه وسلطانه وقدرته معكم أينما كنتم ، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم : أنه إذا ذكر - جل وعلا - بلا ذكر الخلق معه ، ولا ضم أحد إليه سواه ، يوصف بالأزل ، فيقال : لم يزل عالما قادرا خالقا ، بلا ذكر وقت ، ولا حد ولا شيء من المكان وغيره ، وإذا ذكر معه شيء من الخلق يذكر على ما عليه هذا الخلق من الوقت والمكان والأحوال للخلق دون الله تعالى ، فيقال : لم يزل عالما للخلق وقت كونهم ، لم يزل خالقا للعالم وقت كونه ؛ حتى لا يتوهم قدم المخلوق ، وعلى ذلك قوله تعالى : { حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } الآية [ محمد : 31 ] ، { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } [ المائدة : 94 ] وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } [ الحديد : 25 ] ، وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ … } الآية [ البقرة : 155 ] ، وقوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] ، ونحوها مما كثر ذكره كذلك على ما عليه أحوال الخلق ، فعلى هذا قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، الملك إنما ينسب بحق نفاذ المشيئة والأمر والولاية ، فجائز أن يكون قوله : { مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي : له نفاذ المشيئة ، وله الولاية في السماوات والأرض ، وعلى أهلهما ، وله السلطان عليهم ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، أي : له خزائن السماوات والأرض ، يعطي من يشاء ، ويحرم من يشاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي : إلى الله يرجع تدبير الأمور من إحداث وتكوين وإعطاء وبذل ومنع وحرمان ، ليس تدبير ذلك إلى الخلق ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } ، أي إلى الله ترجع أمور الممتحنين في الآخرة من الحساب والسؤال ، والثواب والعقاب وغير ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } : إيلاج الشيء : إنما هو إدخاله فيه على إبقاء المدخل فيه ؛ هذا هو المعروف ، لكن ما ذكر هاهنا من إيلاج هذا في هذا ، وهذا أن جعل ما كان في حال الاستواء في حد الليل نهارا ، وجعل ما كان في حال الاستواء في حد النهار ليلا ؛ على إتلاف كل واحد منهما بالآخر ، لا على الإبقاء ، وفي ذلك وجوه من الدلالة : أحدهما : يدل ذلك على أنه فعل واحد عليم له تدبير ، لا فعل عدد ، أو لا تدبير له ؛ لأنه لو كان فعل عدد ، لكان لا يجري على سنن واحد وتدبير واحد منذ كان إلى أبد الآبدين ؛ بل يقع في ذلك تمانع وتغالب يمنع كل واحد ما له مما لغيره ، ولغلبه عليه ، ولا يوافقه في تدبيره ؛ على ما يكون من عادة الملوك ؛ على ما قال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، وقال : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، والله الموفق . وفيه دلالة البعث ، [ و ] هو إتيان الليل بعد ذهاب أثر النهار ، وإتيان النهار بعد ذهاب أثر الليل ، ونحو ذلك ؛ على ما تقدم ذكره . وقوله : { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ، قال أهل التأويل : أي : عليم بما في الصدور . وجائز أن يكون تأويله : وهو عليم بما في الصدور : أرباب الصدور ، وهم البشر الذين لهم الصدور والتدبير ؛ لأن الصدور إما يقال للذين لهم تدبير وتمييز ، وهم البشر ، والله أعلم .