Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 60, Ayat: 1-3)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } . هذه الآية وما أشبهها من قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ التحريم : 6 ] ، وفي كل ما ذكر { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه ، وأنه ليس كما قالت الحشوية وأصحاب الحديث : إن الطاعات كلها إيمان ، ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذه الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه له ؛ فثبت أنه ذو حد في نفسه وهو التصديق بالقلب ، وغيره من الطاعات شرائعه ، والله أعلم . وفيما ذكر من قوله : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] وما أشبهها من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد ، وليس كما قال النظام : إن الإنسان إنما هو جسم آخر سوى هذا الإنسان ، ولا كما قال الناشئ : إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان . ووجه ذلك : أنه ليس كل أحد يعلم كونه جوهراً بسيطاً أو جسماً آخر فيه لطيفاً ، وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها ؛ فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما نشاهده والله [ أعلم ] . وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب ؛ ولكن بما توجبه الحكمة ، فإن أوجبت عمومها أجروها على عمومها ، وإن أوجبت تخصيصها أجروها على ذلك ، والذي يدل على ما وصفنا أنه قال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } ، وهذا مخرجه في الظاهر على العموم ، ولكنه لما قال : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } ، ومعلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص لا كل المؤمنين ، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص ؛ لما بين في سياق هذه الآية ، ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية ؛ لأنه لو قال لواحد : { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } كان هذا الخطاب لازماً للكل بما توجبه الحكمة ، أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه وليا ، وكذلك قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } . خرج مخرج العموم في الظاهر ، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة ، فهذا يبين أن ما أجري مجرى العموم لم يجر لظاهر اللفظ ، ولكن لما يوجب الحكمة والدليل . وكذلك قوله - تعالى - : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ … } الآية [ الجمعة : 9 ] : ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر ؛ ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين ، وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد ؛ ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة هو النداء الأول ، وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني ، فإذا جاز أن يكون فرض السعي في يوم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين - ثبت أن التخصيص ليس لظاهر اللفظ ، والله أعلم . وفي هذه الآية دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم وذلك أن قوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } أن ذلك الرجل لم يطلع على سره أحداً ، وقد أطلع الله - تعالى - نبيه ؛ حيث أخبرهم بالكتاب ؛ فثبت أنه علمه بالوحي ، والله أعلم . ثم اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ؟ فقال الحسن : إنها نزلت في أهل النفاق . وقال غيره من عامة المفسرين : إنها نزلت في حاطب بن [ أبي ] بلتعة ، وهذا أشبه التآويل بالصواب ، وأقرب إلى الحق ؛ وذلك أن الله - تعالى - [ قال ] : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } : فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم ، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوّاً لهم ؛ بل كانوا أولياء ، فثبت أن المراد منه : المؤمنون ، والله أعلم . وفي هذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية ؛ لأنه قال : { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } ، ولو كان ذلك الذنب يكفره ويخرجه عن الإيمان لم يكن ذلك الكافر عدوّاً له ؛ بل يكون وليّاً له بقوله : { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الجاثية : 19 ] ، ولأجل أنه قال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : سماه : مؤمناً ، والدليل على أن ذلك الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهزهم للقتال ، وفيما أخبر : أمر بأن يستعدوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وحربه ، ولا يشكل أن من أمر بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مرتكب كبيرة ، وإذا كان كذلك ، وقد أحله الله - تعالى - في جملة المؤمنين بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي } وبما وصفناه من الدليل - ثبت أن الكبيرة لا تكفره ، ولا تغير اسم الإيمان عنه ، والله الموفق . ثم فيما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء . ثم من قول المعتزلة : إن الله - تعالى - أراد من جميع عباده أن يؤمنوا ، وإذا أراد أن يؤمنوا فقد أراد أن يواليهم مع علمه أنهم يختارون عداوته ؛ فكأنهم وصفوا الله - تعالى - بما يخرجه من الحكمة ويدخل في السفه والجهل بالعواقب ، وذلك كله منفي عن الله - سبحانه وتعالى - والمعتزلة فيما وصفوا فجرة فسقة ، ويخشى أن يكونوا كفرة ، والله المستعان . وقوله - عز وجل - : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } ، أي : بما كتب في الكتاب . وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ } ، وقوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي } . يحتمل أن يكون ذلك فيمن هاجر من مكة إلى المدينة ، وهو أقرب التأويلين ؛ لأن حاطباً إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة وفيه نزلت الآية . ويحتمل أن يكون ذلك حين أرادوا الجهاد إلى مكة ، والله أعلم أي ذلك كان . وقوله - عز وجل - : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } . أي : هو { أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ } من كتابة الكتاب إلى أهل مكة ، { وَمَآ أَعْلَنتُمْ } : بما أظهرتم من العذر . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } ، أي : من اتخاذ الولاية مع أعدائه ، { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } ، في الاعتقاد : إن اعتقد ذلك ، وفي الفعل : إن لم يعتقده ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } . التزام مراقبة الله - تعالى - في السر والعلانية ، وتحذير لهم ؛ ليجمعوا بين السر والعلانية وتخويف لهم عن أن يطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة . ثم في هذه الآية أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي ، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرّاً وعلانية ؛ فإذا علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه الله عليه ؛ يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية ، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } . فوجه ذلك وتأويله عندنا - والله أعلم - : أنه لما رآهم رغبوا في أموالهم ومودتهم رغبة منهم في الكفرة أن يحفظوا أولادهم وأموالهم ، أخبرهم أن كيف يرغبون في حفظهم ذلك ، وهم لو قدروا عليكم وظفروا بكم قتلوكم وآذوكم بألسنتهم ؟ ! فكأنه يقول : كيف توالونهم من حيث تسرون إليهم بالمودة ، وهم لو ظفروا بكم قتلوكم ، وكانوا لكم أعداء ؟ ! وقوله - عز وجل - : { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } . يعني : أنهم يودون أن يكفروا ، ومع ما يودون أن يكفروا : لو قدروا عليكم قتلوكم ، فمن كانت حالهم معكم مثل هذا : فكيف تطمعون أن يحفظوا أولادكم وأموالكم ؟ ! وقوله - عز وجل - : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } ، له وجهان : أحدهما : أن كيف توالون الكفرة ؛ لمكان أولادكم وأرحامكم ، وهم لا ينفعونكم يوم القيامة ؟ ! والثاني : أن أرحامكم لا تنفعكم ولا تشفع لكم يوم القيامة . وقوله : { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [ يحتمل - أيضاً - وجهين : أحدهما : ] أي : بينكم وبين أرحامكم ؛ لقوله - تعالى - : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] . والثاني : أي : يفصل بينكم وبين أرحامكم ؛ لاختلاف أعمالكم ؛ فينزل كل واحد منكم منزل عمله .