Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 1-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . في ذكر نبأ نوح - عليه السلام - دلالة رسالته وآية نبوته ؛ لما ذكرنا : أن هذا لم يكن من علمه ، ولا علم قومه ، ولم يختلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم [ به ] فتعلمه منه ، فعلم أنه بالله تعالى علمه لا بأحد من خلقه ؛ فيكون فيه إلزام الحجة عليهم ، وفيه إعلام رسول الله - عليه السلام - ما لقي نوح - عليه السلام - من قومه ؛ ليصبره بذلك على أذى قومه ؛ إذ السورة مكية . ثم أمره بالإنذار ، ولم يذكر معه البشارة ، فكذلك قال نوح - عليه السلام - { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ولم يقل : بشير ، وقد كان هو بشيرا ونذيرا ، فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة ؛ لأن في ذكرها ذكر البشارة ؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب إذا داموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير الله تعالى ، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو ، واستيجاب العفو وقوع البشارة ، فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الوجه الآخر ، اكتفي بذكر أحدهما عن ذكر الآخر . وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر ؛ لأن الحال كانت حال الإنذار ؛ لأنهم كانوا معرضين عن طاعة الله تعالى ومقبلين على عبادة غيره ، فكانوا مستوجبين للنذارة ، ولم يكونوا من أهل البشارة ، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه ؛ فيكون قوله : { أَنذِرْ قَوْمَكَ } إن داموا على ما هم عليه ، وفي هذا دلالة على أن المرء إذا أخذ غير طريق الهدى ، فالسبيل فيه أن يفسد عليه مذهبه ، ثم إذا ظهر فساده عنده ، أمره باتباع سبيل الهدى وبين له الحجج والدلائل ؛ لينجع فيه ذلك ، ليس أن يحتج عليه بالحجج التي هي حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه ؛ فإن ذلك لا ينجع فيه ، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه ، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده ، فإذا بان له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه ؛ ليعرفه بالتعلم . ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة ، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم ، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم ، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال ، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى . وإن شئت قلت : إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة ، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر . ثم في قوله - عز وجل - : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } دلالة أن حجة الإسلام تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير ؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم ، لكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير ؛ فلا يخوفون بنزل العذاب بهم قبل أن ينذروا ، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم ، وأن لله تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل ، فيكون تأويل قوله - عز وجل - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } : أي : مبين بما يقع به الإنذار والتخويف ؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة . ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة ؛ كأنه قال : نذير لكم مبين ، أي : إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة الله تعالى وإنذاركم من عند نفسي ، ولكن بما اختصني الله تعالى وولاني ذلك . ثم الأصل في الإنذار [ أن يقتضي ] نهيا وفي النهي [ أن يقتضي ] أمرا ، لكن الإنذار يقتضي نهيا وَكِيدا ، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا . وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد ؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله ، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتي به ، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد ؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما . وإذا كان كذلك ، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة ، وأما النذارة فهي تدل على البشارة ؛ لأن النذارة على ما هو فيه في الفعل تلزم النهي ، وإذا انتهى عنه فقد حصل العفو ، وفي حصول العفو ارتفاع ما خوف وذهابه . وقوله - عز وجل - : { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } فكأنه قال : أنذرهم على عبادة غير الله ، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة ، وهو الله تعالى ؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضي النهي عما هم عليه ويدعو إلى خلافه ، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه ؛ لقوله - عز وجل - : { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } . وقيل : { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ } أي : وحدوه . وقال [ بعضهم ] : كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد . فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر ؛ لأنه خاطب بقوله : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] ، ولم يخاطب بقوله - عز وجل - : ياأيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم ، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر ، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه ؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات ، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا ؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة ، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر ، وإذا ذكرت في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول ؛ وأن ينجزوا ما وعدوا من أنفسهم ، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر ، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل ؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل ، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإيتاء إيجاد الفعل ، فكذلك الحكم في العبادة بقوله : { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ } أي : وحدوه واتقوه ، أي : اتقوا الإشراك في عبادته ، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله تعالى وألا تشركوا به شيئا . وجائز أن يكون قوله : { وَٱتَّقُوهُ } ، أي : اتقوا المهالك كلها ، واتقوا النار ؛ كما قال الله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] ، وقوله تعالى : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا ، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك ، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة ، وإذا جمع بين العبادة والتقوى ، كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال ، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك ، وهو كما قلنا في البر والتقوى : إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر ، وإذا جمعا في الذكر ، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى ، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر ، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة . وقال الحسن في قوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُوهُ } ، أي : اتقوا الله في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى . ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى الله ، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى ؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة : { ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ } ، فأضافها إلى الله تعالى ، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله : { وَأَطِيعُونِ } ، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك بالله تعالى في الطاعة ، بل الله تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] وذم من يعدل بالله تعالى في العبادة بقوله تعالى : { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 150 ] فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف ، والله تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته ، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا [ على الأمر ] لا غير ؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، وقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، سموا : عباد الأصنام ، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له . وقوله - عز وجل - : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } إن صرفت قوله : { وَٱتَّقُوهُ } إلى اتقاء الشرك يرجع قوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك ؛ كقوله - عز وجل - : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك ، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا ؛ وهو كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ؛ فيكون قوله { مِّن } صلة على ما ذكره أهل التفسير ، ومعناه : يغفر لكم ذنوبكم . وجائز أن يكون قوله : { مِّن } على التحقيق ليس على حق الصلة ؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام ، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص وغيره ، فالمأثم بالقتل وإن زال عنه بالتوبة ؛ فإن القصاص لا يرتفع عنه . وقوله - عز وجل - : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } جائز أن يكون أولئك القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام ؛ فيخرج قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } مخرج الأمان لهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا ؛ إذ يكون معناه : أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين ، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكر بكم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وقال في موضع آخر : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] جائز أن يكون قوله : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } ، أي : لا يتأخرون عن آجالهم أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير ؛ فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير ؛ قال الله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] ؛ فأخبر - جل جلاله - أن الموت إذا أتاه طلب التأخير ليبذل ما طلب منه البذل قبل ذلك من التصدق والإيمان به ، فقطع عنهم طمعهم بقوله : { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [ المنافقون : 11 ] ، وبقوله : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] ، وبقوله : { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } . وهذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون بأن رجلا لو جاء وقتل آخر ، فإنما قتله قبل انقضاء أجله ، والله تعالى يقول : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] ، والأصل : أن الله تعالى إذا علم أنه يقتل فإنما يجعل انقضاء أجله بالقتل ليس بغيره ؛ لأنه لا يجوز أن يجعل انقضاء أجله بموته حتف نفسه ، ثم ينقضي أجله بغير ذلك ؛ لأنه لو جاز ذلك لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب ، والجهل بالعواقب يسقط الربوبية ، ويثبت الجهل . وقوله - عز وجل - : { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي : لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء آجالكم ، لكنتم تبذلون للحال ما أريد منكم ؛ لئلا يحل بكم العذاب . أو [ أن ] يكون معنى قوله : { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ } ، أي : أجل العذاب إذا حل ، وقع لا محالة ، فلو علموا بوقوعه لا محالة ، لارتدعوا عنه .