Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 78, Ayat: 1-16)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } اختلف في التساؤل : فمنهم من ذكر أن التساؤل كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، سألوا عن حاله : أهو نبي أم ليس بنبي ؟ ومنهم من ذكر أن التساؤل كان عن القرآن : أنه من الله تعالى أو ليس من الله تعالى ؟ أو يتساءلون فيما بينهم : هل تقدرون على إتيان مثله أم لا ؟ وجائز أن يكون التساؤل عن أمر البعث ، أو عن التوحيد ، كما قال [ الله ] - تعالى - خبرا عنهم : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] ؟ . ثم جائز أن يكون هذا السؤال من أهل الكفر ، سأل بعضهم بعضا ، فاختلفوا فيه ، ولم يحصلوا من اختلافهم على إصابة الحق ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ، ولو كان فيهم مصدق ، لكان قد وقع له العلم في ذلك الوقت ؛ فلا يحتاج إلى أن يعلم ويبينه عليه . فإن كان السؤال عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوجه اختلافهم أن بعضهم زعم أنه شاعر ، وقال بعضهم : هو ساحر ، وقال بعضهم : مفتر كذاب ، وادعى بعضهم أنه مجنون . وجائز أن يكون السؤال من الكفرة للمؤمنين . وإن كان على هذا فما ذكره أهل التفسير فهم بين مصدق ومكذب ، يراد بالمكذب الذين صدر عنهم السؤال ، ويراد بالمصدق أهل الإسلام الذين سئلوا . ثم لا يجوز لأحد تحصيل السؤال على جهة واحدة ، والقطع عليه بالتوقف الموجب للعلم . ثم في قوله - تعالى - : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } جواب عما سبق من السائل ؛ [ فإن كان السائل ] عن أمر الرسالة ، فحقه أن يحمل على جهة غير الجهة التي يحمل عليها إذا صرف التساؤل إلى أمر البعث ، أو إلى أمر التوحيد أو القرآن . والأصل فيه أن الله - تعالى - بما ذكر من مهاد الأرض ، وخلق الأزواج ذكر عباده عظيم نعمه وكثرة إحسانه إليهم ؛ ليستأدي منهم الشكر ؛ فإذا وقعت لهم الحاجة إلى الشكر ، [ فيضطرهم ذلك إلى من يبين لهم ، و ] احتاجوا إلى من يعرفهم [ الوعد والوعيد ] ومحل الشكور ، ومحل الكفور ، ومحل الموالي ، ومحل المعادي ؛ إذ وجدوا هذه الدنيا تمن على الأولياء ، وعلى الأعداء على حالة واحدة ، فاحتاجوا إلى من يعرفهم الوعد والوعيد ، وأوجب ما ذكرنا القول بالبعث ؛ ليظهر به منزلة الشكور والكفور . وفي ذكر هذه النعم - أيضا - دلالة الوحدانية ؛ لأن الله - تعالى - مهد الأرض ، فجعلها متمتعا للخلق ، ومنقلبا لهم ، وأخرج منها ما يتعيشون به ، وجعل سبب الإخراج ما ينزل من السماء من القطر ، فجعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ، فلو لم يكن مدبرهما واحدا لانقطع الاتصال ، ثم لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي [ له ] يقع إحياء الأشياء بالماء ، لم يصل إليه ، ولو أرادوا أن يتداركوا الوجه الذي صلح هذا الطعام أن يكون سببا لدفع الحاجات وقطع الشهوات ، لم يقفوا عليه ؛ فيكون فيما ذكرنا إزالة الشبه والشكوك التي تعترض لهم في الأمور الخارجة عن تدبيرهم وقواهم . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } : منهم من ذكر أن هذا وعيد على وعيد ، وقد ذكرنا أن حرف الوعيد ما يكرره العرب فيما بينهم للتأكيد ، كما يقال : هيهات هيهات ، وأولى لك فأولى . وجائز أن يكون قوله : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } على علم دلالة ، وقوله - تعالى - : { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } على علم المشاهدة والعيان . ثم قوله - تعالى - : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً } ، أي : بساطا ، { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } ذكر أن الأرض لما خلقت مادت بأهلها ، فأرساها الله - تعالى - بالجبال ؛ لطفا منه ، لا أن جعلها سببا للإرساء ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 105 - 107 ] ، فقد جعلها في ذلك الوقت مستمسكة ثابتة مستقرة بدون الجبال ؛ فثبت أنها ليست بسبب للإرساء في التحقيق ، ويكون فيه تعريف الخلق وجوه الحيل في الأمور إذا تعذر عليهم الوصول إليها . وقوله - عز وجل - : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } قيل : ألوانا ؛ فيكون في هذا إبطال الحكم بقول القائف ؛ لأنهم يستدلون بالتشابه في الألوان ، ويحكمون بها ، فلو كان الأمر على ما قدروا ، لارتفع الاختلاف في الألوان ؛ فيكون الخلق كلهم على لون واحد . وقيل : { أَزْوَاجاً } : فرقا شتى ؛ ليعرف كل منهم عنصره ، ومنتهى أصله . وقيل : { أَزْوَاجاً } ، أي : جعل لكل أحد شكلا من جنسه ؛ فجعل للذكر أنثى زوجا من جنسه . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } ، قيل : السبات : التمدد . وقيل : السبات : النوم الذي لا حركة فيه ؛ ولهذا قيل للذي شبه بالميت : مسبوت . وقيل : السبات : الراحة ؛ ولذلك سمي : السبت ؛ لأنه يوم راحة وترك العمل في بني إسرائيل . ثم في إنشاء النوم دليل سلطانه ، ودخول الخلق بأجمعهم تحت تدبيره ؛ إذ لم يتهيأ لأحد الاحتراز من النوم حتى لا يعتريه ؛ بل يقهر الجبابرة فيذلهم ، ولا يمكنهم الخلاص عنه بالحيل والأسباب ، ثم النوم كأنه من أثقل الأحمال وأشدها ، ثم إذا زايل الإنسان ، وعاد المرء إلى حال اليقظة ، وجد في نفسه خفة وراحة ومن شأن هذا الإنسان : أنه إذا حمل الحمل الثقيل ، مسه من ذلك فتور وكلال لا يزول عنه ساعة ما يضع الحمل عن نفسه ؛ بل يبقى ذلك الكلال فيه إلى مدة ، فمن تدبر في أمر النوم ، دله على عظيم شأنه وعجائب تدبيره . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً } ، فهذا اللباس لباس الأعين لا غير ؛ ألا ترى أنه لا يستغنى بلباس الليل عما أخذ عليه من اللباس للصلاة ، ولا يعمل لباس الليل عمل اللباس المعروف في دفع أذى البرد والحر . وقال بعضهم : اللباس : السكن ؛ كما قال في آية أخرى : { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] وكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن تمام السكن والراحة يقع بالنوم ؛ فصرفوه إليه . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } ، أي : يتعيش فيه ، لا أن يكون نفسه معاشا ، كما سماه : مبصرا ؛ لما يبصر به ، لا أنه في نفسه مبصرا . وقوله - عز وجل - : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } ، أي : السماوات ، فذكرهم ؛ هذا لينبههم على قدرته وسلطانه ؛ فعرفوا أنه فعال لما يريد ، قادر على ما يشاء . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } ، فكأن السراج هو الشمس هاهنا ، جعلها تتوهج وتتلألأ ما بين السماء والأرض . وقوله - عز وجل - : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } : منهم من ذكر أن المعصرات هي السحاب التي أنشئ فيها القطر ؛ يقال للجارية التي قد دنت حيضتها : معصرة ، فشبه السحاب بمعاصر الجواري . وقيل : سمى السحاب : معصرا ؛ لأنه يعصر المطر . وقيل : هي ذوات الأعاصير ؛ يعني : الرياح ، كقوله : { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } [ البقرة : 266 ] ، أي : ريح . وعن الحسن : هي السماوات . وقال الزجاج : المعصر : هو الذي قد أتى وقت إرسال القطر منه ؛ كما يقال : مجرز لما أتى وقت جرازه . ثم في إنزال الماء من المعصرات تذكير النعم والقدرة والحكمة ، وكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة يوجب القول بالبعث : فأما وجه تذكير النعم ، فهو أن القطر ينزل من السماء متتابعا ، ثم الله - تعالى - بلطفه يمنع اتصال بعض ببعض والتصاقه ، ويرسل كل قطرة إلى الأرض بحيالها ، وينزل بعضها على أثر بعض ؛ لينتفع بها ، ولو التصق بعضها ببعض واتصل ، لم يقم لها شيء ؛ فكانت تصير سببا للتعذيب والإهلاك ، فبفضله ورحمته أنزلها متتابعة ؛ لينتفع بها الخلق ، ويتمتعوا بها . وفيه تذكير القوة والحكمة - أيضا - لأنه أنشأ السحاب الثقال ، وساقه إلى الموضع الذي قدر أن يرسل القطر هنالك ، ومعلوم أن ذلك الإرسال ليس من فعل السحاب ؛ لأن السحاب يمتنع عن إرسال القطر حتى ينتهي إلى الموضع الذي أمر بإرسال القطر فيه ، ولو كان ذلك للسحاب نفسه ، لكان أينما مر يعمل في الإرسال ، ولو كان ذا ثقب لكانت الريح متى دخلت في الثقب أرسل السحاب ما أنشئ فيه من القطر ، فإذا لم يوجد ذلك بان أن الله - تعالى - بحكمته وقدرته ولطفه هو الذي أنشأ فيه ذلك ، ودبر إرساله ، لا أن يكون ذلك عمل السحاب ، ولو أراد أحد من حكماء الأرض أن يعرف المعنى الذي له صلح ذلك السحاب أن يستمسك فيه القطر ، ولا يستمسك في مكان آخر ، لم يقف عليه ، فذكرهم ، ليعلموا أن حكمته ليست على الوجه الذي ينتهي إليه حكم البشر ، ولا قدرته مقدرة بقوى البشر ؛ بل هو قادر على ما يشاء ، فعال لما يريد . وفيه أن تدبير السماء والأرض والهواء يرجع إلى الواحد القهار ؛ إذ لا يتهيأ لأحد أن يمنع القطر المرسل من السماء عن الوصول إلى الموضع الذي أمر أن ينتهي إليه . والثجاج : القطر المتتابع بعضه على إثر بعض ، والثج : الصب ، والإراقة . وقوله - عز وجل - : { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } : جائز أن يكون ذكر الحب ؛ لأن المقصود من زراعة ما يكون له الحب - الحب ؛ فذكره ؛ لما إليه ينتهى القصد ، ويكون ذكر النبات منصرفا إلى ما لا حب له ؛ لأن القصد من زراعته النبات لا غير . وجائز أن يكون منصرفا إلى شيء واحد ؛ لأن الذي فيه الحب فيه النبات أيضا . وقوله - عز وجل - : { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } قد ذكرنا أن الجنة هي اسم المكان الملتف بالأشجار ، وهي التي اجتمعت فيها الأشجار .