Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 55-61)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ ذكر هاهنا شر الدواب عند الله الذين لا يؤمنون وذكر ] في آية أخرى : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } ، هم شر الدواب ؛ حيث سمعوا الآيات والحق وعقلوها فلم يؤمنوا بها ، أي : لم ينتفعوا بما عقلوا مما وقع في مسامعهم ، ومما درسوا كمن لا سمع له ولا لسان ، نفى عنهم ذلك ؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا . ويحتمل أن يكون في الآخرة ، أي : يبعثون يوم القيامة صمّاً بكماً عمياً ؛ لما لم ينتفعوا في الدنيا بهذه الحواس ؛ كقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً … } الآية [ الإسراء : 97 ] . وقوله : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } . { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هو كما ذكر في آية أخرى : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] ، أخبر أن الذين كفروا وكذبوا بآياته أضل من الأنعام ، وقد ذكرنا فائدة قوله : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] في موضعه . ويحتمل قوله : { شَرَّ ٱلدَّوَابِّ } أي : شر من يدب على وجه الأرض من الممتحنين { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، ثم ليكونوا بهذا الوصف إذا ختموا بالكفر وترك الإيمان . ثم اختلف فيه : قال بعضهم : نزل في بني قريظة ؛ حيث عاهدوا رسول الله ، ثم أعانوا مشركي مكة على رسول الله بالسلاح وغيره ، فأقالهم رسول الله ، وكانوا يقولون : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم ثانية ، فنقضوا العهد ، فذلك قوله : { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } : نقض العهد ، أو لا يتقون الشرك . وقال بعضهم : نزل قوله : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ … } إلى آخر الآية ، في المردة والفراعنة من الكفار ، كانوا عقلوا ما سمعوا ودرسوا ، ولكن غيروه فلم يؤمنوا به ؛ على هذا حمل أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكرنا ، وإلا صرف الآية إلى أهل النفاق أولى ؛ لأنهم هم المعروفون بنقض العهد مرة بعد مرة . وقوله - عز وجل - : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ } . قيل : تأمرنهم في الحرب . وقيل : تلقينهم في الحرب . وقيل : تجدنهم في الحرب . { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } . قيل : نكل بهم من بعدهم ، أي : اصنع بهم ما ينكلون من خلفهم ، أي : يمتنعون . وقيل : فعظ بهم من خلفهم ، أي : من سواهم . الآية نزلت في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ، وكانت عادتهم نقض العهد ، فأمر - عز وجل - رسوله أن ينكل هؤلاء ؛ ليكون ذلك عبرة وزجراً لمن بعدهم إن لم يكن ذلك لهم زجراً ، فيكون في تنكيل هؤلاء منفعة لغيرهم ، إذا رأي غيرهم أنه فعل بهؤلاء ما ذكر يكون ذلك زجراً لهم عن مثل صنيعهم ؛ ولهذا قال : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [ البقرة : 179 ] ، من رأى أنه يقتل به امتنع عن قتل آخر ، فيكون في ذلك حياة الخلق . وكذلك جعل الله في القتال مع العدو ونصب الحرب فيما بينهم رحمة ؛ لأن في الطباع النفار عن القتل ، فإذا رأى أنه يقتل بتركه الإسلام أجاب إلى ذلك ؛ إشفاقاً على نفسه ، وخوفاً على تلف مهجته ، فيكون في القتال رحمة ، وكذلك جميع ما جعل الله فيما بين الخلق من العقوبات في النفس وما دون النفس جعل زواجر وموانع عن المعاودة إلى مثله ؛ فعلى ذلك قوله : { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } : عظة وزجراً لمن بعدهم . { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } . لكي يذكروا النكال فلا ينقضوا العهد ، وكذلك كل مرغوب في الدنيا ومرهوب جعل دواعي وزواجر لموعود في الآخرة ، وجعل كل لذيذ وشهي في الدنيا لما وعد في الآخرة [ في الجنة ] ، وكل كريه وقبيح زاجراً له عن الموعود في الآخرة في النار ؛ على هذا بناء أمر الدنيا . والتشريد : قال أبو عبيدة : معناه من التفرقة ، أي : فرق بهم . وقال القتبي : قوله : { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي : افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من الأعداء . قال : ويقال : شرد بهم : سمع بهم ، بلغة قريش . وقيل : نكلهم ، أي : اجعلهم عظة لمن وراءهم وعبرة ، وهو ما ذكرنا . وقال أبو عوسجة : التنكيل : التخويف والرد عما يكره ، والنكال : العذاب . وقال غيره : { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ، أي : اخلفهم بهم بما صنع هؤلاء . وقال أبو عبيدة : التشريد في الكلام : التبديد والتفريق ؛ وبعضه قريب من بعض . قال أبو عوسجة : قوله : { فَشَرِّدْ بِهِم } ، أي : نكل بهم حتى يخافك من خلفهم ، والشريد : الطريد ، والشريد - أيضاً - : القليل . وقوله - عز وجل - : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } [ قال بعضهم : قوله تخافن : تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ] . أي : لا تفعل بهم مثل ما فعلوا من الخيانة فتكون أنت وهم في الخيانة سواء ؛ لأن عندهم أنكم معاهدون على عهد بعد عهد ، ولكن انبذ إليهم ، ثم ناصب فيما بينهم الحرب . وقال بعضهم : هو على حقيقة الخوف ، يقول : إذا خفت منهم النقض أو الخيانة { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ } ، أي : ألق إليهم نقضك ؛ لتكون أنت وهم في العلم بالنقض سواء . قال أبو عبيدة : قوله : { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } ، أي : أظهر لهم أنك عدو ، وأنك مناصب لهم ؛ حتى يعلموا ذلك فيصيروا على ذلك سواء . وقال بعضهم : { سَوَآءٍ } ، أي : على أمرين . قال أبو عبيد : قال غير واحد من أهل العلم : { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } : أعلمهم أنك تريد أن تحاربهم ؛ حتى يصيروا مثلك في العلم ؛ فذلك السواء . قال الكيساني : السواء : العدل . وقال : { فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } ، أي : سر إليهم ، وقد علموا بك وعلمت بهم . وبعضه قريب من بعض . وحاصل التأويل : هو التأويلان اللذان ذكرتهما ، والله سبحانه أعلم . وأصل العهد ما ذكر عز وجل في آية أخرى ، وهو قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] . أمر - عز وجل - بإتمام العهد إلى المدة ، إذا لم ينقضونا شيئاً ولم يخونوا ، ولم يظاهروا علينا أحداً منهم ، فإذا فعلوا شيئاً من ذلك قلنا أن ننقض العهد الذي كان بيننا وبينهم . وكذلك ابتداء العهد [ فيما ] بيننا وبينهم إذا سألونا ليس للإمام أن يعطي لهم العهد إذا لم يكن في العهد منفعة للمسلمين - منفعة ظاهرة - وخير لهم ؛ فعلى ذلك ما دام يرجو في العهد منفعة للمسلمين وخيراً لهم فعليه مراعاة ذلك العهد وحفظه ، فإذا خاف منهم أو اطلع على خيانة منهم ، فله نقضه ، والله أعلم . ثم إذا كانت تلك الخيانة من جملتهم أو ممن له منعة ، فله أن يناصبهم الحرب ، وإن لم ينبذ إليهم . وإذا كان ذلك من بعض على سبيل التلصص والسرقة ، فليس له أن يحاربهم إلا بعد النبذ إليهم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } . قال بعضهم : لا تحسبن الذين نجوا وتخلصوا منك - يا محمد - من المشركين [ يوم بدر ] أني لا أظفرك بهم في غيره من الحروب والمغازي ، وأنهم يفوتون ويعجزون الله عن ذلك . وقال بعضهم : ولا تحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون ويفوتون عن نقمة الله وعذابه . وقرأ بعضهم بنصب الألف : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، فمن قرأ بالنصب طرح " لا " وجعلها صلة ، وقال : لا تحسبن أنهم يعجزون . وأما قراءة العامة : فهي بالخفض : { إِنَّهُمْ } فهو على الابتداء ، فقال : إنهم لا يعجزون [ على الابتداء ] . [ وقيل : العجز : السبق ] . وقوله - عز وجل - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } . قال بعضهم : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ولا تخرجوا إلى الحرب في المغازي ، كما خرجتم إلى بدر بلا سلاح ولا قوة ؛ لأنه أراد أن يجعل حرب بدر آية ؛ ليميز بين المحق والمبطل ، وبين الحق والباطل ؛ لذلك أمركم بالخروج إليها بلا سلاح ولا عدة ، وأما غيرها من الحروب والمغازي فلا تخرجوا إليها إلا مستعدين لها . وبعد : فإنهم إنما تركوا الاستعداد طاعة لربهم ، وفي الاشتغال بالاستعداد ترك للطاعة له ، وأمر - عز وجل - بالاعتداد لهم ما استطاعوا من الأسباب ؛ لما أن ذلك أرهب للعدو من ترك الاستعداد ، وإن كان - عز وجل - قادراً أن ينصرهم على عدوهم بلا سبب يجعله لأنفسهم ، وهو كقوله : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } [ الحشر : 13 ] . فأمر الله بالأسباب في الحروب ، وإن كان قادراً على نصر أوليائه على عدوه بلا سبب ، لكنه أمر بالأسباب ؛ لما أن جميع أمور الدنيا جعلها بالأسباب ، من نحو الموت والحياة وجميع الأشياء ، وإن كان يقدر على إبقاء الإنسان والخلائق جميعاً بلا غذاء يجعل لهم ، والموت بلا مرض ولا سبب ؛ ولكن فصل بما ذكرنا . ثم اختلف في قوله : { مِّن قُوَّةٍ } ؛ قال بعضهم : القوة : الرمي ، وعلى ذلك رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } فقال : " ألا إن القوة الرمي " ، قال ذلك ثلاثاً " . ويحتمل قوله : { مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } : ما تقوون به [ في ] الحروب . قال بعضهم : القوة : السلاح . وقال غيرهم : الخيل . وأمكن أن تكون جميع أسباب الحرب . وفيه دلالة أن القوة التي هي أسباب الفعل يجوز أن تتقدم ، ويكون قوله : { لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] أراد استطاعة الأسباب لا استطاعة الفعل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ، أمر برباط الخيل والإعداد للحرب ؛ رهبة للعدو . { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } اختلف [ أهل التأويل فيه ] : قال بعضهم : ترهبون برباط الخيل المشركين . وقال : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } . اليهود والنصارى ، وهؤلاء الذين كانوا فيما بينهم يرهب هؤلاء أيضاً . وقال بعضهم : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } : [ المنافقين ] الذين كانوا فيما بينهم لا يعرفونهم كانوا طلائع للمشركين وعيوناً لهم يخبرونهم عن حال المؤمنين ما يرهب هؤلاء أيضاً . وقال آخرون : قوله : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } : هم الشياطين ، ورووا على ذلك [ خبراً ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " هم الشياطين " ، وقال : " لن يخبل الشياطين إنساناً في داره فرس عتيق " . ويحتمل أن يكون قوله : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } [ هم ] الأعداء الذين يكونون من بعد إلى يوم القيامة { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } ، فإن كان ذلك ، ففيه دلالة بقاء الجهاد إلى يوم القيامة . وقال بعضهم : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } : الشياطين ، { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } وهو كقوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] . فإن قيل : [ أي ] رهبة تقع للشياطين فيما ذكر من رباط الخيل والسلاح الذي ذكر ؛ قيل : يكون لهم رهبة في قمع أوليائهم ، أو يكون لأوليائهم رهبة نسب ذلك إليهم ، وذلك كثير في القرآن . وقوله : { عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } . سمى عدواً لله وعدواً للمؤمنين ؛ ليعلم أن من اعتقد عداوة الله صار عدوّاً للمؤمنين ، ومن اعتقد ولاية الله صار وليّاً للمؤمنين ، ومن كان وليّاً للمؤمنين يكون وليّاً لله . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } . أخبر أن ما أنفقوا في سبيل الله يوفى إليهم ذلك ، إما الخلف في الدنيا ؛ كقوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [ سبأ : 39 ] ، وإما في الآخرة الثواب . { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ يحتمل وجهين : يحتمل : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ] : فيما يأمركم بالجهاد في سبيل الله ، واتخاذ العدة والإنفاق فيها ؛ إذ أنفسكم وأموالكم لله له أن يأخذها منكم . والثاني : { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في الثواب في الآخرة ، أي : يعطيكم الثواب في الآخرة أو الخلف في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } . قرئ بالنصب : { لِلسَّلْمِ } ، وقرئ بالخفض : { لِلسَّلْمِ } . وقال أهل اللغة : من قرأ بالنصب : { لِلسَّلْمِ } ، حمله على المصالحة والموادعة ، ومن قرأ بالخفض : { لِلسَّلْمِ } ، جعل ذلك في الإسلام . وتأويله - والله أعلم - : أي : إذا خضعوا للصلح وطلبوه منك فاجنح لهم ، أي : مل إليهم ، ولا يمنعك عن الصلح معهم ما كان منهم من نقض العهد ؛ على ما ذكر في قوله : { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } ، يقول : لا يمنعك عن الصلح إذا طلبوا ذلك ما كان منهم من النقض ونكث العهود . { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } . ولا تخف خيانتهم ونقضهم العهد ، فإن الله يطلعك ويكفيك على ذلك . ومنهم من قال : قوله : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ } ، أي : إذا خضعوا وتواضعوا للإسلام ، فاقبل منهم واخضع لهم ؛ كقوله : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] أمره بخفض الجناح لهم . ذكر - هاهنا - أنهم إذا طلبوا الصلح منا يلزمنا أن نعطيهم ، وإذا لم يطلبوا منا ذلك لا يحل لنا أن نطلب منهم الصلح ، إلا أن نضطر إلى ذلك ، وهو ما ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } [ محمد : 35 ] ، نهانا أن ندعوهم إلى الصلح ولنا قوة وعدة للقتال معهم ، وأما إذا كانوا طلبوا منا ذلك أولا فيجابون إلى ذلك . ويحتمل ما ذكرنا ، أي : لا يمنعك ما كان منهم من نقض العهد . وقوله : { فَٱجْنَحْ لَهَا } يحتمل ذكره بالتأنيث ، أي : للمسالمة والمصالحة . وقال بعضهم : السلم هو مؤنث ؛ كقول القائل : @ السلم تأخذ منا ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع @@ فإن قيل : ما المعنى في قول من قال بالإسلام بقوله : { فَٱجْنَحْ لَهَا } وهو كان يدعو إلى الإسلام ، وهو لا شك أنه كان يقبل منهم الإسلام ؟ قيل : يحتمل أن يكون الأمر بالقبول أمراً بترك المؤاخذة بما كان منهم في حال نقض العهد ؛ لأن من قولنا : أن ما أصابوا في حال العهد من الجراحات والأخذ يتبعون بها ويؤاخذون إذا أسلموا ، وإذا نقضوا العهد ثم أصابوا شيئاً من ذلك ثم أسلموا ، لم يؤاخذوا بذلك ، فيحتمل أن يقول له : فاجنح لها ، ولا تؤاخذهم بما كان منهم في حال نقض العهد . وقال الحسن : هذا منسوخ ، نسخة قوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية [ التوبة : 29 ] . وقال بعضهم نسخة قوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ … } الآية [ التوبة : 5 ] . وقال بعضهم : نسخة قوله : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } [ محمد : 35 ] . والوجه فيه ما ذكرنا : أن الإمام إذا رأى الصلح والموادعة نظراً للمسلمين ، أجابهم إلى ذلك وصالحهم ، فإذا طلبوا منه الصلح وبالمسلمين قوة القتال والحرب معهم ، لم يجبهم إلى ذلك ، وما ذكر هؤلاء من نسخة فذلك لا نعرفه ، والله أعلم .