Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 93, Ayat: 1-11)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } . قال بعضهم : الضحى : هو ضوء النهار ، كقوله : { وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] ، أي : ضوءها . وقال بعضهم : هو ساعة من النهار ، وهي [ من ] أول النهار ، ويقال : صلاة الضحى ، وهي عند ضحوة النهار . ومنهم من يقول : هو كناية عن الحر ؛ كقوله : { أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } [ طه : 118 ] إلى قوله : { وَلاَ تَضْحَىٰ } [ طه : 119 ] ، أي : لا يصيبك الحر ، والله أعلم . ومنهم من يقول : هو كناية عن النهار كله ، أقسم به ، وبالليل الذي ذكر . فإن كان المراد من الضحى هو ضوء النهار ، ومن { وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } : ظلمته ؛ فيخرج القسم به على أن ظلمة الليل تستر الخلائق كلهم في طرفة عين ، وكذلك ضوء النهار يكشف الستر ، ويجلي بطرفة عين جميع الخلائق ، من غير أن يعلم أحد ثقل ذلك الستر أو خفة ذلك الضوء ، فأقسم بذلك لعظيم ما فيهما من الآية . وإن كان المراد منه نفس الليل والنهار ؛ فالقسم بهما لما جعل فيهما من المنافع الكثيرة . وقوله - عز وجل - : { إِذَا سَجَىٰ } اختلف فيه : قال بعضهم : إذا استوى . وقال بعضهم : إذا سكن وركد . وقال بعضهم : { إِذَا سَجَىٰ } : إذا غشي وأظلم ، وغطى كل شيء وستر ، وهو من التسجي والتستر ؛ يقال : تسجى قبر المرأة ؛ إذا تستر وتغطى . وقوله - عز وجل - : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } على هذا وقع القسم ، ثم اختلف في السبب الذي [ لأجله ] نزل هذا : قال بعضهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان سئل عن شيء إذ طلبوا منه شيئا ، فقال : أفعل ذلك غدا ، أو أجيبكم عنه غدا ، ولم يستثن ؛ فاحتبس عنه الوحي أياما لذلك ؛ فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه ، أي : تركه وأبغضه . ومنهم من قال : إنه أبطأ عليه الوحي ، فجزع جزعا شديدا ، فقالت له خديجة - رضي الله عنها - : " إني لأرى قلاك ربك ووعدك " ؛ مما ترى من جزعه ؛ فنزل قوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } . ولسنا ندري كيف كان الأمر ؟ فإن كان نزل ذلك لقول قريش ، فالقسم يحتمل كذلك ؛ ردا لقولهم . والقول الثاني : أنه نزل لقول خديجة - رضي الله عنها - فهو غير محتمل ؛ لأن خديجة تعلم أن الله - تعالى - لم يودعه ولا قلاه ، وكذا كل مؤمن معتقد أن الله - تعالى - لا يودع أحدا من رسله . ولأنها تصدق الرسول - عليه السلام - أنه لم يودعه ولا قلاه إذا أخبرها بغير قسم ؛ فلا معنى للقسم ؛ فدل أن هذا الوجه غير محتمل . ثم صرف تأويل الآية إلى غير ما قالوا أشبه عندنا وأقرب مما قالوا ، وهو أنه - عليه السلام - بعث إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم قتل من خالفهم ، وإهلاك من استقبلهم بالخلاف ، ولم يكن معه فضل مال وسعة يستميل به قلوب الناس ؛ فيقول أولئك الكفرة : إن ربه قد خذله وتركه وقلاه ، حيث بعثه إلى من ذكرنا من الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل وعادتهم إهلاك من خالفهم بلا أنصار ولا أعوان من الملائكة ، ولا مال وسعة يستميل به القلوب والأنفس ؛ لأن من سلم إنسانا إلى أعدائه الذين يعلم أنهم أعداؤه ، ويخلي بينه وبين الأعداء بلا أنصار وأعوان ولا مال وسعة من الدنيا - يقال : أنه قد خذله وتركه وقلاه ؛ إذ لا يفعل ذلك في الأصل إلا لذلك ؛ فعند ذلك قالوا : إنه ودعه وقلاه ، وهو ما قالوا : { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } [ الفرقان : 7 - 8 ] ، وقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، ونحو ذلك مما قالوا ، فلولا صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكروا ، وإلا صرفه إلى ما ذكرنا أشبه . وفي قولهم : " قد ودعه [ ربه ] " دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول [ الله صلى الله عليه وسلم ] وأقروا بذلك حتى قالوا ؛ فنزل قوله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } . والثاني : أنه لو كان يخترع على ما كانوا يقولون أولئك ، لكان لا يحتبس عن الاختراع ، ويكون يخترع أبداً ؛ حتى لا يقولوا : " إنه ودعه " ؛ فدل ظهور احتباس الوحي : أنه عن أمر يخبر ، وأنه مأمور بذلك ، ثم أخبر أنه لم يبعث إلى هؤلاء الفراعنة والجبابرة لما ذكر أولئك الكفرة أنه خذله وتركه وقلاه ، ولكن بعثه وهو ينصره ويعينه على تبليغ ما أمر بتبليغه إلى من أمر بتبليغه ، ولم يقله ، ولكن اصطفاه واختاره ؛ حتى يعلو أمره ، ويكثر ذكره ، وفي ذلك آية عظيمة على إثبات الرسالة ، وهو ما ذكرنا أنه بعث إلى من همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ، فقهرهم جميعا ، وغلب على الكل حتى أظهر الإسلام فيمن قرب منه ومن بعد . وقوله - عز وجل - : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } : يقول : مع ما أعطيت في الدنيا من الشرف والذكر والغلبة على الفراعنة ، فالآخرة خير لك من الأولى ؛ يرغبه في الآخرة ، ويزهده في الدنيا . أو يقول : إن أولى لك أن يكون سعيك للآخرة ؛ فهو خير لك من الأولى ، وهو كقوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الإنشقاق : 6 ] . وقوله - عز وجل - : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } . أي : لتعطى في الآخرة ما ترضى من الكرامة والشرف . وقال بعضهم : أي : ولسوف يعطيك ربك فترضى في الدنيا من الذكر والشرف والمنزلة والغلبة على الأعداء . ويحتمل : يعطيك في أمتك ما ترجو وتأمل من الشفاعة لهم وترضى . ويقول بعض الناس : إن أرجى آية هذه ؛ حيث وعد له أنه يعطيه ما يرضى ، ولا يرضى أن يكون أمته في النار . ومنهم من قال : أرجى آية قوله - تعالى - : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ، وهو قول ابن مسعود ، رضي الله عنه . وعندنا أرجى الآيات هي التي أمر الله - تعالى - رسله بالاستغفار للمؤمنين ، وكذلك ما أمر الملائكة بالاستغفار لهم ؛ فاستغفروا لهم . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } الآية : ما ذكر من الأحوال التي ذكر فيه من قوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } الآية ، وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ، ونحو ذلك من الأحوال التي ذكر فيه [ وهي ] في الظاهر أحوال تذكر للشين فيمن تقال فيه ، لكن في ذكر ما ذكر فيه من الأحوال : ذكر بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له والعون ؛ وآية له على رسالته ونبوته ؛ لأن نفاذ القول وغلبة الأمر مع الأحوال التي ذكر - أعظم في الأعجوبة من نفاذه في حال السعة وحال قوة الأسباب وتأكيدها . أو أن يكون قوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } ، ونحوه ؛ لأن أولئك الكفرة كانوا ينسبونه إلى الافتراء والاختراع من ذات نفسه ، فأخبر أن اليتيم والفقير ليس يبلغ في العلم والمعرفة المبلغ الذي يقدر على الاختراع وإنشاء الشيء من نفسه على وجه يعجز عن مثله جميع الخلق ؛ لما لا يجد ما ينفق في ذلك ، ويتحمل من المؤن حتى يبلغ مبلغ الاختراع ، وكذلك ما ذكر حيث قال : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … } الآية [ العنكبوت : 48 ] ؛ لأنهم قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] ، والبشر إنما يتعلمون بالكتابة والخط ، فإذا لم يكن لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - شيء من ذلك ؛ دلَّ أنه بالله - تعالى - عرف وحده . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } ، أي : وجدك يتيما فآواك . ثم يحتمل قوله : { فَآوَىٰ } وجوها : أحدها : وجدك يتيما فآواك إلى [ عمك حتى رباك ] ودفع عنك كل أذى وآفة ، وساق إليك كل خير وبر ، إلى أن بلغت المبلغ الذي بلغت . والثاني : يقول : قد وجدك يتيما فآواك إلى عدو من أعدائك حتى تولى تربيتك وبرك ، وعطف عليك ، وتولى عنك دفع المكروه والأذى ، يذكر منته وعظيم نعمه عليه أنه كان ما ذكر ، ثم صير عدوا من أعدائه أشفق الناس عليه وأعطف ، والله أعلم . والثالث : قد وجدك يتيما فآواك إلى نفسه ، وعطف عليك حتى اختصك واصطفاك للرسالة والنبوة ؛ حتى صرت مذكورا في الدنيا والآخرة ، وحتى أحوج جميع الناس إليك ، وليس ذلك من أمر اليتيم أنه يبلغ شأنه وأمره إلى ما بلغ من أمرك وشأنك حتى صرت مخصوصا من بين الناس جميعا ، فيما ذكرنا من اختصاصه إياك بالرسالة ، وأحوج جميع الناس إليك ؛ يذكر عظيم مننه ونعمه عليه . وقوله - عز وجل - : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } هذا يخرج على وجوه : أحدها : يقول - والله أعلم - : لولا أن الله تعالى هداك لدينه ، ووفقك له ، وإلا وجدك ضالا ؛ إذ كان نشوءه بين قوم ضلال ، لم يكن أحد يهديه ويدعوه إلى الله تعالى ، ولكنه هداك وأرشدك ، فلم يجدك ضالا ، وهو كقوله - تعالى - : { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا … } [ آل عمران : 103 ] ، أي : لولا أنه أنقذكم منها ، وإلا صرتم على شفا حفرة من النار لو لم ينقذكم منها ، وكقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] ؛ لأن البشر أنشئ وطبع على الركون والميل إلى النعم العاجلة ، واختيار الأيسر والألذ ، ولكنه بفضله ولطفه ثبتك وعصمك ، ولم يكلك على ما طبعت وأنشئت في أصل الخلقة ؛ فعلى ذلك نقول في قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } ، أي : لولا أنه هداك ؛ وإلا وجدك ضالا لو لم يهدك ، ففيه أنه هداه ولم يجده ضالا . والثاني : يقول : ووجدك ضالا لا ضلال كسب واختيار ، ولكن ضلال الخلقة التي أنشئ عليها الخلق ، والضلال بمعنى الجهل ؛ لأن الخلق في ابتداء أحوالهم يكونون جهالا ، لا جهل كسب يذمون عليه ، أو يكون لهم علم يحمدون عليه ، ولكن جهل خلقة وضلال خلقة ؛ لما ليس معهم آلة درك العلم ؛ فلا صنع له في كسب الجهل ، فأما بعد الظفر بآلة العلم يكون الجهل مكتسبا ؛ فيذم عليه ، وكذا العلم ؛ فيترتب عليه الحمد والذم ؛ فعلى هذا يكون قوله - تعالى - : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } ، أي : وجدك جاهلا على ما يكون في أصل الخلقة وحالة الصغر فهداك ، أي : علمك ، وهو كقوله - تعالى - : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً … } [ الشورى : 52 ] ، وقوله - تعالى - : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ … } [ العنكبوت : 48 ] ، يذكر أنه لم يكن يدري شيئا حتى أدراه وعلَّمه . والثالث : يقول : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } ، أي : غافلا عن الأنباء المتقدمة وأخبارهم حتى أطلعك الله - تعالى - على ذلك ، كقوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [ يوسف : 3 ] . أو يقول : ووجدك في أمر القرآن أو ما فيه جاهلا غافلا عن علم ذلك ، فأعلمك . وقال بعضهم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } ، أي : وجدك بين قوم ضلال فهداك ، أي : أخرجك من بينهم ما لو لم يخرجك من بين أظهرهم ، لدعوك إلى ما هم عليه ، ويجبرونك على ذلك ، ولم يرضوا منك إلا ذلك ، والله أعلم . وقال بعضهم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } من طريق مكة فهداك الطريق . وقال بعضهم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } حقيقة الضلال ، فهداك للتوحيد . لكن هذا وحش من القول ؛ إذ لا يليق به أن ينسب إلى ذلك . وقال بعضهم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } عن النبوة أي : جاهلا ، فهداك للنبوة ، وهو قريب [ مما ذكرناه ] . وقوله - عز وجل - : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } ، أي : فقيرا فأغناك بما أراك من أمر الآخرة ، وما يسوق إليك من نعيمها ، أي : بما أعد له في الآخرة ، وما وعد له من النعيم والكرامات هانت عليه الدنيا ، حتى ذكر أن الدنيا لم تكن تعدل عنده - عليه السلام - جناح بعوضة ؛ ولذلك روي أن الغنى غنى القلب . ويحتمل أنه جعل فيه حالا بلطفه أغناه ؛ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن الوصال ، فقيل : أنت تواصل ، يا رسول الله ؟ فقال - عليه السلام - : " أنا لست كأحدكم ؛ إن ربي يطعمني ويسقيني " ؛ فجائز أن يكون لله - عز وجل - فيه لطف أغناه به ، وإن لم يطلعنا عليه ، والله أعلم . وقال بعضهم : أغناك بمال خديجة ، رضي الله عنها . وقال بعضهم : فأغناك ، أي : فأرضاك بما أعطاك من الرزق ، وأقنعك . وقوله - عز وجل - : { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } ، وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " فأما اليتيم فلا تكهر " ، فالكهر : الزجر ، كأنه قال : فلا تزجر . [ و ] جائز أن يكون قوله : { فَلاَ تَقْهَرْ } ، أي : لا تمنع حقه ، وادفع إليه حقه وماله . أو يكون ذكر هذا ، يقول : كنت يتيما ورأيت حال اليتيم ؛ فلا تقهر اليتيم ؛ فيكون على الصلة لقوله : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } ، فلا تقهر اليتيم بعد ذلك . { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } : أي : كنت محتاجا فقيرا ، فعرفت محل الفقر والحاجة وشدة حاله ؛ فلا تنهر السائل - أي : لا تزجره - ولكن أعطه . وجائز أن يكون الأمر لا على النهي ، ولكن على الأمر بالبر لهؤلاء والإعطاء لهم . وجائز أن يراد من نفي شيء إثبات ضده ، كقوله - تعالى - : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] ، أي : خسرت ، وعلى هذا الحديث ، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أتاكم السائل فلا تقطعوا عليه مسألته ، حتى يفرغ منها ، ثم ردوا عليه برفق ولين ، إما ببذل يسير ، أو برد جميل ؛ فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جن ؛ يرى كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى " . وقال قوم : تزويج اليتيم قهره ؛ لما فيه من الاستذلال والإضرار ؛ فلم يجوزوه من غير الأب والجد ، وأجازوا بيع ماله من وصيه إن كان وصي الأب أو وصي أمه في تركتها ؛ فدل أن تزويج اليتيم ليس من قهره في شيء ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زوج بنت حمزة سلمة بن أبي سلمة ، وهو صغير يتيم ؛ وزوج ابن عمر بنت أخيه وهي صغيرة ، وزوج عروة ابنته من مصعب وهي صغيرة . وقهر اليتيم في ظلمه والاعتداء عليه ، وليس في التزويج ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : حدثهم بنعم الله - تعالى - التي أنعم عليهم ؛ ليعرفوا ويفوا بما فيه شكرها . أو يقول : حدثهم بما أنعم الله عليك ، وهو هذا القرآن ؛ إذ القرآن من أعظم ما أنعم الله عليه ، فأمر بتحدث ما عليه من النعم ؛ ليعرفوا عظيم ما أنعم الله عليه من الاختصاص لهم ؛ حيث جعلهم من أمته ومن قومه . أو أمر بأن يقرأه ويحدث بما فيه . وقد روي عن أبي رجاء العطاردي قال : " خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف خز ، لم نره عليه قبل ، ولا بعد ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - تعالى - إذا أنعم على عبد نعمة يجب أن يرى أثر نعمته عليه " . وعن عطية عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى - جميل يحب الجمال ، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، ويبغض البؤس والتبؤس " . وعن أبي الأحوص عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أعطاه الله - تعالى - خيرا ؛ فلْيُرَ عليه ، وابدأ بمن تعول ، وارضخ من الفضل ، ولا تلام على كفاف ، ولا تعجز عن نفسك " . وعن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا بسط الله - تعالى - على عبد نعمة فلْتُرَ عليه " يعني به : الصدقة والمعروف . وقول ابن مسعود - رضي الله عنه - " وابدأ بمن تعول " دليل عليه . قال أهل الأدب : عال : افتقر ، وأعال ، أي : كثر عياله ، ويقال : [ أسجيته : ] أسكنته ، وقالوا : الانتهار : الكلام الخشن . [ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ] .