Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 95, Ayat: 1-8)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } : قال : هذه السور كلها نزلت في محاجة أهل مكة ، سوى سورة { وَٱلضُّحَىٰ } و { أَلَمْ نَشْرَحْ } ؛ فإنهما جاءتا في تذكير منن الله تعالى لرسوله - عليه السلام - : إحداهما : خاطبه جبريل - عليه السلام - في تذكر ما من عليه ، والأخرى خاطبه ربه - جل جلاله - بذلك ، وأما غيرهما من السور فإنما جاءت في محاجة أهل مكة . ثم قوله - عز وجل - : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } : قسم ؛ أقسم تأكيدا للحجج التي أقامها ما لولا القسم لكان ما ذكر يوجب ذلك ، [ لكن في ] القسم تأكيد ما ذكر من الحجة . ثم اختلف أهل التأويل في قوله : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } : قال بعضهم : هو التي الذي [ يأكله الناس ، والزيتون الذي يستخرجون منه الزيت ] ، كذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن قوله : { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ } ؟ فقال : تينكم وزيتونكم هذا . وقال بعضهم : هما جبلان بالشام . وقال بعضهم : هما مسجدان في الشام : أحدهما : مسجد دمشق ؛ والآخر : مسجد بيت المقدس . وقيل : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد نبينا عليه السلام . وعن قتادة : أنه قال : التين : الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون : [ الجبل ] الذي عليه [ مسجد ] بيت المقدس . وقال القتبي : التين والزيتون : جبلان بالشام ، يقال لهما : طور تيناء ، وطور زيتاء ؛ بالسريانية ، سميا بالتين والزيتون ؛ لأنهما ينبتان فيهما . وقوله : { وَطُورِ سِينِينَ } ، قال بعضهم : هو جبل بسينين ، والسينين : اسم موضع ، والطور الجبل ، وكذا قال أبو عوسجة . وقال بعضهم : جبل حسن ، و " السينين " : الحسن بالحبشة . وقال بعضهم : كل جبر مشجر ، له الثمر ، فهو سينين . وقال بعضهم : هو الجبل الذي أوحي عليه إلى موسى - عليه السلام - وهو طور سيناء . وقيل : هو الجبل المبارك . ثم تخرج جهة القسم بالجبل ، وبما ذكر على وجوه : أحدها : بما عظم شأن الجبال في قلوب الخلق حيث وصل إليهم أخبار السماء من جهة تلك الجبال ، وجميع ما يرجع إلى منافع أنفسهم ودينهم ، على ما ذكر أنه أوحي إلى موسى - عليه السلام - على جبل طور سيناء ، وأوحي إلى عيسى - عليه السلام - على جبل ساعورا ، وأوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم على جبل فاران ، على ما ذكر في الخبر أن موسى - عليه السلام - قال : " أتاني ربي من [ جبل ] طور سيناء ، وسيأتي من طور ساعورا ، وسيطلع من جبل فاران " ، أي : أتاني وحي ربي من جبل طور سيناء ، وسيأتي وحي عيسى - عليه السلام - من جبل ساعورا ، ويأتي الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم من فاران " . والثاني : أقسم بالجبال ؛ لما أرساها في الأرض ، وجعلها أوتادا لها ؛ لئلا تميد بأهلها ، ولا تميل ، على ما ذكر في غير آي من القرآن عظم شأن الجبال من هذه الجهة في قلوب الخلق . والثالث : لما أخرج منها مع شدتها وصلابتها وغلظها وارتفاعها المياه [ الجارية وغير الجارية ] الصافية الباردة ، وهي من ألين الأشياء وأخرج منها الأشجار الكثيرة المثمرة وغير المثمرة من غير إنبات أحد ، ولا غرسها ، وغير ذلك من المنافع التي جعل في الجبال مما لا يمكن للخلق استخراج ذلك منها بحيلهم وتكلفهم ، فأقسم بها لعظم ما جعل في الجبال من المنافع والبركات . وكذلك إن كان القسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يخرج منه الزيت ؛ لما جعل لهم في ذلك من المنافع العظام ، كقوله - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } [ المؤمنون : 20 ] ، فمن هذه الوجوه التي ذكرنا يحتمل القسم بالجبال والتين والزيتون . أو ذكر التين والزيتون والمراد بهما : الجبل ؛ لما في الجبل يكونان عندهم ، على ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } : هو مكة ؛ سماه : أمينا ؛ لما يأمن من دخله ، أو يؤمن من دخله ويحفظه ؛ لأن الأمين عند الناس هو الذي يحفظ من ائتمن عليه وفيه ، وهو المأمون به . ثم جائز أن يكون القسم بالبلد لأهل مكة ولأهل الشرك ؛ لما عظم شأنه وأمره عندهم وفي قلوبهم ، وأقسم بالجبال ؛ لعظم قدرها ومنزلتها ومحلها في قلوب أهل الكتاب ؛ لما كانوا يؤمنون ببعض الوحي ، وأهل مكة لا يؤمنون بالرسل وبالوحي ؛ ولكن يعظمون ذلك البلد . وجائز أن يكون القسم بما ذكر كله لهم جميعا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } : قال أهل التأويل : على هذا وقع القسم ، لكن القسم بغيره أولى وأقرب ؛ لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم ؛ إذ لم يتمن أحد أن يكون على غير هذا التقويم وعلى غير هذه الصورة التي أنشأه عليها ؛ فالأشبه أن يكون القسم واقعا على قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ؛ لما فيه وقع الإنكار والتكذيب وهو نار جهنم ؛ فأكد ذلك بالقسم كأنه قال : مع أنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، نردهم إلى أسفل السافلين ؛ لكفرهم وعنادهم سوى المؤمنين . ثم قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } يخرج على وجوه : أحدها : أحسن صورة يشاهدون ويعاينون ؛ لأن الملائكة لعلهم أحسن صورة وأحكم تقويما في الخلقة من البشر ، ولكن يرجع إلى سائر الخلائق دونهم ؛ وذلك لأنه خلق البشر على صورة لا يتمنى أحد منهم أن يكون على غير صورة البشر ؛ دل أنه خلقهم على أحسن صورة . والثاني : على أحسن تقويم ، أي : على أحكم تقويم وأتقنه ؛ لأنه خلقهم وأنشأهم على هيئة يتهيأ لهم استعمال الأشياء كلها في منافعهم والانتفاع بها بحيل وأسباب علمهم وجعل فيهم ، ومكن لهم ذلك . ويحتمل : { أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ، أي : أحكم وأتقن على الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وألوهيته . أو جعلهم أهل تمييز ومعرفة ، وبحيث يكون منهم الخيرات وأنواع الطاعات التي يثابون عليها ، وينالون بها الثواب الجزيل ، والكرامة العظيمة ما لا يكون لغيرهم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [ هو يحتمل وجوها : أحدها : رددناه إلى أسفل السافلين ] وهو جهنم ، نرد الكافر إلى جهنم وهي أسفل السافلين ، والمؤمن رددناه إلى الجنة وهي أعلى العليين ، وهو ما استثنى بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } في الجنة . والثاني : رددناه إلى أسفل ما اختار من الأعمال والأفعال ، وهو [ ما اختار ] من فعل الشرك والكفر ، ورددنا المؤمن إلى أعلى ما اختار من الأعمال العالية الرفيعة ، [ والله أعلم ] . والثالث : ما قاله أهل التأويل : ثم رددناه [ إلى ] أرذل العمر وأسفله ، [ ثم استثنى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ … } إلى آخره ] ، أي : يجري عليهم ثواب أعمالهم التي عملوا بها في حال صحتهم وشبابهم ، فأمَّا أولئك فإنهم إذا ردوا إلى ما ذكر ، لم يجر لهم ذلك ؛ وهذا التأويل إنما يصح ، أن لو استثنى المحسنين من المؤمنين منهم ، فأما إذا استثنى أهل الإيمان من أهل الكفر فإنه لا يحتمل ، والأول أشبه . وقوله - عز وجل - : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ } : إن كان الخطاب [ به ] لكل إنسان كذب بالدين ، يقول : ما الذي دعاك إلى تكذيبك بالدين ؟ وقد عرفت أن الله - تعالى - أحكم الحاكمين ، لا يفعل إلا ما هو حكمه ، ولو لم يكن يوم الدين كان فعله عبثا باطلا ؛ لأنه أنشأكم ، ثم رباكم إلى أن بلغتم إلى الحال التي بلغتم ، فلو لم يكن بعث ، لكان يخرج فعله عبثا باطلا . أو يقول : لما سوى بين من اختار ولايته وبين من اختار العداوة في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ؛ فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك . وإن كان الخطاب في قوله : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من الدين ؟ أي : لا حجة له في ذلك . أو يقول : ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدين بعد ما عرف أني أحكم الحاكمين ؟ ! . ثم اختلف في قوله : { بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } : قال بعضهم : أحكم القاضين ، أي : أعدلهم . وقال بعضهم : أحكم الحكماء ، والإفناء بلا بعث فعل السفهاء ، لا فعل الحكماء ، وهو أحكم الحاكمين ، أي : أعدل القاضين في التفريق بين [ الأولياء والأعداء ] ، وقد اجتمعوا في الدنيا ؛ فلا بد من دار يفرق بينهما فيها ، والله الموفق .