Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 98, Ayat: 1-8)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } : ذكر في حق أهل الكتاب : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } بحرف { مِنْ } ، وهو للتبعيض ، ولم يقل : " أهل الكتاب " ، وذكر في حق أهل الشرك : { وَٱلْمُشْرِكِينَ } ؛ لأن أهل الكتاب كانوا فرقا : منهم من كان آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به ، ومنهم من كان كافراً به ، فلما بعث آمن به ، فلزم الإيمان به ، ومنهم من كان كافرا به ، فلما بعث ، وأرسل ، لزم الكفر به ، ولم يؤمن ، فلما كانوا أصنافا وفرقا ؛ لذلك قال : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } بحرف " من " . وأما المشركون : فإنهم كانوا صنفا واحدا ، ثم لم يبين : أنهم إذا أتاهم البينة ينفكون أو لا ؟ . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : { لَمْ يَكُنِ … } إلى قوله : { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } ، أي : لم يكن بعض أهل الكتاب وبعض المشركين منفكين من الكفر ؛ لأنه عطف المشركين على أهل الكتاب ؛ كأنه قال : من أهل الكتاب ومن المشركين ؛ ولذلك خفض المشركين ، ولم يقل : " والمشركون " ، بل كانوا أهل كفر وشرك إلى آخر عمرهم ، وإن أتتهم البينة ، والبينة : هي ما في خلقة كل أحد مما يدل على ألوهيته ووحدانيته . ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة ، وهي معاينة العذاب عند الموت ؛ كقوله - تعالى - : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا … } [ غافر : 84 ] ، ونحو ذلك . وذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين } ، وفي حرف أبي : { ما كان الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين } . ثم اختلف في قوله - عز وجل - : { مُنفَكِّينَ } : قال بعضهم : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منتهين ، زائلين عن الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة . وقال بعضهم : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين خارجين من الدنيا حتى تأتيهم البينة . ثم اختلفوا في البينة التي ذكر أنها تأتيهم : قال بعضهم : البينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال على أثره : { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } . وقال بعضهم : ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن ، وما جاء به محمد [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] من الحجج : فمن جعل قوله : { مُنفَكِّينَ } : منتهين ، زائلين ، يجعل البينة : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله - عليه السلام - [ سمي ] بينة ؛ لأنه به يعرف [ كل ] خير وكل إحسان ، وبه يتبين الحق من الباطل ، وكل شيء من أمر المعاد والمعاش ، وكذلك القرآن جاء به . ومن قال : { مُنفَكِّينَ } : خارجين من الدنيا : يجعل البينة التي ذكر أنها تأتيهم : العذاب معاينة جهارا ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ … } [ النساء : 159 ] ، أي : خارجين من الدنيا ؛ حتى يعلموا العذاب ؛ فعند ذلك يؤمنون . وقوله - عز وجل - : { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } : على التأويل الأول في البينة يكون ما ذكر من قوله : { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ } تفسيرا للبينة . وعلى الثاني يخرج على الابتداء ، يقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو صحفا مطهرة . ثم جائز أن يكون سمى القرآن وحده : صحفا ؛ على المبالغة ؛ إذ قد يسمى الواحد باسم الجميع على المبالغة . وجائز أن يكون قوله : { يَتْلُواْ صُحُفاً } : القرآن ، وسائر الصحف ؛ لأن سائر الصحف فيه . وكذلك : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ، جائز أن يكون سمى كتابه المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتبا ؛ على الإبلاغ ، والتأكيد ؛ على ما ذكرنا . وجائز أن يكون : يتلو صحفا وكتبا عليهم ، وهي التوراة والإنجيل والزبور ، كأن هذا القرآن في تلك الكتب ، وتلك الكتب في هذا ، وهو كقوله - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 196 ] ، وقوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [ الأعلى : 18 - 19 ] أخبر أنه في تلك الكتب ، وأن الكتب الأولى فيه ؛ فيصير بتلاوة هذا عليهم كأنه [ تلا ] تلك الكتب عليهم ، وعلى هذا قوله - تعالى - : { هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي … } [ الأنبياء : 24 ] ، وقوله - تعالى - : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ … } [ البقرة : 97 ] ، وقوله - عز وجل - : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ … } [ البقرة : 91 ] ففي هذا ما في تلك الكتب . وقال بعضهم : { صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } : التي كانت في أيدي السفرة البررة . وقوله - عز وجل - : { مُّطَهَّرَةً } ، يحتمل : مطهرة من أن يكون للباطل فيها حجة أو مدخل . أو مطهرة من الافتعال والافتراء . أو مطهرة من أن تحتمل ما ذكره أولئك الكفرة . وقال قتادة : سمى كتابه بأحسن الأسماء ، وأثنى عليه بأحسن الثناء ، سماه : نورا ، وهدى ، ورحمة ، وبركة ، وآيه شفاء ، ونحوه . وقوله - عز وجل - : { قَيِّمَةٌ } : اختلف فيه : قال بعضهم : فيها كتب صادقة . وقال بعضهم : عادلة . قال غيرهم : مستقيمة على ما توجبه الحكمة . وجائز أن يكون قوله - تعالى - : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ، أي : أحكام كثيرة مستقيمة ؛ على ما توجبه الشريعة والحكمة . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } : يقول أهل التأويل : إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال أبو بكر : هذا التأويل خطأ ؛ لأنهم كانوا متفرقين قبل ذلك ؛ فلا معنى لهذا . وعندنا : ليس كما توهم هو ، وهو يخرج على وجهين : أحدهما : وما تفرقوا في محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم به ، عند ذلك تفرقوا فيه ، فأما قبل ذلك ، كانوا مجتمعين فيه كلهم . أو ما تفرقوا في الدين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، أي : عن بيان وعلم تفرقوا في الدين ، وفيما تفرقوا فيه ، وهو ما جعل في خلقة كل أحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا ، لعرفوا بأن الله - تعالى - واحد ، والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ، ونفس الخلقة على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } : أي : ما أمر أوائلهم وأواخرهم في تلك الكتب إلا ليعبدوا الله - تعالى - ولا يعبدوا من دونه . أو ما أمروا إلا ليجعلوا الألوهية لله والوحدانية له . ودل قوله : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ } على أن تأويل - قوله - تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] على إضمار الأمر ، أي : إلا ليأمرهم بالعبادة على كل حال ؛ لأنه لو خلقهم للعبادة ما قدروا [ على ] غيره . أو أن يكون قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] على الخصوص ، خلق من علم أنه يعبده للعبادة . وقوله - عز وجل - : { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } : إخلاص الدين له يخرج على وجهين : أحدهما : أن يخلص له الدين ، ويصفي ، لا يشرك فيه غيره ، ويكون من خلوصه وصفائه . والثاني : الدين الخالص هو الدائم ، كقوله : { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً … } [ النحل : 52 ] ، أي : دائما . وكذلك يحتمل قوله : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ … } [ الزمر : 3 ] . وقوله : { حُنَفَآءَ } : قل أهل التأويل : المسلمون . وقال بعضهم : حنفاء : متبعين ، والحنف : الميل ، كأنه قال : مائلين إلى الإسلام . وقيل : { حُنَفَآءَ } : الحجاج . وقيل : الحنف : المستقيم . وقوله - عز وجل - : { وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ } : يحتمل القبول ، أي : قبلوا إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ؛ كقوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ التوبة : 5 ] ، أي : تابوا ، وقبلوا ذلك ، ليس على حقيقة الإقامة . ويحتمل [ أن يكون ] حقيقة الإقامة والإيتاء ، وأيهما كان ، ففيه أن أوائلهم كانوا مأمورين بالصلاة والزكاة . ثم المعنى الذي في الصلاة والزكاة لا يحتمل النسخ في وقت من الأوقات ؛ لأن الصلاة معناها : هو الاستسلام ، والخضوع له ، والزكاة : هي تزكية النفس وطهارتها ، وذلك لا يحتمل النسخ أصلا . ثم قال : { وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } والدين مذكر ، والقيمة مؤنث ؛ فجائز أن يكون الذي ذكر هو الملة القيمة ، ويحتمل دين الأمة القيمة ، وهو قول الزجاج . أو يقول : ذلك الذي قومته الحجج والبراهين ، أضيف إلى الحجج . وجائز أن يكون ذكر القَيِّمة ، على التسوية بين ما سبق وما تقدم من أواخر الآي ، من قوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } ، و { مُّطَهَّرَةً } ، و { كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ، ثم قال على ذلك : { وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } ، تسوية بين ما تقدم وما تأخر من قوله : { خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } ، و { شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } . وفي حرف أبي : { ذلك الدين القيم } بغير هاء . وفي قوله - تعالى - : { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } - وجهان : أحدهما : تحذير لهذه الأمة ؛ لئلا يتفرقوا كما تفرق أولئك في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به . والثاني : يكونون أبدا فزعين إلى الله - تعالى - في كل وقت ، خائفين منه ، وألا يكلوا إلى البيان الذي جاءهم ؛ فيتفرقوا كما تفرق أولئك . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } . ظاهر هذا أن يكون تأويل قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } ، أي : بعض المشركين في النار ، لا كل المشركين ، ولكن من كفر من المشركين ، كان كمن كفر من أهل الكتاب في نار جهنم ، لكن الكفر هو الشرك ، والشرك هو الكفر ؛ كقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ … } [ النساء : 48 ] ؛ فدل أن الكفر والشرك واحد ؛ فكل كافر مشرك ؛ فكأنه قال : إن الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . ثم جاء كل هذا التشديد لهؤلاء ؛ لأن أهل الكتاب ادعوا أنهم من نسل الأنبياء ، ثم تركوا اتباعهم ، والمشركون قد { … وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ … } [ فاطر : 42 ] ، [ ثم ] نقضوا ذلك العهد . وأهل الكتاب قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، فتركوا اتباع الصالحين من آبائهم . والعرب - أيضا - كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم ؛ فحقه عليهم ألزم وأوجب ؛ فشدد على هؤلاء لهذا المعنى . ثم إن كان البرية مأخوذاً مقدرا من البري وهو التراب ، ويرجع تأويل الآية إلى البشر ؛ كأنه قال : أولئك هم شر ما أنشئ من الأرض . وإن كان مأخوذا مقدرا من البرا وهو الخلق ؛ فيصير كأنه قال : أولئك هم شر ما خلقوا ؛ فيدخل في ذلك الملائكة والجن والبشر ، وفي الأول لا يدخل إلا البشر خاصة . وكذلك ما ذكر من أهل الإيمان ؛ حيث قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } : فإن كان البرية مأخوذا من البرى ، فهو يرجع إلى الأصناف جميعا ، وإن كان من البري - وهو التراب - فهو يرجع إلى البشر خاصة ؛ فيصير كأنه قال : شر أهل البشر من جنسهم ، وخير أهل الخير من جنسهم ؛ لأنهم صاروا قادة في الهدى والخير . وقوله - عز وجل - : { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } : فإن كان العدن هو المقام ، فجميع الجنان عدن ، وجميع الجنان نعيم . ثم قد قسم الخلق صنفين : صنفا جعله شر البرية ، وصنفا جعله خير البرية ، ثم يكون [ من ] كل صنف شر من شر ، وخير من خير ، وسوى بين من نشأ على الكفر ، وداوم عليه في التأبيد والتخليد وبين من أحدث الكفر في آخر عمره ، وكذلك من دام على الإيمان ، ومن أحدث سوى بينهما ، ولم يجعل لما مضى من الكفر والإيمان جزاء ولا عقابا ؛ وذلك - والله أعلم - هو أن من اعتقد إيمانا إنما يعتقده للأبد ، وكذلك من يعتقد الكفر ، إنما يعتقده للأبد ، فإذا أحدث الإيمان بعد الكفر اعتقد قبح ما عمل في حال كفره وشره ، وحسن ما أحدث من الإيمان والتوحيد ، وكذلك من أحدث الكفر بعد الإيمان ، اعتقد فساد ما عمل في حال إيمانه ؛ لذلك سوى بين من أحدث ، وبين من دام عليه ، وليس [ كمن يذنب ] في وقت ، ويتوب في وقت ؛ لأنه ليس يعتقد حسن ذلك ، ولا قبحه في الأبد ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : رضي الله عنهم ، بعملهم الذي عملوا لأنفسهم ، وسعيهم الذي سعوا في الدنيا لهم ؛ رضي سعيهم لهم ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } ، أي : رضوا هم عنه بما أكرمهم ، ووفقهم للأعمال التي عملوا لأنفسهم في الدنيا ، وهو كقوله - تعالى - : { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، أي : إن قبلوا ما أحسن إليهم ، وأحسنوا صحبة إحسانه إليهم يرضى ذلك لهم . وهذا يدل أن ما يعملون من خير أو شر إنما يعملون لأنفسهم ، ولمنفعة ترجع إليهم ، أو مضرة تندفع عنهم . والثاني : { رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } بما أكرمهم من الثواب لأعمالهم التي عملوا لأنفسهم ، ورضوا عنه بكرامته التي أكرمهم . وقوله - عز وجل - : { رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } هذا منه إفضال وإنعام ؛ حيث ذكر رضاه عنهم ، وإن ذكر العفو والتجاوز كان حقا ، ولكن هذا كما ذكر من لطيف معاملته عباده ؛ حيث سمى ما ادخروا في وقت حاجتهم إليه : قرضا ؛ حيث قال : { … وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً … } [ المزمل : 20 ] ، وسمى بذلهم أنفسهم وأموالهم سرّاً ، وما يعملون لأنفسهم - جزاء وشكرا ، وأموالهم وأنفسهم في الحقيقة له ، ولكن سمى بالذي ذكرنا ؛ لطفا منه وفضلا ؛ فعلى ذلك ما ذكر من رضاه عنهم به ، وكذلك قوله : { وَرَضُواْ عَنْهُ } ذكر رضاهم عنه بفضله ولطفه ، وإلا من هم حتى يذكر منهم الرضا عن الله تعالى ؟ ! . ثم هو يخرج على وجهين سوى ما ذكرنا : أحدهما : رضوا عنه بما امتحنهم في الدنيا بالمحن الشديدة العظيمة ، وإن اشتدت تلك ، وثقلت على أنفسهم إذا رأوا إحسان الله - تعالى - وفضله في الآخرة . والثاني : رضوا عنه بالنعم التي أكرمهم في الجنة ، { … لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] ، ولا يريدون غيرها ، ولا يملون على ما يملون في الدنيا . قال أبو عوسجة : { مُنفَكِّينَ } ، أي : لا يزالون على هذه الحال ، يقول الرجل : ما انفككت أفعل كذا وكذا ، أي : ما زلت أفعل كذا وكذا . وقال القتبي وأبو عبيد وغيرهما : المنفكين : زائلين . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } : أي : الذي ذكر من الجزاء لمن خشي نقمته ، أو خشي سوء صحبة نعمه ، وأصله أن من اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات ، فإنما يفعل ذلك ؛ لخشية ربه - تعالى - وكل من [ كان ] أعلم بربه فهو أخشى لربه تعالى ، ومن [ كان ] أجهل به فهو أجرأ ؛ قال الله - تعالى - : { … إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ … } [ فاطر : 28 ] . وقال الحسن : الخشية : هي الخوف اللازم في القلب الدائم فيه ، أو خشي خلافه وكفران نعمه ، والله أعلم ، [ والحمد لله رب العالمين ] .