Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 49-53)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيكف يكفرون لوفور نعمة الحق وشمول رحمته مع أنه { لِلَّهِ } المحيط بكل المظاهر الموجد المظهر لها { مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } اي : العلويات والسفليات وما بنيهما من الممتزجات ؛ لذلك { يَخْلُقُ } ويوجد { مَا يَشَآءُ } إرادة واختياراً حيث { يَهَبُ } بمقتضى جوده وفضله { لِمَن يَشَآءُ } من عباده { إِنَاثاً } محضاً من الأولاد ، قدمهن للتدرج من الأدنى إلى الأعلى ، ونكرهم ؛ لأن النكارة مطلوبة فيهن { وَيَهَبُ } أيضاً { لِمَن يَشَآءُ } منهم { ٱلذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] الخُلَّص ، عرَّفهم ؛ لأنهم أولى بالتعريف وأجرى بالمعرفة . { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ } ويخلط لهم { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } مجتمعين ممتزجين { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ } منهم { عَقِيماً } بلا إيلاد واستيلاد ، ذكراً كان أو أنثى إظهاراً لكمال قدرته ، وإشعاراً بأنه لا تأثير للوسائل والأسباب العادية ، حتى ينسب تناسلهم وتوالدهم إلى اجتماع الأزواج والزوجات منهم ، كما هو المتبادر إلى الأحلام السخيفة ، وبالجملة : { إِنَّهُ } سبحانه { عَلِيمٌ } باستعدادات عباده وقابلياتهم { قَدِيرٌ } [ الشورى : 50 ] على إفاضة ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي ، بمقتضى كرمه وجوده إرادة واختياراً ، بلا إيجاب والتزام من جانبه سبحانه . ثم لما شنَّع اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيروه وطعنوا في نبوته ، مستهزئين معه ؛ حيث قالوا له تهكماً : ألاَ تكلم الله وتنظر إليه لو كنت نبيّاً كما كلمه موسى ونظر إليه . فقال صلى الله عليه وسلم : " لم ينظر موسى إلله تعالى " إذ هو سبحانه أجل وأعلى من أن تنظر إليه العيون ، وتدركه الأبصار ومحيط به الآراء والأفكار . أنزل سبحانه هذه الآية تصديقاً لحبيبه صلى الله عليه وسلم ، فقال : { وَمَا كَانَ } أي : ما صح وجاز { لِبَشَرٍ } أي : لجنسه ، ليس في وسعه واستعداده { أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ } مشافهة بلا سترة وحجاب ؛ إذ لا مناسبة بين المحدوج والمحبوس في مضيق الجهات ، وبين غير المحدود والمستغني عن الحدود والجهات حتى تقع المكالمة بينهما { إِلاَّ وَحْياً } أي : تكلماً ناشئاً عن وحى إلهامي أو منامي { أَوْ } تكلماً مسموعاً { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي : وراء تعين من التعينات ، كما سمع موسى كلامه سبحاه من وراء حجاب الشجرة ، فكذلك يسمع العارف المتحقق بمقام الفناء في الله كلامه سبحانه ، من وراء تعينات عموم المظاهر الناطقة بتسبيحه سبحانه حالاً ومقالاً { أَوْ } تكلماً بالسفارة والترجمان بأن { يُرْسِلَ رَسُولاً } من سدنة ذاته التي هي الملائكة الحاملون لكمالات أسمائه وصفاته { فَيُوحِيَ } الملك { بِإِذْنِهِ } سبحانه { مَا يَشَآءُ } ويسمعه من كلامه سبحانه لمن يشاء من عباده . وبالجملة : { إِنَّهُ } سبحانه { عَلِيٌّ } في شأنه المختص به ، وكمالاته اللائقة له ، متعالٍ عن أن يحوم حول سرادقات عز سلطانه أحد من خلقه ، فيكف أن يتكلموا معه بلا سترة وحجاب { حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] في كمال تمنعه وكبريائه ونهاية تعززه وترفعه ؛ بحيث تكلم تارة بالوحي والإلهام ، وتارة من وراء الحجب والأستار ، وتارة بطريق السفارة الرسالة . { وَكَذَلِكَ } أي : ومثل ما أوحينا إلى من تقدمك من الأنبياء والرسل ، وتكلمنا معهم بإحدى الطرق الثلاث { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } أيضاً يا أكمل الرسل لنتكلم معك { رُوحاً } منَّا تكريماً لك وتعظيماً لشأنك ، وتخصيصاً لك من بين سائر الأنبياء لظهوره على نشأة التوحيد الذاتي ، ناشئاً { مِّنْ أَمْرِنَا } المتعلق لتدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ، ألا وهو القرآن المنتخب من حضرة علمنا ولوح قضائنا ، سميناه روحاً ؛ لأنه يحيي به أموات مطلق التعينات ، وخصصناك به مع أنك { مَا كُنتَ تَدْرِي } وتعلم قبل نزوله { مَا ٱلْكِتَابُ } المبين للأحكام المتعلقة بتهذيب الظواهر والبواطن { وَلاَ ٱلإِيمَانُ } والإيقان المتعلق لتوحيد الحق وعرفانه ، لكونك أميّاً عارياً عن طريق الاستفادة والتعلم مطلقاً { وَلَـٰكِن } من محض جودنا وفضلنا اصفيناك لرسالتنا ، واجتبيناك لخلافتنا ونيابتنا ؛ لذلك أنزلناه إليك . وبعد نزوله { جَعَلْنَاهُ نُوراً } تلألأ وتشعشع بعد ظهور نشأتك { نَّهْدِي بِهِ } إلى توحيدنا { مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } المجبولين على فطرة الإسلام { وَإِنَّكَ } أيضاً بمقتضى خلافتك ونيابتك عنَّا { لَتَهْدِيۤ } به عموم عبادنا وتدعوهم { إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] لا عود فيه ولا انحراف ؛ لكونه { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ } مظاهر { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي : العلويات والسفليات ، وما ظهر منهما وفيهما وعليهما ، وبالجملة : عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد ؛ إذ هو سبحانه آخذ بيمين القدرة بناصية الكل ، ويجذبه نحوه . { أَلاَ } أي : تنبهوا أيها الأظلال المستمدون من الله في كل الأحوال { إِلَى ٱللَّهِ } أي : إلى وجهه الكريم لا إلى غيره من وجوه الأسباب والوسائل العادية { تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [ الشورى : 53 ] أي : إليه ترجع وجوه الصور المرتبة بعد ارتفاع الوجوه الهالكة عن البين واضمحلال الرسوم الباطلة عن العين . خاتمة السورة عليك أيها الطالب للتحقق في صراط الحق ، والراكن نحوه بحزائمك الأقصى وعزائمك الأوفى أن تجعل قبلة مقصدك توحيد ربك ، وتستقيم على جادته التي هي الدين القويم المحمدي ، والسبيل السوي المصطفوي ، الذي { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] وتقتفي أثر من سلف من خُلَّص أتباعه الذين اهتدوا بمتابعته إلى مقر التوحيد واليقين بك ، ووصلوا إلى عالم اللاهوت والتمكين بعدما انخلعوا عن جلباب ناسوتهم بالمرة ، بتوفيق من الله وجذب من جانبه ، وإرشاد حبيبه صلى الله عليه وسلم .