Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 117-120)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم بسط عيسى الكلام مع ربه ؛ تشفياً ، فقال : { مَا قُلْتُ لَهُمْ } قولاً { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } أي : بتبليغه وإيصاله إليهم ، وهو { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } الواحد الأحد الذي هو { رَبِّي } أوجدني من العدم ، ورباني بأنواع اللطف والكرم { وَرَبَّكُمْ } أيضاً أوجدكم من العدم مثلثي ، ورباكم ، فتكون نسبة إيجاده وتربيته علي وعليكم على السواء ، ما ترى من تفاوت في خلقه { وَكُنتُ } بأمرك وإرسالك ووحيك { عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أحفظهم بتوفيقكم عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } ورفعتني بجودك إلى ما رفعتني { كُنتَ } بذاتك وأسمائك وأوصافك { أَنتَ الرَّقِيبَ } المحافظ { عَلَيْهِمْ } المولي لأمورهم ، تضلهم وتهديهم ، ترشدهم وتغويهم { وَأَنتَ } المنزه بذاتك عن جميع الأكوان { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من الأمور الكائنة { شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] حاضر غير مغيب . { إِن تُعَذِّبْهُمْ } عدلاً { فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } فلك أن تتصرف فيهم على أي وجه تتعلق إرادتكم ومشيئتك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } فضلاً وطولاً { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب على الإنعام والانتقام { ٱلْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ، ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة . فلمَّا بثَّ وبسط عسى مع الله الكلام ، وبالغ في التفويض والرجوع إليه في جميع الأمور ، خصوصاً أمر قومه { قَالَ ٱللَّهُ } سبحانه : يا عيسى { هَـٰذَا يَوْمُ } لا يكتسب فيه الخير ، ولا يتسجلب النفع ، ولا يدفع الضر ، بل { يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ } الذين صدقوا في النشأة الأولى { صِدْقُهُمْ } السابق { لَهُمْ } شفي هذه النشأة لهؤلاء الصادقين إلى { جَنَّاتٌ } منتزهات المعارف والحقائق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } مملوءة بمياه المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الأبدية والبقاء السرمدي { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } لا يتحولون عنها أصلاً { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص { وَرَضُواْ عَنْهُ } لإيصالهم إلى غاية ما جبلوا عليه لأجله بلا منتظر { ذٰلِكَ } الوصول والتحقق هو { ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ المائدة : 119 ] والفضل العميم ، واللطف الجسيم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية . ولا يستبعد من الله أمثال هذه الكرامات مع أرباب الولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء ؛ إذ { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } إظهاراً وتصرفاً واستقلالاً { وَمَا فِيهِنَّ } من المكونات ، فله التصرف فيها كيف يشاء حسب إرادته واختياره { وَهُوَ } بذاته { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من عموم مراداته ومقدوراته { قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] فله أن صول خلَّص عباده إلى فضاء فنائه بإفنائهم عن هوياتهم الباطلة ، وإبقائهم بهويتهم الحقيقية السارية ، الظاهرة في الأكوان . خاتمة السورة . عليك أيها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمر للبقاء الأبدي شكران سعيك وأوصلك إلى غاية مبتغاك أن تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من القضاء ؛ إذ كل ما يجري في عالم الأكوان والفساد إنما هو على مراد الله ، ومقتضى مشيئته حسب تجلياته الجمالية والجلالية ، واللطيفة والقهرية ، والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن الإضافات مطلقاً ، ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه السراء والضراء ، ولا اللذة ولا الفناء ؛ إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وأمارات البعد . فعليك أن تصفي نفسك عن جميع الأمراض الباطنة من العُجب والرياء والرعونة والهوى ، وتلازم العزلة والإعراض عن أبناء الدنيا ، والالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سدِّ جوعة وكنٍّ ولباسٍ كيف اتفق ، وعليك أن تروض نفسك في زاوية الخمول ، وركن القناعة ، ومنزل الفراغة . وإياك أن تصاحب مع أهل الأهواء وتراجعهم ، سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار ، وكن في ورطة الدنيا كأنك غريب ليس لك ألف ومؤانسة مع من فيها وما فيها أو كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار . وبالجملة : عدّ نفسك من أصحاب القبور ، وافعل مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إلى الدنيا ، بل موتك الأرادي لا بد أن يكون أعرق في قطع التعلق ، وترك المألوف من الموت الصوري ؛ لأن أكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة ، والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة ولذة ، بحيث لو عاد على ما عليه لتغمم ، بل هلك خوفاً ، فذلك أن تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة الاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وملتقطات المشايخ العظام التي ساتنبطوها منها بسعي بليغ - شكر الله مساعيهم - وتصرف عنان عزمك عمَّا سواها من الأباطيل الزائفة ، والمنسوبة إلى أصحاب الحجج والاستدلال ، الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة عن منهج الحق ومحجة اليقين . جعلنا الله ممَّن أيد من عنده فتأيد ، وأطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد ، بمنِّه وجوده .