Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 1-30)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَٱلذَّارِيَاتِ } يعني : وحق النسمات الروحانية من النفسات الرحمانية على وفق العناية الأزلية ؛ بحيث تذرو والبعث النفوس الخيرة الموفقة المجبولة على نشأة التوحيد { ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] نوعاً من الذرو والبعث على سبيل الشوق ، والتحنن نحو المبدأ الحقيقي المنشأ الأصلي . { فَٱلْحَامِلاَتِ } من القوى ، والآلات الحاملة كل واحد منها { وِقْراً } [ الذاريات : 2 ] حملاً ثقيلاً خطيراً من أعباء الوحي ، والإلهامات الإلهية من العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية ، المنشعبة من حضرة العلم ولوح القضاء ، المتعلقة بالمعارف والحقائق الإلهية . { فَٱلْجَارِيَاتِ } أي : سفن النفوس المشتملة على أنواع المدارك ، والمشاعر الجارية في بحر الوجود { يُسْراً } [ الذاريات : 3 ] سهلاً بلا تثاقل وتكاسل . { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ } من الأسماء والصفات الإلهية ، والموسومات بالملائكة ، المقسمة لقوابل المظاهر { أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] أي : أمور أرزاقهم ، ومطلق حظوظهم وأبصارهم من الفيوضات والفتوحات الصورية والمعنوية ، الموهوبة لهم من قبل الحق حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية . { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } أنتم أيها المكلفون ، المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان من البعث والحشر والحساب والجزاء ، وغير ذلك من المعتقدات الأخروية ، المترتبة على العالم المحيط الإلهي ، وقدرته الغالبة وإرادته الشاملة { لَصَادِقٌ } [ الذاريات : 5 ] ثابت محقق وقوعه بلا شك وشبهة . { وَإِنَّ ٱلدِّينَ } والجزاء الموعود لكم في النشأة الأخرى ، والمتفرع على أعمالكم وأفعاكم في النشأة الأولى { لَوَٰقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] محقق وقوعه ، كائن إتيانه ألبتة ، بلا تردد وارتياب . ثمل لما أقسم سبحانه بما يتعلق بعالم الأمر ، أراد أن يقسم بما يتعلق بعالم الخلق تتميماً للتأكيد والمبالغة بالقسم باعتبار كلا العالمين ، فقال : { وَٱلسَّمَآءِ } أي : وحق السماء الرفيعة ، البديعة النظم ، العجيبة التركيب { ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } [ الذاريات : 7 ] أي : الحسن والزينة ، وكمال الصفاء ، والبهجة والبهاء ؛ لاشتمالها على الكواكب المشيرة إلى الطرق الموصلة إلى قدرة الصانع القديم ، ومتانة حكمة الحكيم العليم . إن اليوم الموعود لبعثكم وجزائكم لآت ألبتة { إِنَّكُمْ } أيها الشاكون في شأنه ، وشأن من أخبر به بمقتضى الوحي والإلهام والإلهي ، وشأن ما أنزل لبيانه من الكتاب المبين لإعداد الزاد له ، وطريق النجاة عن أهواله وأفزاعه { لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [ الذاريات : 8 ] تنكرون له ، وتكذبون المخبر الصادق ، وتنسبون له وإلى الكتاب المبين المعجز من المفتريات الباطلة ؛ حيث تقولون تارة : إنه سحر ، أو من أساطير الأولين أو كهانة اختلقها الشاعر ، أو كلام المجانين يتكلم به هذا المجنون . وبالجملة : { يُؤْفَكُ } ويصرف { عَنْهُ } وعن دينه وكتابه { مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 9 ] وصرف عن الحق وقبوله ، ومال إلى الباطل ، وسعى نحوه . وبسبب إفكهم ، وذبِّهم عن طريق الحق والامتثال به { قُتِلَ } أي : طرد ولعن على ألسنة عموم أهل الحق { ٱلْخَرَّاصُونَ } [ الذاريات : 10 ] المنكرون الكاذبون ، المكذبون من أصحاب القول المختلق ، وهم : { ٱلَّذِينَ هُمْ } من شدة انصرافهم عن الحق وأهله { فِي غَمْرَةٍ } وغفلة عظيمة ، وجهل متناهٍ { سَاهُونَ } [ الذاريات : 11 ] غافلون عن الله وقدر ألوهيته وحقوق ربوبيته . ومن كمال غفلتهم ، وشدة عمههم في سكرتهم { يَسْأَلُونَ } على سبيل التهكم والاستهزاء : { أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } [ الذاريات : 12 ] أي : يقولون : متى يوم الجزاء والقيامة يامحمد ؟ ! وفي أي آن يأتينا عذاب الساعة وأهوالها ؟ ! قال تعالى في جوابهم : { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أي : يوم يقع عليه الجزاء والعقاب والعذاب ، وهم يحرقون فيه في النار ، ويطرحون عليها صاغرين مهانين . ويقول لهم الموكلون حين طرحهم فيها توبيخاً وتقريعاً : { ذُوقُواْ } أيها المجرمون المسرفون { فِتْنَتَكُمْ } التي أنتم تستعجلون بها في دار الدنيا على سبل الاستهزاء والمراء ، وبالجملة : { هَـٰذَا ٱلَّذِي } وقعتم فيه ، وحبستم عليه الآن من العذاب { كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [ الذاريات : 14 ] في سالف الزمان على سبيل الإنكار والاستكبار . ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } الممتثلين لأوامر الله ، المجتنبين عن نواهيه الموردة في كتبه الجارية على ألسنة رسله ، الحافظين لنفوسهم عن الإفراط في الرخص والمباحات ، فيكف عن تفريط المحظورات والمحرمات ! متلذذون باللذات الروحانية { فِي جَنَّاتٍ } أي : منتزهات العلم والعين والحق { وَعُيُونٍ } [ الذاريات : 15 ] جاريات من الحكم ، والمعارف اللدنية المستخرجة من ينابيع قلوبهم ، المترشحة إليها من بحر الوجود على مقتضى الحفظ الإلهي ، حسب استعداداتهم واستفاضتهم بمقتضاها . { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ } وأعطاهم { رَبُّهُمْ } تفضلاً عليهم ، وتكريماً على وجه الرضاء بجميع ما جرى عليهم من مقتضيات قضائه { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } الفضل واللطف من النشأة الأولى { مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 16 ] الأدب مع الله ورسله ، وخُلَّص عباده العاكفين ببابهز ومن جملة إحسانهم : إنهم { كَانُواْ } في دار الابتلاء { قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] أي : يرقدون قليلاً من ساعات الليل ، وذلك أيضاً بسبب ألا يعرضهم الكلال العائق من المواظبة على الطاعات . { وَ } هم مع قلة هجوعهم ، وكثرة تهجدهم وخشوعهم { بِٱلأَسْحَارِ } المعدة للتوجه والاستغفار { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] دائماً ، كأنهم يرون أنفسهم قاصرة عن رعاية حقوق العبودية على ما ينبغي ، لذلك يبالغون في الإنابة والاستغفار . { وَ } كان { فِيۤ أَمْوَالِهِمْ } وأرزاقهم المسروقة إليهم من قبل الحق { حَقٌّ } حظ ونصيب مفروض مقدر ، يستوجبونه على أنفسهم { لَّلسَّآئِلِ } السائر في سبيل الله ، المتعرض للسؤال مقدار ما يحتاج إليه { وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] المتعفف عن ذلِّ السؤال ، المتمكن في زايوة التوكل والتفويض . ثم أشار سبحانه إلى حيطة وحدته الذاتية ، وشمولها على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس بالاستقلال والانفراد ، وسر سريان هويته الذاتية على ذرائر الكائنات ، تنبيهاً للمريد المستبصر ، وإيقاضاً لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان ، فقال : { وَفِي ٱلأَرْضِ } أي : عالم المسببات ، والاستعدادات المعبرة بالآفاق المعدة لظهور آثار القدرة الكاملة الإلهية من العجائب والغرائب ، المتفرعة على كمال العلم ، ووفور الحكمة المتقنة آيَاتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة الصانع الحكيم ، ووحدة ذاته ، واختياره في مطلق تصرفاته ، واستقلاله في حكمه ومصالحه { لِّلْمُوقِنِينَ } [ الذاريات : 20 ] المنكشفين باليقين العلمي والعيني والحق . بل { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } أيضاً أيها المستبصرون ، المستكشفون عن سرائر الألوهية وأسرار الربوبية شواهد ظاهرة تشهد على حقية الحق ، وتوحده في ظهوره ووجوده { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] أيها المجبولون على فطرة الكشف والشهود . { وَ } كذا { فِي ٱلسَّمَآءِ } أي : عالم الأسماء ، والأسباب المعبرة عنها بالأعيان الثابتة { رِزْقُكُمْ } أي : أرزاقكم الصورية والمعنوية ، المبقية لأشباحكم وأرواحكم { وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] من الآجال المقدرة ، والجزاء المترتب على الأعمال والأفعال الصادرة عن هوياتهم الباطلة في نشأتكم الأولى ، وحالاتكم الواقعة فيها . ثم أقسم سبحانه تأكيداً لما أومأ ، فقال : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي : وحق موجدهما ، ومربيهما على هذا النمط البديع والنظم الغريب { إِنَّهُ } أي : ما يستدل بإيجادهما ، وإظهارهما على وجوده سبحانه وكمال قدرته ، ووفور حكمته ، ومتانة حكمه { لَحَقٌّ } ثابت محقق حقيق بالحقية ، وحيد بالقيومية ، فريد بالديمومية ، لا يعرضها زمان ، ولا يعتريها كلال . وهو في حقيته وتحققه { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] أي : كمال لا شبهة لكم في تنطقكم ، وتلفظكم بالكمالات المنطوقة ، كذلك لا شبهة في حقية الحق وظهوره ، بل هو أظهر من كل شيء ظاهر ، وأجلى من كل جلي ، بل الكل إنما يظهر به وبظهوره ، إلا إنكم بغيوم تعيناتكم الباطلة وظلام هوياتكم العاطلة ، تسترون شمس الحق الظاهر في الآفاق بكمال الكرامة والاستحقاق . ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم الخليل ، المتحقق بمقام الكشف والشهود ، النازلة من عنده سبحانه من كمال المحبة والإخلاص والخلة والاختصاص مع ضيفه من الملائكة المكرمين ، فقال مستفهماً لحبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل العبرة والتذكير { هَلْ أَتَاكَ } وصل إليكم يا أكمل الرسل { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } وقصة إلمام الملائكة نزولهم عنده على صورة الأضياف { ٱلْمُكْرَمِينَ } [ الذاريات : 24 ] لكرامتهم ، وحسن صورتهم وسيرتهم . ومن كمال كرامتهم ونجابتهم : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } وحضروا عند بلا استئذان { فَقَالُواْ } ترحيباً وتكريماً : { سَلاَماً } أي : نسلم سلاماً عليك { قَالَ } إبراهيم عليه السلام في جوابهم ظهاراً ، وإن أنكر عليهم خفية بدخولهم بلا استئذان : { سَلاَمٌ } عليكم ، عدل إلى الرفع لقصد الدوام والثبات ؛ ليكون رده أكمل من تسليمهم ، وهو عليه السلام ، وإن بادر إلى رد تسليمهم ، إلا أنه أضمر في نفسه الإنكار عليهم ، فقال في سره : هؤلاء { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] لا أعرف نفوسهم ولا أمرهم . { فَرَاغَ } أي : عدل ، مال عنهم فجأة خفية منهم { إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] إذ كان أغلب مواشيه البقر ، فذبحه وطبخه { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } نزلاً ، فأبوا عن أكله ، فعرض عليهم ، وحثهم على الأكل كما هو عادة أرباب الضيافة ؛ حيث { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } [ الذاريات : 27 ] منه ، فلم يأكلوا بعد العرض والإذن أيضاً . ثم لما رأى منهم ما رأى من الامتناع عن طعامه { فَأَوْجَسَ } وأضمر الخليل في نفسه { مِنْهُمْ خِيفَةً } خوفاً ورعباً منه ، ظناً منه أنه إنما امتنعوا من طعامه ، ليقصدوا له سوءاً ، ثم لما تحسسوا منه ما تحسسوا من الرعب المفرط { قَالُواْ } له إزالةً لرعبه : { لاَ تَخَفْ } منَّا ، ولا تحزن عن امتناعنا من الأكل ، إنا لسنا ببشر ، بل نحن ملائكة منزهون عن الأكل ، مرسلون من عند ركم لأمر عظيم . قيل : مسح جبريل العجل المشوي فحيي ، فقام يدرج ويدب حتى لحق بأمه ، وبعدما رأى منهم إبراهيم ما رأى ، وسمع ما سمع ، أمن منهم { وَ } بعدما أمنوه وأزالوا رعبه { بَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ } إذ لم يكن له ابن يخلف عنه ، وكانت امرأته عجوز عقيمة { عَلِيمٍ } [ الذاريات : 28 ] في كمال الرشد والفطنة ، وهو إسحاق عليه السلام . وبعدما سمع إبراهيم منهم البشرى أخبر به امرأته ، ثم لما سمعت ما سمعت استحالت واستبعدت { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ } سارة إليهم { فِي صَرَّةٍ } صرير وضجة { فَصَكَّتْ } ولطمت { وَجْهَهَا } بأطراف أصابعها { وَقَالَتْ } مشتبكة : أنا { عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ] عاقر ، كيف ألد ابناً سيما بعد انقضاء أوانه وانصرام زمانه ؟ ! ثم لما شاهدوا منها ما شاهدوا { قَالُواْ } لها : { كَذَلِكِ } أي : مثل ذلك الذي نخبرك ونبشرك { قَالَ رَبُّكِ } وما علينا إلا البلاغ ، والأمر بيد الله { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ } في عموم أفعاله وآثاره { ٱلْعَلِيمُ } [ الذاريات : 30 ] بمطلق تدابيره وتقاديره .