Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 45-55)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ومن كماب بطرهم وغرورهم يقولون هذا ، ولم يعلموا أنه { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ } أي : يفرق جنس الجموع على وجه الهزيمة { وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] أي : ينصرف كلٌّ منهم عن عدوه مستدبراً إياه في الدنيا . { بَلِ ٱلسَّاعَةُ } الموعودة { مَوْعِدُهُمْ } العظيم ؛ لتعذيبهم وتفضيحهم الحقيقي الأصلي ، المعنوي والصوري ، وما عرض عليهم في الدنيا ، فمن مقدمات ما سيلحقهم من العقبى { وَ } بالجملة : { ٱلسَّاعَةُ } والعذاب الموعود فيها ، والساعة { أَدْهَىٰ } أشد وأفظع ، ودواهيها لا دواء لها ، ولا نجاة منها { وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] مذاقاً من عذاب الدنيا ، بل بأضعافه وآلافه . وبالجملة : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية ، وعن متقضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده { فِي ضَلاَلٍ } عن الحق وأهله في العاجل { وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] نيران مسعرة لهم ، معدَّة لهم في الآجل . اذكر لهم يا أكمل الرسل { يَوْمَ يُسْحَبُونَ } ويجرون { فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } صاغرين مهانين ، فيقال لهم حينئذٍ : { ذُوقُواْ } أيها المسرفون المفسدون { مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] أي : مساس جهنم ، وشدة حرها وحرقها ، بدل ما يتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية ، وشهواتها البهية البهيمية . وكيف لا نُدخل المجرمين في دار القطيعة ، ولا نسحبهم نحوها مهانين ، فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا وأوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة ؟ ! { إِنَّا } بمقتضى كمال علمنا ، وشمول قدرتنا وإرادتنا المقتضية للحكم والمصالح ، خلقنا وأظهرنا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } وأظهرناه من كتم العدو مقروناً { بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] أي : بمقدار نقدره في حضرة علمنا ، ولوح قضائنا ، ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق ، فنظهره على وفقه . { وَ } تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا ، وقدرتنا الكاملة ، تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات ، وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا ؛ إذ { مَآ أَمْرُنَآ } وحكمنا الصادر المبرم منا في السرعة والمضاء ، بالنسبة إلى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الأزمة والآناء ، بل بالنسبة إلى جميع الخواطر والخواطف الواردة على القلوب ، وإلى جميع الاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات ، بل بالنسبة إلى ما في الاستعدادات والقابليات { إِلاَّ } فعلة { وَاحِدَةٌ } بلا ترتب وتراخ ، وتوقف ومهلة { كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : كنظرة سريعة بالطرف ، هيهات هيهات ، والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي إلاَّ بحسب أحلام الأنام ، وبمقتضى أفهامهم وأوهامهم السخيفة ، وإلاَّ فلا يكتنه سرعة قضائه أصلاً ، حتى يمثل ويشبه . ثمَّ قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد : وكيف لا تخافون أيها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ } واستأصلنا { أَشْيَاعَكُمْ } أشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد ، وأنواع الفسوق والفساد ، بأصناف العقوبات والبليات الهائلة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 51 ] متذك ، يتعظ بأهلاكهم وبما جرى عليهم من الشدائد ؟ ! { وَ } كما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الأولى كذلك ، بل بأضعافها وآلافها ، نعذبهم في النشأة الأخرى أيضاً بها ؛ إذ { كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ } فيما مضى ، وصدر عنهم في النشأة الأولى محفوظ مثبت { فِي ٱلزُّبُرِ } [ القمر : 52 ] أي : في مكاتب الحفظة المراقبين عليهم في عموم أحوالهم وأطوارهم . { وَ } كيف لا يحفظ ؛ إذ { كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } وقليل وكثير على التفصيل { مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] مسطور على التفصيل في اللوح المحفوظ أولاً ، وفي صحائف أعمالهم ثانياً ، وبالجملة : لا يعزب عن حيطة علمه شيء من أعمالهم وأقوالهم ، وأطوارهم وأحوالهم مطلقاً . ثمَّ عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين ، فقال : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } المتحفظين نفوسهم عن المحرمات والمنهيات ، متنعمون { فِي جَنَّاتٍ } متنزهات العلم والعين والحق { وَنَهَرٍ } [ القمر : 54 ] جداول جاريات ، منتشئات من بحر الحياة اللدنية المتجددة حسب تجددات دار التجليات الإلهية ، متمكنون { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } هو مقام التسليم والرضا بمقتضيات القضاء { عِندَ مَلِيكٍ } يملكهم ويتكفل بأمورهم ، وجميع حوائجهم { مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] على تدابيرها بمقتضى الحكمة المتقنة . جعلنا الله من زمرة المتقين ، المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر ، العليم الحكيم . خاتمة السورة عليك أيها المريد القاصد للتمكن في مقعد الصدق ، والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي - وفقك الله الوصول إلى غاية مقصدك ومرامك - أن تنقي نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات ، المنافية لسلوك طريق الحق والتوحيد من الرياء والرعونات ، المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولي المتفرعة على التعينات العدمية ، المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية ، وتلازم العزلة والفرار عن الدنيا الدنيَّة وأمانيها مطلقاً ، وتقنع منها بضروراتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد ، حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر ، موحد في الوجود والقيومية . ثبتنا بلطفك على نهج اليقين والتمكين ، وجنبنا بجودك عن أمارات التخمين والتلوين ، يا ذا القوة المتين .