Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 38-52)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبعدما شرع سبحانه من أحوال يوم القيامة وأهوالها وأفزاعها ، وما جرى فيها من الوعيدات الهائلة ، والمصيبات الشديدة الشاملة ، فرَّع عليه قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : لا حاجة في إثبات ما ثبت ، وتبيين ما بيّن بالقسم { بِمَا تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 ] من المظاهر والمجالي . { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 39 ] منها من المقسمات التي نُطلع أحداً عليها ، فعليم أيها المكلفون أن تتوجهوا إلى القرآن المنزل عليكم على سبيل التبيان والبيان فتعتقدوا جميع ما فيه حقاً صدقاً ، وتمتثلوا بأوامره ، وتجتنبوا عن نواهيه . { إِنَّهُ } أي : القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 40 ] نفسه ، لا يتأتى منه المراء والافتراء على الله ؛ إذ هو منزه عن أمثال هذه الرذائل المنافية لمنصب الرسالة التي هي مرتبة الخلافة والنيابة عن المرسِل الكريم . { وَمَا هُوَ } أي : القرآن { بِقَوْلِ شَاعِرٍ } كما يقوله في حقه بعض الكفرة الجاهلين بقدره وشأنه ، لكن { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } [ الحاقة : 41 ] بصدقه وحقيته ؛ لفرط عنادكم واستنكاركم . { وَلاَ } هو { بِقَوْلِ كَاهِنٍ } كما زعم بعضهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كاهن ، لكن { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الحاقة : 42 ] وتتعظون أن ما فيه ليس من جنس كلام الكهنة ، لا لفظاً ولا معنى ؛ إذ ما في القرآن من السرائر والأحكام ، مشعرة بالحكمة المتقنة الإلهية التي هي بمراحل عن أحلام الكهنة المنحرفين عن جادة التوحيد والإسلام . بل هو { تَنزِيلٌ } صادر ناشئ { مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الحاقة : 43 ] لتربية الكل على مقتضى الحكمة ؛ ليستعدوا إلى فيضان التوحيد واليقين . { وَلَوْ تَقَوَّلَ } أي : اختلق وافترى { عَلَيْنَا } محمد { بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } [ الحاقة : 44 ] من تلقاء نفسه بلا ومحي منَّا . { لأَخَذْنَا } ألبتة وانتقمنا { مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } [ الحاقة : 45 ] أي : بالقدرة الكاملة ، كما ننتقم من سائر العصاة والمفترين . { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ } زجراً عليه ، وتعذيباً له { ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 46 ] أي : نياط قلبه الذي منه عموم إدراكاته . { فَمَا مِنكُمْ } أيها المكلفون { مِّنْ أَحَدٍ } حينئذٍ { عَنْهُ } أي : عن أخذه وعذابه { حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] مانعين ، يمنعوننا عن بطشه وتعذيبه ؛ يعني : إن محمدً صلى الله عليه وسلم لا يفتري علينا شيئاً لأجلكم أيها الكافرون ، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم منَّا أنه لو افترى علينا شيئاً من تلقاء نفسه ، ونسبه إلينا ظلماً وزوراً لعذبناه عذاباً شديداً ، بحيث لا يقدر أحد أن يدفع عذابنا عنه . { وَ } بالجملة : { إِنَّهُ } أي : القرآن { لَتَذْكِرَةٌ } صادرة منَّا ، متعلقة { لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] المتحفظين أنفسهم عن مقتضيات قهرنا وجلالنا . { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ } بمقتضى علمنا الحضوري { أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } [ الحاقة : 49 ] أيها الكافرون المفترون ، فنجازيكم على مقتضى تكذيبكم . { وَإِنَّهُ } أي : القرآن { لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الحاقة : 50 ] في الدنيا والآخرة ، يتحسرون في الدنيا من نزوله على المؤمنين وإن كانوا لا يظهرون ، ويتحسرون أيضاً في الآخرة بترتب الثواب على من صدقه وآمن به ، وهم حينئذٍ يتحسرون ويتندمون على عدم الإيمان والتصديق به . { وَ } بالجملة : { إِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الحاقة : 51 ] إلى من وصل إلى مرتبة اليقين الحقي ، مترقياً من اليقين العلمي والعيني . { فَسَبِّحْ } يا أكمل الرسل من وصل بمرتبة حق اليقين { بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الحاقة : 52 ] الذي ربَّاك على الخلق العظيم ، وأوصلك إلى روضة الرضا وجنة التسليم بلطفه العميم . خاتمة السورة عليك أيها الموحد المحمدي ، المتحقق بمرتبة حق اليقين - مكَّنك الله علهيا بلا تذبذب تلوين - أن تتأمل في مرموزات القرآن ، وتتدبر في كشف السرائر المودعة فيه بقلب خالٍ عن مطلق الوساوس والأوهام ، صافٍ عن الكدورات الحاصلة من تقليدات ذوي الأحلام الخائضين فيه بمقتضى الآراء والأفهام الركيكة بلا تأييد من جانب الحكيم العلام ، فلك أن تتوجه إليه بقلب حاضر غائب فارغ عن عموم الأشغال ، مائل عن مطلق الزيغ والضلال الواقع فيه من أصحاب الظواهر القانعين منه بالقيل والقال بحسب تفاهم عرفهم . وإياك إياك أن تكتفي بمجرد منطوقات الألفاظ ، وتقتصر عليها بلا خوض في تيار بحاره الزخارات التي هي مملوءة بدرر المعارف والحقائق الموصلة إلى مرتبة حق اليقين . وإذا خضت وغصت فيه على الفرصة المذكورة ، واستخرجت من درر فوائده بقدر حوصلتك واستعدادك ، حق لك أن تقول حينئذٍ : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الحاقة : 51 ] وأن تكون مرجعاً للخطاب الإلهي بقوله : { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الحاقة : 52 ] .