Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 113-118)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر تعالى عن بطلان دعوى اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بقوله تعالى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [ البقرة : 113 ] ، والإشارة فيها أن أكثر الحسد والحقد والتباغض يكون بين جهال العلماء الذين مقصدهم في تعلم المباحات مع السفهاء والمحاربات مع العلماء وطلب الرئاسة وقبول الخلق وجمع المال ، فإذا ناظر بعضهم قال هذا لصاحبه : ما أنت على شيء ، وقال هذا لصاحبه : ما أنت على شيء ، كما جرت العادة بين سفهاء الفرق وطعن كل واحد منهم مذهب الآخر بالجهل والتعصب حتى يكفر بعضهم بعضاً { وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } [ البقرة : 113 ] ، القرآن ويدعون العلماء { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 113 ] ، العلم والدين والقرآن من الزنادقة والفلاسفة وأهل الملل والكفرة { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } [ البقرة : 113 ] ، للمسلمين ما أنتم على شيء { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ } [ البقرة : 113 ] ، بين المسلمين من أهل السنة والجماعة وبين أهل البدعة والأهواء المختلفة { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 113 ] ، يوم قيامة الحق { فِيمَا كَانُواْ } [ البقرة : 113 ] ، من الحق { فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ البقرة : 113 ] ، بالباطل . ثم أخبر تعالى عن الظلم المركوز في طبيعة الإنسان بقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 114 ] ، الآيتين والإشارة فيهما : أن - عند أهل النظر - مساجد الله التي يذكر فيها اسمه : النفس والقلب والروح والسر والخفي وهو سر السر وذكر مسجد منها مناسب لذلك . فذكر مسجد النفس : الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات ، وملازمة السيئات . وذكر مسجد القلب : التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه التمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله تعالى لداود عليه السلام : " حذر وأنذر قومك من أكل الشهوات فإن قلوب أهل الشهوات عني محجوبة " . وذكر مسجد الروح : والشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمساكنات . وذكر مسجد السر : المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه الركون إلى الكرامات والقربات . وذكر مسجد الخفي : بذل الوجود وترك الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 114 ] ، هذه المساجد { أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } [ البقرة : 114 ] ، اسم الله بهذه الأذكار ومن أقدم على هذا المنع فقد { وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ } [ البقرة : 114 ] ، أي : خرب هذه المساجد { أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [ البقرة : 114 ] ، هذه المساجد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب { لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } [ البقرة : 114 ] ، من ذل الحجاب { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ البقرة : 114 ] ، لحرمانهم عن جوار الله العلي العظيم . ثم أخبر عن فتحه ملكه وسعة فضله بقوله تعالى : { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [ البقرة : 115 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى منزه عن الجهات ، فالشرق والغرب بالنسبة إلى حضرته متساويان إذ ليس الاعتبار بتوجه الصورة إلى جهة من الجهات ، وأن تعين جهة الكعبة لجمع همم القلب وبقوة التوهم فللوهم في جمعية القلب حالة التوجه أثر عظيم ، وإنما الاعتبار لتوجه القلب بجمع الهمم إلى الله تعالى فلكل قلب وجهة هو موليها فإذا خص توجه القلب إلى الله بالإعراض عما سواه { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ } [ البقرة : 115 ] ، فضله ورحمته كل شيء لقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ فصلت : 54 ] ، { عَلِيمٌ } [ البقرة : 115 ] ، أحاط بكل شيء علمه ، وفيه إشارة أخرى إلى أن القلوب مشارق هبوب الأشواق ومغاربها والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق لظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة فإذا تجلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على مماليك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمات والضياء ، وليس عند الله صباح ولا مساء وتلاشت العبدية في كعبة العندية ونودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ورفعت القبلة وما بقي إلا الله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 115 ] ، يوسع القلب لمن يشاء من عباده ليسعه { عَلِيمٌ } يوسع القلب لسعته بلا كيف ولا حيف كما قال تعالى : " لا يسعني قلب عبدي المؤمن " . ثم أخبر عن قصر نظر أهل الشرك بقوله تعالى : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ } [ البقرة : 116 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى أظهر مما قالوا غاية ظلومية الإنسان وجهوليته كما قال تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] ، وأظهر كمال حلمه إذ لم ينتقم في الحال كما قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [ النحل : 61 ] ، وفي قوله : { سُبْحَـٰنَهُ } سبعة معان : أولها : التنزيه ؛ نزه ذاته من تهمة الولد كما نزه عن عائشة رضي الله عنها عن تهمة الإفك بقوله : { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] . وثانيها : التعجب ؛ تعجب به العباد كيف يتخذ الله الولد وله ما في السماوات عبيد ملكه ، وكيف يقول مثل هذا القول مخلوق في حق خالقه ، وكيف يحلم عنهم ويمهلهم في مكانهم كقوله تعالى : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } [ آل عمران : 191 ] ، وقال تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] . والثالث : التسخير أي : يسخر له ما في السماوات والأرض وسخرهما لعبيده ، كما قال تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا } [ الزخرف : 13 ] . ورابعها : الخلق أي : من خلق السماوات والأرض وما فيهن كقوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } [ يس : 36 ] . وخامسها : القدرة ، كقوله تعالى : من بيده ملكوت السماوات والأرض ، وما فيهن الإبقاء والإفناء ما ينبغي له أن يتخذ ولداً كقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] . وسادسها : التوبة أي : سبح لله ذرات الملكوتيات توبة واستغفار بلسان الحال ، عما قال بعضها بلسان القال : اتخذ الله ولداً بقوله تعالى : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الحديد : 1 ] أي : هو أعز من أن يتخذ ولداً حكيم بأن لا يفعل مثل هذا ، كما قال تعالى : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] . وسابعها : الدعاء أي : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، ودعاء وتضرعاً وابتهالاً وتخشعاً واعتذاراً وتواضعاً وانكساراً واعترافاً بظلم من قال هذا القول على أنفسهم ، ولولا تضرعهم ودعائهم تكاد السماوات تتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولداً ، كما قال تعالى في حق يونس عليه السلام : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 - 144 ] أي : من الداعين وكان من دعائه قوله تعالى : { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، فكذلك قوله تعالى : { بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] أي : كل ذرة من ذراتها وإعواز بقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . ثم أخبر عن كمال تنزيهه وقدرته بقوله تعالى : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 117 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى نزه ، ذاته أن يكون له ولد باسمه البديع عند أهل الحقيقة من لا مثل له ولا شبيه له يقال : هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل ، فالله ولي الموجودات بهذا الوصف ؛ لأنه يمنع أن يكون له مثل أزلاً وأبداً وولد الشيء يكون مثله وشبهه ، فلهذا قال تعالى في موضع آخر : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] يعني : لو كان له ولد لما كان بديعاً إذا كان له شبيه ، ولهذا نفى الكفر عن أحديته عند تنزيه ذاته تعالى عن الولد والوالد وقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3 - 4 ] ، وقال تعالى : تأكيداً لمعنى القدرة { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] ، معناه الولادات تكون بامتداد الزمان والزمان عبارة عن نقل حركات الفلك ، والأفلاك من جملة مخترعاته إذ هو { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } ، أراد خلق شيء وإيجاده { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] ، بكلام قديم { كُنْ } وهو أمر قديم فيه تتعلق القدرة القديمة وفق الإرادة القديمة بالشيء المحدث فيوجد بالصفة المخصوصة في الوقت المعلوم ، فيكون كما أراد ، فأنى حاجته بالولادة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً . ثم أخبر عن جهل أهل العناد بقوله تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [ البقرة : 118 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن الذين لا يعلمون أن الله متكلم من الأزل إلى الأبد بكلام قديم واحد ، وكلامه متعلق بجميع المكونات أمر التكوين ، وهو خطاب { كُنْ } فأسمع السماوات والأرض خطابه : أئتيا طوعاً أو كرهاً ، فسمعت ، وقالت أتينا طائعين ويرى سائر المكلفين أمر التكليف ، فقالوا : { لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } [ البقرة : 118 ] ، وما علموا أن الله يكلمهم على الدوام ، ولكن لهم آذان لا يسمعون بها ، وإنهم عن السمع لمعزولون ، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم كما أسمع قوماً أخبر عنهم ، كما أخبر عنهم { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، فالسمع الحقيقي يزيد معرفة القلب وكل قلب يكون حيا بحياة معرفة الحق يسمع كلام الحق وللقلوب الميتة قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [ النمل : 80 ] ، ولو أسمعهم خطابه بسمع الظاهر وقلوبهم ميتة لتولوا عنه وعنهم معرضون ، كما أسمع نفراً من قوم موسى عليه السلام خطابه فلم يطيقوا سماعه بعدما رأوا من عظيم الآيات وأن الله أماتهم ثم أحياهم حرفوا وبدلوا فما تغني الدلائل ، وإن وضحت فيمن حقت له الشقاوة وسبقت الموتى مثل هؤلاء أشار بقوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] ، في الموت من حياة المعرفة . وقال تعالى في حق من أحيى قلبه بحياة المعرفة { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ } [ الأنعام : 122 ] ، وإليهم أشار بقوله تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ البقر ة : 118 ] ، فإن في الآيات التي أظهرها وأراها قلوب الأحياء من عباده كقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ } [ فصلت : 53 ] ، ما يزيح العلة من الأغيار ويشفي الغلة من الأخيار ولكن { لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] .