Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 143-148)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن كمال فضله مع هذه الأمة وحكمة تحويل القبلة بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى جعل بمحض العناية والكرم هذه الأمة وسطاً عند الأمم وجعل في هذه الأمة هذه الطائفة بهم يمطرون وبهم يرزقون وهم القطب ، وعليهم المركز وبهم حفظ الله جميع الأقطار فمن قبلته قلوبهم فهو المقبول المقبل ومن ردته قلوبهم فهو المدبر المردود ؛ لأنهم شهود الحق يشاهدون وينظرونه به ويبصرون ويطالعون ولهذا قال : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، فكما أن للرسول صلى الله عليه وسلم مقاماً أعلى من مقاماتهم وشهوداً فوق شهادتهم ، فيكون شهيداً عليهم فكذلك لهم مقام أعلى من مقامات الناس فيكونون مشرفين على سرائرهم مطلعين على ما في ضمائرهم من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان فيشهدون عليهم ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم شهداء الله في أرضه " وقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، فلا يخفى أن هذا من سيرة القوم وإن كانوا أغرب من عنقاء مغرب اليوم ، ولما أراد الله أن يميز بين المحق الموافق وبين المقلد المنافق حكم في أمر القبلة بالتحويل ليكبر على من نظر بعين التفرقة حكم التبديل ، كقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } [ البقرة : 143 ] ، ومن نظر بعين الحقيقة فيهديه الله للتسليم في العبودية فيستسلم لأحكام الربوبية ، ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي : من كان لله بجميع أوصافه كان الله له بجميع ألطافه : { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] ، من قرع باب رأفته فتح الله له أبواب رحمته . ثم أخبر عن علة تحويل القبلة بقوله تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 144 ] ، والإِشارة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم من مكان تأدبه بآداب أدبه ربه بها لم يكن يظهر مع الله سؤاله ، ولا يستدعي باللسان مأموله رعاية الآداب القربة ؛ إذ أوحى الله تعالى إليه : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق مسألة السائلين " ومن كون نفقته على هذه الأمة كان يدخر دعوته المستجابة : " فدعا كل نبي دعوته وادخرت دعوتي شفاعة لأمتي " ، فلما قدر الله تعالى شرف الكعبة أن تكون قبلته وقبلة أمته ، فانعكس مسطور الكتاب من الكعبة في مرآة قلب النبي صلى الله عليه وسلم فظهر فيه داعية استقبال القبلة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وكان تقلب قلبه إلى الله تعالى وتقلب وجهه إلى السماء لأنه كان قمر جبريل عليه السلام ، فقال تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] ، فالحبيب يترك سؤاله بطلب رضائه والرب يطلب رضاء رسوله بإنجاز مأموله { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 144 ] ، يعني ول قلبك رب المسجد الحرام بقلب الوجه إلى المسجد الحرام . { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ } [ البقرة : 144 ] ، أي : وجوه قلوبكم { شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] أي : إلى الله إن كنتم في البيوت أو في المساجد { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [ البقرة : 144 ] ، من أهل العلوم الظاهرة { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 144 ] ، علماً لا ينتفعون به ليكون حجة لهم بل حجة عليهم { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [ البقرة : 144 ] ، تأييداً للأولياء وتهويلاً للأعداء . ثم أخبر عن ثبات الأعداء على قدم الكفر وثبات الأولياء على قدم الإيمان بقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } [ البقرة : 145 ] ، والإشارة فيها أن الحكم السابق الأزلي سبق للأولياء بالقبول والإيمان وللأعداء بالرد والخذلان وبينهما برزخ لا يبغيان ، ولئن أتيت يا محمد أهل الخذلان بكل آية { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } [ البقرة : 145 ] ، ولا يزيدهم إلا الطغيان { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [ البقرة : 145 ] ، لأنك على بصيرة وهم عميان ، { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } [ البقرة : 145 ] ، وإن كانوا كلهم أهل الأهواء لأنهم مختلفون الآراء { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 145 ] ، معناه أن أتباع أهل الأهواء ممن سبقت لهم العناية الأزلية وهو عالم بها ظلم وعدوان ، وهذا من شيم أرباب الخسران والضدان لا يجتمعان . ثم أخبر عن معرفتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجحود بعضهم بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } [ البقرة : 146 ] أي : أعطيناهم الكتاب دراية وفهماً ، { يَعْرِفُونَهُ } [ البقرة : 146 ] ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم بنور فهم الكتاب بقوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] ، { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، بنور الحس ونور الباطن أقوى من المعرفة من النور الظاهر فمن كان مصباح قلبه منوراً بنور الكتاب ، والإيمان إذا نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم والولي يعرفهم بسيماهم . كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } [ البقرة : 273 ] ، كما كان حال عبد الله ابن سلام رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونظرت إلى وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، المعرفة ما عرفوه حق معرفته وجحدوا به لقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] ، ثم قال : فأنت بتحقيق الحق { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [ الأنعام : 114 ] ، بعدما حق الحق { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [ الأنعام : 114 ] ، في حق حقه ولا في حق نفسك تفهم هذه الدقيقة إن شاء الله تعالى . ثم أخبر أن لكل أهل ملة قبلة بقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [ البقرة : 148 ] ، والإشارة فيها بمعنيين : أحدهما : إن لكل شخص على حدة قبلة مناسبة لاستعداد جبل هو عليها موليها ، هذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . وثانيهما : إن لكل شيء من الإنسان قبلة هو موليها إن وكل إليه فقبلة البدن هي بالتلذذ بالحواس الخمس من المأكول والمشروب والمشموم والمسموع والمبصر والملموس والمركوب والمنكوح وأمثاله ، وقبلة النفس هي الدنيا وزينتها ورفعتها والحرص في جمعها والتفاخر بها والتكبر لها وأشباه ذلك ، وقبلة القلب هي الآخرة ونعيمها ودرجاتها وأنواع التمتعات بها ، وقبلة الروح هي القربة والزلفة والشوق والمحبة وما هو من هذا القبيل ، وقبلة السر التوحيد والمعرفة وكشف العلوم والمعاني والأسرار ، وما يناسب ذلك ولو وكل واحد من هؤلاء إليه حتى أقبل البدن إلى قبلته وأقبلت النفس إلى قبلتها فكانا يزاحمان القلب والروح والسر في إقبالهم إلى قبلتيهم ويشغلانهم عن ذلك ، وما صح لهم أن يقبلوا على قبلتهم بل يحولانهم إلى قبلتهما ويسبقا بهم ، فلما وكلهم الله إليهم أمروا جميعاً أن يخرجوا من طباعهم وأهوائهم ويطيعوا ربهم في إقبالهم إلى القبلة بأمره فاستبقوا الخيرات . { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } [ البقرة : 148 ] ، فجعل قبلة البدن الكعبة ، وقبلة النفس الطاعة والعبودية وترك الهوى ، وقبلة الهوى وقبلة القلب الصدق والإخلاص والإيمان والإيقان والإحسان ، وقبلة الروح التسليم والرضاء والصبر على مر القضاء ، وقبلة السر الفناء في الله والبقاء بالله والكينونة مع الله على ما أراد الله بلا إعراض ولا اعتراض وأشار بقوله { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } على أنكم إذا شرعتم بشرط العبودية في الطاعة فيما لكم به قدرة واستطاعة من { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } بجذبات الألوهية إلى أينما لم تكونوا بالله { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 148 ] ، من أشياء الإنسان { قَدِيرٌ } [ البقرة : 148 ] ، أن يفنيه به ، فافهم جدّاً .