Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 155-160)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ } [ البقرة : 155 ] ، إلى { هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 157 ] والإشارة فيها أن البلاء والابتلاء من الله تعالى لاستخراج جواهر الأخلاق الإنسانية من معادنها ؛ لأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة بيانه قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] ، والأعمال من نتائج أخلاق النفس ، فالسنة في استخراج جواهر الشكر الابتلاء بالنعمة كما كان لسليمان عليه السلام فأخرج منه بها الشكر وقال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] ، والسنة في استخراج جواهر الصبر البلاء بالمحبة ، كما كان لأيوب عليه السلام فأخرج منه بها الصبر وقال تعالى : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ ص : 44 ] ، فيبتلي الرجل على حسب دينه فمنهم من يبتليهم الله بالخوف ، وقال : { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } يعني ببعضه والسر فيه أن يكون البلاء لأهل العناية بقدر فوته ، واستطاعته في النعمة والمحبة يستخرج منه الشكر والصبر ، وهما جوهران من معادن الروحانية ولو زاد على قدرة القوة والاستطاعة في النعمة والمحنة ما يخرج إلا ضد الشكر والصبر ، وهما الكفران والجزع وهما جوهران من معادن النفسانيات لأهل الرد . ولهذا قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] أي : بقدر قدرة أهل القبول والعناية وعدم قوة أهل الرد والسخط ، ومنهم من يبتليهم الله بالجوع { وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 155 ] ، أو ببعض دون بعض من هذه الجملة أو بمجموعها ، ثم قال : { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] ، بشارة في الحال ، أما في الحال فبشر الصابرين على الخوف بالتوكل واليقين والشجاعة ، وعلى الجوع بتزكية النفس وتنقية القلب وتصفية الروح وتحلية السر ، وعلى نقص الأموال بدفع الحرص والغفلة ، وإزالة حب الدنيا فإنه رأس كل خطيئة ، وحصول القناعة وهي كنز لا يفنى ومال لا ينفد وشعار الصالحين ، وهو العضد وعلى نقصان الأنفس إن كان بالمرض بكفارة الذنوب ، وإن كان بموت الأقرباء بقطع التعلقات والتجرد عن العلائق ، وعلى آفة الثمرات بالخلف من الله تعالى في الحال ، وأما في الحال فبشره بالنجاة من العذاب والدرجات والثواب بغير حساب كقوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] ، وفيه معنى آخر في غاية اللطافة وهو بشر الصابرين بأني لهم معهم في كل حال من حالات الصبر وتصبرهم على المصائب وتخلقهم بخلق من أخلاقه ، وهو الصبر ولو لم يكن معهم باللطف والعناية لما قدروا على الصبر يدل على هذا قوله تعالى : { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] ، وقال تعالى : { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [ النحل : 127 ] ، والصبر هاهنا محمول على ثلاثة أوجه : صبر بالأمر ، وصبر بالاختيار ، وصبر الاضطرار . أما الصبر بالأمر : ففي الآية إضمار بقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } [ البقرة : 155 ] يعني : ولنبلونكم بأوامر هذه الأشياء ، فالأمر بالخوف كقوله تعالى : { وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] ، والأمر بالجوع بصيام شهر رمضان ، والأمر بنقصان المال بأداء الزكاة ، والأنفس بالجهاد في سبيل الله ، والثمرات بأداء العشر منها . وأما الصبر بالاختيار : ففي قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } [ البقرة : 155 ] ، إشارة إلى أنا نخبركم هل تختارون { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } [ البقرة : 155 ] ، الخوف بأن يخافوا من الله ويفروا منه إليه ، والجوع فتجوعون تقرباً إلى الله تعالى ، كما كان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم : " أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك وصبرت ، وإذا شبعت ذكرتك وشكرتك " ونقص من الأموال فتخرجون عنها بتركها والإنفاق في سبيل الله ، والأنفس فبذل الروح في طلب الحق ، والثمرات فبالغذاء في طريق الحق كل ثمرة أثمرته شجر الوجود حتى الولد كما كان حال الخليل عليه السلام في صحيح مقام الخلة ببذل المال والنفس والولد . وأما الصبر بالاضطرار : وهو الصبر على المصائب التي تقع من غير الاختيار كما سبق ذكره . ثم نعت الصابرين بقوله : { إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } [ البقرة : 156 ] يعني : بالأمر أو بالاختيار أو بالاضطرار ، كما ذكرنا { قَالُواْ إِنَّا للَّهِ } [ البقرة : 156 ] أي : ليس لنا وجود حقيقي تملكه بل وجودنا مجازي ، وله مالك له الوجود الحقيقي { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ، ببذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي في مقام العندية ، فيخرج من عندنا ببذل ما عندنا ؛ ليدخلنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فإن ما عندنا ينفد وما عند الله باق { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } [ البقرة : 157 ] ، جذبات { مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 157 ] ، المفلحون بجذبات الحق إلى مقام العندية والتخلق بخلق من الأخلاق ، وهو الصبر وهو الذي يشير به الصابرون بقوله تعالى : { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] أعني : صلوات بجذبات الحق والاهتداء بها إلى مقام العندية . ثم أخبر عن شعائر الله بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى شعائر الظاهر دالة على شعائر الباطن ؛ لتستدل العبد بإقامة مراسم شعائر الله في الظاهر بالصفاء والمروة من شعائر الله في الباطن ، فالصفا السر والمروة الروح ، وللسالك بينهما سعي فساعة يسعى صفاء السر بقطع التعلقات عن الكونين ، والتفرد عن التقلين تبتلاً إلى الله تعالى لقوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] ، وساعة ليسعى في مروة الروح وهي إيصال الخير إلى جميع الأجزاء الإنسانية من الداخلية والخارجية ، الباطنية والظاهرية بمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر في الطاعة ، وتقديم الخيرات إلى نفسه وأهله وعياله والعالمين بأسرهم ، والإشارة في سبع مراتب أن لظاهر الإنسان سبعة أركان ولباطنه سبعة أطوار ، فكذلك العالم سبعة أقاليم { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ } [ البقرة : 158 ] ، بيت القلب في طلب الرب { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 158 ] ، خرج { أَن يَطَّوَّفَ } [ البقرة : 158 ] ، بصفا السر فإنه تعظيم أمر الله ، ويسعى { بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] ، في مروة الروح فإن الشفقة على خلق الله يكون من شعائر الله ، ويصل بركات سعيه إلى سبعة أركانه الظاهرة ، وسبعة أطواره الباطنة ، وإلى سبعة أقاليمهم كقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] ، وأن سعيه سوف يرى ، ولهذا قال تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } [ البقرة : 158 ] يعني : في حق نفسه أو حق غيره { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ } [ البقرة : 158 ] ، يأخذ الواحد من الأعمال الفانية ، ويعطي العشر إلى سبع مائة ضعف إلى ما لا يرى من الحسنات الباقية ، بل يأخذ الوجود المجازي ويعطي الوجود الحقيقي { عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] ، بنيات العباد في تقربهم إليه ، فيقرب إليهم بقدر صفاتهم في الطاعات ، ومردتهم في الخيرات ، كقوله تعالى في الحديث الرباني : " من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته أهرول " ، وهذا من حقيقة صفة الشكورية ، ومن كمال رأفته وغاية عاطفته مع أهل محبته وصفوته إن آثار أقدامهم وساعات أيامهم أشرف الأمكنة وأعز الأزمنة ، فتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار ، وإلى تلك المشاهد والأطلال تشد الرواحل والرحال ، كما قال قائلهم : @ هوى أهوائها لمن قد كان ساكنها وليس في الدار لي هم ولا وطر @@ وإن لتراب أقدامهم بل لغبار آثارهم عند الأخيار أقدار عظيمة بل غبرة تبقى على حانات طريقهم عند صديقهم لأعز من المسك الأزفر ، كما قيل : وما ذاك إلا أن متت بجنابه أميمة في سرب . ثم أخبر عن خسارة أهل الخسارة في كتمان الأحكام ونعت حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وبقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 159 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن كمال ما كوشف به السالك الواصل من بينات علوم الحقائق ، وأسرار القرآن والأنوار وهداية الطريق إلى الله تعالى آداب السلوك ، ومعرفة آفات النفس وطريق الخلاص منها بتزكيتها ومعرفة المقامات والأحوال والفرق بينهما { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 159 ] ، بينه الحق بتسليكه فيه وعرفه بطريق التسليك فيها عن طلاب الحق ، وأهل الإرادة والصدق والمستعدين لقبول النصح والإرشاد مما يوجب المقت في الوقت ، ويخشى عليه عذاب ذل الحجاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم علمه الله فكتمه ألجمه بلجام من النار " . { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [ البقرة : 160 ] ، تداركوا ما سلف من تقصيرهم بحق الرجعة ، والقيام للمريدين بحق النصيحة ، والدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبينوا لهم تحميل البيان وإقامة البرهان على ما يقولون بحسن قيامهم بمعاملاتهم ، فإن أظهر الحج لسان أفعالك وأصدق الشهادة تصحيح ما تدعوا به الخلق إلى الله أن لا تخالف بمعاملتك ما تشير إليه بمقالتك قال الله تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] ، { فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 160 ] يعني : الذين تابوا وأصلحوا ما كان تؤتيهم من تلقاء أنفسهم إنما أنا أتوب عليهم ؛ لأني { وَأَنَا التَّوَّابُ } [ البقرة : 160 ] ، ولي التوبة ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات ؛ لأني { الرَّحِيمُ } [ البقرة : 160 ] ، أرحم على من أشاء من عبادي بالتوبة ، فأتوب عليهم ولولا تهديد هذه الآية ، فإن أكثر أهل التحقيق ما خلطوا الخلق وما اشتغلوا بمناصحتهم وتربيتهم وإرشادهم ، وما تكلموا على المنبر وما قعدوا على السجادة للشيخوخة فراراً عن خسة الشركاء ، واجتناباً عن مزاحمة السفهاء ، واحترازاً من معنى ، وإن كثيراً من الخلطاء ليبقى بعضهم على بعض اللهم إلا من كان منهم مأموراً ، فلا يكون معذوراً فيخالط الناس ويصبر على أذاهم تقرباً إلى مولاهم ، وعارضة وصلا تعاظمت ؛ إذ دعت وأحبت من دعاء تدعوا فاسمع .