Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 233-238)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن أوضاع الوالدات بعد حكم المطلقات بقوله تعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } [ البقرة : 233 ] ، والإشارة فيها أنها تدل من أولها إلى آخرها على أصناف ألطافه ، وأوصاف إعطائه في الآية ، ونعمائه مع عبيده ، وأمانه أنه تبارك وتعالى أرحم بهم من الوالدات الشفيقة على ولدها في الحقيقة على أن غاية الرحمة التي يضرب بها المثل رحمة الأمهات ، فالله سبحانه وتعالى أمر الأمهات بإكمال الرحمة ، وإرضاع المولدات ، وقال : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] ، وفي قطع الرضاع على المولود قبل الحولين ، إشارة إلى أن - رحمة الله - للعبد أتم من رحمة الأمهات ، ثم رحم على الأمهات المرضعات ، وقال الله تعالى : { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] ، ثم اشتملت رحمته بالعدل والنصفة على الأقرباء والضعفة فقال : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [ البقرة : 233 ] ، في الإرضاع ، وما يجب عليها من الشفقة والوالد بولده فيما يلزمه من النفقة ، ثم أن الله تعالى كما أوجب حق الولد عن الوالدين أوجب حق الوالدين على المولود ، وقال : { وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ } [ البقرة : 233 ] ، وهو المولود ؛ ثم أنه تعالى لما علم ضعف الإنسانية ، وعجز البشرية خفف عنهم ، ورخص في الفطام قبل الحولين والاسترضاع للوالدين ، وقال : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] ، بعد أن راعيتم مصلحة المولود ؛ ثم وعدوا وعد كل واحد منهم في رعاية الآخر وإهماله بقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 233 ] ، كلكم في رعاية الحقوق وإهمالها { بَصِيرٌ } [ البقرة : 233 ] ، فيجازي المحسن بالإحسان ، والمسيء بالإساءة ، وهذا أيضاً من كمال اللطف والرحمة ، واعلم أن الآية مشتملة على تمهيد قواعد الصحبة وتعظيم محاسن الأخلاق في أحكام العشرة ؛ بل أنها اشتملت على مسبوغ الرحمة ، والشفقة على البرية ، فإن من لا يرحم لا يرحم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يقبل أولاده : " إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي " . ثم أخبر عن عدة المتوفى عنها زوجها ومدتها وحكمها بعد انقضاء عدتها بقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } [ البقرة : 234 ] . والإشارة فيها أن موت المسلم لم يكن فراقاً اختياريا للزوج فكانت عدة وفاته أطول ، وكذلك العبد الطالب ، وإن حال الموت بينه وبين مطلوبه من غير اختياره ، فالوفاء بحصول مطلوبه في ذمة كرمه محبوبه كما قال الله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } [ النساء : 100 ] ، ففي هذا التسلية قلوب المريدين ؛ لئلا يقطع طريق الطلب وساوس الشيطان وهواجس النفس بأن طلب الحق بأمر عظيم وشأن خطير ، وأنت ضعيف ، والعمر قصير ، فإن منادي الكرم من سرادقات الفضل ينادي " ألا من طلبني وجدني " ، فأين الطلاب في طلبي { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [ البقرة : 234 ] ، وانقضت عدة الطلب بمضي مدة العمر { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 234 ] ، يا أهل الإسلام { فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 234 ] ، في طلب المرام فإن الناقد بصير { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ البقرة : 234 ] ، فلا يضيع عمل عامل منكم بالنقير والقطمير ، { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 140 ] . ثم أخبر عن تعريض الخطبة قبل انقضاء العدة بقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [ البقرة : 235 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى من كمال رأفته ، وشمول عاطفته يظهر آثار فضله ، وكرمه في حق الخاطب والزوجة والمتوفي جميعاً ؛ ففي حق الخاطب أن رخص له في الخطبة بالتعريض ، وإن منعه بالتصريح ، كيلا يفوته نكاح مرغوبته بأن يسبقه فيه غيره ، وقال تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ } [ البقرة : 235 ] ، إلى قوله قولاً معروفاً ، وفي الزوجة بما أجاز للمعرض في خطبتها تسلية لقلبها بأنها تنكح بعد زوجها ، ويعوضها الله بدلاً خيراً من زوجها أو مثله ، وفي المتوفى برعاية حقه بعد وفاته ؛ لأن لا يصرخ أحد في خطبته زوجته ولا يغرم عقدة النكاح حتى يتم عدتها في حفظ وفاته ، وقال تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } [ البقرة : 235 ] ، ثم قال تعالى : { وَٱعْلَمُوۤاْ } [ البقرة : 235 ] ؛ أي : الرجال والنساء { أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ } [ البقرة : 235 ] ، بعلمه الأزلي { مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 235 ] ، ما قدر من السعادة والشقاوة والرزق والأمل والأجل والعمل وما دبر وما ركب وما عنى وما خلق ما دبر من التسويل ، والتعديل وحسن الاستعداد ، وفي أحسن تقويم ، وما ركب من الروح والقلب والسر والعقل والشهوة والهوى والغضب ، وما عنى من خواص مفردات العناصر ومركباتها ، وخاصية النباتية والأوصاف الحيوانية والبهيمية والسبعية والشيطانية والأخلاق الملكية والروحانية ، وما خلق لحظة فلحظة فيها من الدواعي والخواطر والخير والشر والحركة والسكون والأقوال والأفعال { فَٱحْذَرُوهُ } [ البقرة : 235 ] ، بمراقبة السرائر والضمائر في الباطن وبمحافظة ما أمركم به ، وما نهاكم عنه في الظاهر ، فاحذروا في البواطن بتزكية النفوس عن المذمومات من الأوصاف ، وبتجلية القلوب المحمودات من الأخلاق ، وتصفية الأرواح من قطع التعلق بالمكونات ، وبتعرض الأسرار لأنوار الجذبات ، وفي الظاهر بالاحتراز عن المخالفات ، والتزام المتابعة ، وإن زالت أقدامكم بزلة من الزلات ، وابتليتم من سبق الكتاب بآفة من الآفات ، فاعتصموا بحبل التوبة ، والاستغفار { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ البقرة : 235 ] ، ولولا حلمه لعجل بعقوبة الأسرار ، وما أمهل الأخيار في زلة من الزلات إلى أن يتداركها بالتوبة والاستغفار . ثم أخبر عن أحوال المطلقات ، وما لهن من المهور والمطلقات : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } [ البقرة : 236 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن مفارقة الأشكال من الأصدقاء والعيال لمصلحة دنيوية ؛ إذ لا جناح عليكم فيها فكيف يكون عليكم جناح بأن فارقتموهم لمصلحة دينية ؛ بل أنتم مأمورون بمفارقتهم لزيارة بيت الله ، فكيف لزيارة الله ، فإن الواجب في زيارة بيت الله مفارقة الأهل والأوطان ، وفي زيارة الله مفارقة الأرواح والأبدان " دع نفسك وتعال " ، { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } [ الأنعام : 91 ] وفي قوله : { وَمَتِّعُوهُنَّ } [ البقرة : 236 ] ، إشارة إلى أن من ترك من الطلاب وأهل الإرادة مالاً فليمتع به أقرباؤه حين فارقهم في الله سبحانه ليزيل عنهم بحلاوة المال مرارة الفراق ، فإن الفطام عن المال صفات الشديد ، وتنفيق المال عليهم بقدر قربهم في القرابة وبعدهم ؛ بل يقسم بينهم فرائض الله كالميراث ، فإنه قد مات عنهم بالحقيقة ، وإن هذا { مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] ، لأن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فالمحسن من لا يكون نظره إلى غير الله وفي قوله تعالى : { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] ، إشارة إلى أن الوصول إلى تقوى الله حق تقاته إنما هو بترك ما سوى الله والتجاوز عنه ، فإن المواصلة إلى الخالق على قدر المفارقة عن المخلوق والتقرب إلى الله تعالى بقدر التعبد عما سواه ، وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 237 ] ، هاهنا في الدنيا ، فإن حلول الجنة ودخولها هناك لا ينال إلا من فضله لقوله الذي أحلنا دار المقامة من فضله { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 237 ] ، في وجدان الفضل وفقدانه { بَصِيرٌ } [ البقرة : 237 ] . ثم أخبر عن وجدان الفضل وفقدانه بقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [ البقرة : 238 ] ، الآيتين والإشارة فيهما أن الله تعالى أشار في حفظ الصلاة بصورة المفاعلة التي بين الاثنين وقال : حافظوا على الصلاة يعني محافظة الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " ؛ فمعناه أني أحافظكم بقدر التوفيق والإجابة والقبول والإنابة عليها ، فحافظوا أنتم على الصلاة بالصدق والإخلاص والحضور والخشوع والمناجاة بالتذلل والانكسار والاستعانة والاستهداء والسكون والوقار والهيبة والتعظيم وحفظ القلوب بدوام المشهود ، فإنما هي الصلاة الوسطى ؛ لأن القلب هو الذي في وسط الإنسان ما هو واسطة ين الروح والجسد ، ولهذا سمي القلب فالإشارة في تخصيص المحافظة على الصلاة الوسطى هي القلب بدوام الشهود ، فإن البدن ساعة يحفظ أركان الصلاة وأبنيتها ، وساعة يخرج منها فلا سبيل إلى حفظ صورتها يبعث الدوام ولا إلى حفظ معانيها بوصف الحضور والشهود ، وإنما هو من شأن القلب لقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] ، فإنه من نعت أرباب القلوب أنهم في صلواتهم دائمون والإشارة إليهم في قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } [ البقرة : 238 ] ، رأي لعين الله فانتين أي : طالبين ومعنى الآية في التحقيق أن حافظوا على صورة الصلاة بشرائطها المأمور بها عموماً ، وحافظوا على معاني الصلاة وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة بعد الخروج خصوصاً { وَقُومُواْ للَّهِ } أي : اجعلوا القيام إلى الصلاة معراجاً في طلب الحق { قَٰنِتِينَ } طالبين من الله الوصول إليه لا تسألوا عنه غيره إذا قال : " ولعبدي ما سأل " .