Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 284-286)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن محاسبة ما يبدوا من الضمائر وما تخفي في السرائر ، بقوله تعالى : { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 284 ] ، الإشارة فيها : أن الله تعالى يطالب العباد باستدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة ؛ لئلا يغفلوا عن حفظ الحركات الظاهرة وضبط خطرات الباطن ، فبقوا في آفة ترك آداب العبودية فيهلكوا بسطوات قهر الإلوهية ، ففي بداية الآية نية العباد على مالكية وملكية في السماوات والأرض بقوله تعالى : { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 284 ] ، مُلكاً ومِلكاً ، ثم خصهم على رعاية آداب العبودية على بساط الملوك ، ووعدهم عليها وأوعدهم بقوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] . واعلم أن الإنسان مركب من عالم الأمر والخلق ، فله روح نوراني علوي من عالم الأمر وهو الملكوت الأعلى ، وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق ، ولكل واحد منها نزاع وشوق وحيل إلى عالمه ، فقصد الروح وميله راغبه ، وشوقه أبداً إلى عالمه ، وهو جوار رب العالمين وقربه ، وميل النفس وقصدها إلى عالمها ، وهي أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليزكي النفوس عن ظلمة أوصافها وسوء أخلاقها ، ويحليها بحلية أنوار الأرواح بإبداء أنوار أخلاق الروح عليها في تحليتها بها ، فهذا مقام الأولياء مع الله ، { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، وبعث الشياطين إلى أوليائه وهم أعداء الله ؛ ليخرج أرواحهم من النور الروحاني إلى الظلمات النفسانية ، في إخفاء أنوار خالقها في إبداء أخلاق النفس عليها ، استحق بها دركة أسفل السافلين وغاية البعد عن الحق ؛ فمعنى الآية في التحقيق : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] ، مودع من أنوار أخلاق الروحانية في الظاهر بأعمال الشريعة ، وفي الباطن بموافقات الطبيعة ، أو تخفوه بتصرفات الطبيعة في موافقات الشريعة ، ومخالفات الطريقة { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } [ البقرة : 284 ] ، بطهارة النفس بقبول أنوار الروح أخلاقه ، أو بتلوث الروح بقول ظلمات النفس وأخلاقها ، { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] ، فينور نفسه بأنوار الروح وروحه بأنوار الحق ، { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] ، فيعاقب نفسه بنار دركات السعير ونوره بنار فرقة العلي الكبير ، { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } [ البقرة : 284 ] ، من إظهار اللطف والقهر على تركيب عالمي الخلق والأمر { قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] . ثم أخبر عن كمال لطفه بالعباد لهم على السبيل الرشاد بقوله تعالى : { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [ البقرة : 285 ] ، والإشارة في الآيتين : أن الله تعالى إنما قال : { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [ البقرة : 285 ] ، وما قال آمن بالله ، وقال : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 285 ] ، أو أن يظهر الفرق بين الرسول والمؤمنين ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل المعراج كان يؤمن بالله ، { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] ؛ أي : بعد ما آمنوا بما أنزل قالوا : سمعنا وأطعنا ما أمرتنا ، وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أحوال إيمان المؤمنين في تلك الحالة ؛ لأن ما بدأ به من الكلام في ذلك المقام إن أكرم بالسلام ، ولهذا كان يقول : السلام قبل الكلام ، فلما سمع السلام عليك إيها النبي رحمة الله وبركاته ، فأجاب بقوله : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، ففي المرتبة الثانية لما أوحى إليه : { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [ البقرة : 285 ] ، فبدأ بذكر المؤمنين وعرض أحوالهم بالإيمان والسمع والطاعة ليت ، استحقاقهم السلام والرحمة فرحمهم الله عليهم ، وقال : وما يطلبون مني بجزاء الإيمان والسمع والطاعة حتى أجار بهم به قال النبي صلى الله عليه وسلم : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] ؛ يعني : ما يطلبون منك شيئاً دونك إلا مغفرتك ؛ لتسترهم عنهم بسريان صفة { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] ، ويكون مصيرهم ومرجعهم إليك لا إلى الدارين ؛ يعني : كما كان مصيري إليك يكون مصيرهم في متابعتي إليك ، فقال الله في جوابه { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ؛ يعني : ليس لهم استعداد منازل هذا المقام معك ، فكيف أكلفهم بشيء لا وسع لهم به ؟ فإنك في مقام معي لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فكيف بهم ؟ ألم تر أن جبريل عليه السلام حين أردت أن أترحم عليه ؛ ليوافي موافقتك وتبعية مرافقتك بساط قرب خطوة فقلت له : تقدم ، فقال : ونوة أنملة لاحترقت ، وإن الأنبياء والمرسلين اصطفيناهم على العالمين ، كل طائفة منهم واقفين إنما سبقتهم رحمتي ، ثمة كي لا تحرقهم سبحات وجهي ويمحقهم سطوات قهري ، فكيف أكلف في أسماء أمتك المذنبة المرحومة بهذا المصير وأنا بضعيف حالهم بصير ، ولكن الذي ملك هذا المقام حتى جاوزت الأنبياء والرسل الكرام ووطأت موطأ ما وطأ أحد قبلك ؛ إني خلقتك وخلقت الكون لمجيئك ؛ لولاك لما خلقت الكون وإنك مخصوص بهذا المقام المحمود ، وإن أمتك أكرم الأمم عليَّ لمحبتك ، وأحبهم إليَّ ولهم سبب شفاعتك اختصاص بكرامة محبتي إياهم في ظل متابعتك ، فقل لهم : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، فإن على قدره ما اكتسبت أمتك من أنوار متابعتك تستحق نيل محبتي ، فبقدر جريان عدم محبتي لهم يكون مصيرهم إلى حضرة جلاله . { لَهَا مَا كَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، من شواهد جمالنا ، وعلى قدر ما كسبت بالثواني في ظل متابعتك والتقصير في مشايعتك ، ونقض عهد مبايعتك تستحق المصير إلى السعير ، { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجواب فتارة أكسرته لذة هذا الخطاب وأخرى أخذته سطوات هذا العتاب ، قال : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ؛ يعني : لا تعاقب أمتي إن نسيت عهدك التي عاهدتم في الميثاق على أن يعبدوك ولا يعبدوا غيرك ، ويطلبوك ولا يطلبوا غيرك ، ويحبوك ولا يحبوا غيرك ، وأخطأت طريق طلبك وطلبوا غيرك ، وطريق محبتك فأحبوا غيرك ، ولكن ما أخطأت طريق عبوديتك فما عبدوا غيرك ولا أشركوا بعبادتك ، وأنت قلت : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] ، بأن تكلنا إلى أنفسنا قبضتي أسير النفس الأمارة بالسوء ، أو محبوسي الأشخاص من مقتدى الخواص ، فتعبد عجل الهوى والنار الشهوات ، كما عبد الذين من قبلنا ، { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، وبالصبر عن شهود جمالك وأرجاء أستار جلالك على أبواب وصالك ، { وَٱعْفُ عَنَّا } [ البقرة : 286 ] ، شواهد هويتك { وَٱغْفِرْ لَنَا } [ البقرة : 286 ] ، برفع البينونة من بيننا { وَٱرْحَمْنَآ } [ البقرة : 286 ] ، بجذبات { أَنتَ مَوْلَٰـنَا } [ البقرة : 286 ] ، بجذبات { فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] ، أخرجنا عنا إليك ، وأعنا في المصير إليك على قمع كفار الإثنينية ، التي تمنعنا من وحدتك بيني وبينك إني يزاحمني ، فارفع بجودك إني من البين .