Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 52-57)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومن نعمه الباطنة : ما ذكر في قوله تعالى : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } [ البقرة : 52 ] أي : من بعد عبادتكم العجل { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 52 ] ، والشكر على ثلاثة أوجه : شكر بالأقوال ، وشكر بالأعمال ، وشكر بالأحوال . فشكر الأقوال : أن يتحدث بالنعم مع نفسه إسراراً ومع غيره إظهاراً ومع ربه افتقاراً ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " التحدث بالنعم شكر " . وشكر الأعمال : أن يعرف نعمة الله تعالى في طاعته ولا يعصيه بها ، ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادر من المعاصي ؛ لقوله تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] . وشكر الأحوال : أن يتجلى المنعم بالصفة الشكورية على سر العبد ، فلا يرى إلا المنعم في النعمة والشكور في الشكر ، ويرى المنعم في النعمة من المنعم ، والشكر في الشكر والشكر من الشكور ، ويرى وجوده وشكر النعمتين من نعم المنعم ورؤية النعمة ، فتكون نعمة وجوده مرآة جمال المنعم ، ويكون شكره مرآة جمال الشكور ، ورؤية النعمة والمنعم نعمة أخرى إلى غير نهاية ، فيعلم ألا يقوم بأداء شكره ولا يشكره إلا الشكور { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ الشورى : 23 ] . ثم أخبر عن إيتاء الكتاب أنها نعمة أخرى في هذا الباب بقوله تعالى : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ البقرة : 53 ] ، والإشارة فيها أن الله تعالى آتى لموسى الكتاب وهي التوراة والفرقان وهو نور النبوة والحكمة يؤتيها الله تعالى أنبياءه مع الكتاب ، فيفرقون بها بين الحق والباطل للأمة ، ويبينون بها الكتاب ، ويعلمهم الحكمة لقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } [ الأنعام : 89 ] ، وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ البقرة : 151 ] ، قال صلى الله عليه وسلم : " أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " ، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا بنور الكتاب ونور حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن موعظته إلى التوبة الحقيقية ، وهي الرجوع إلى الله تعالى بقتل النفس الأمارة التي تعبد عجل الهوى ؛ كيلا يحتاجوا إلى قتل النفس في الصورة . فلما لم يهتدوا إلى هذه التوبة بالتعريض ، أمرهم بالتصريح بقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } [ البقرة : 54 ] ، والإشارة فيها أن لكل قوم عجلاً يعبدونه من دون الله ؛ قوم يعبدون عجل الدرهم والدينار قال صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة " ، وقوم يعبدون عجل الشهوات ، وقوم يعبدون عجل الجاه ، وعجل الهوى وهذه بغضها الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما عبد إله أبغض على الله من الهوى " . وقال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] ، فأرسل الله تعالى نبيه موسى قلب كل سعيد لقوله تعالى : { يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، ارجعوا إلى الله تعالى بالخروج عما سواه ، ولا يمكنكم إلا بقتل النفس { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، بقمع الهوى لأن الهوى هو حياة ، وبالهوى عبد ما عبد من دون الله على الحقيقة ، وبالهوى ادعى فرعون الربوبية ، وعبد بنو إسرائيل العجل ، وبالهوى أبى واستكبر إبليس ، وبه أكل آدم من الشجر ، وبه عبدت الكواكب والأصنام . وفيه معنى آخر : { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } ارجعوا إليه للاستنصار على قتل النفس بنهيها عن هواها ، فاقتلوا أنفسكم بنصر الله وعونه ، فإن قتل النفس في الظاهر تيسر للمؤمنين والكافرين ، وأما قتل النفس في الباطن وقهر ما قهر صعب لا يتيسر إلا خواص الحق بسيف الصدق ونصر الحق ، ولهذا جعل مرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء بقوله تعالى : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من غزو يقول : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وذلك لأن المجاهد إذا قتل سيف الكفار يستريح من النصب والتعب بمرة واحدة ، وإذا قتل بسيف الصدق في يوم ألف مرة تحيى نفسه على بصيرة أخرى وتزداد في مكرها وخداعها وحيلها ، فلا يستريح المجاهد طرفة من جهادها ، ولا يأمن مكرها . وبالحقيقة : النفس صورة مكر الحق { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] . { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] يعني : قتل النفس بسيف الصدق ألف مرة خير لكم ؛ لأن بكل قتلة رفعة درجة لكم عند بارئكم ، فأنتم تقربون إلى الله تعالى بقتل النفس وقمع الهوى وهو يتقرب إليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم ، كما قال تعالى : " من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً " ، وذلك قوله تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [ البقرة : 54 ] ، أخبر عن سوء أعمالهم بمقالهم في قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] ، الآيتين ، الإشارة فيهما أن مطالبة الرؤية جهرة هي تعرض مطالعة الذات المقدسة ، فتوجب سوء الأدب وترك الحرمة ، وذلك من أمارات البعد والشقاوة ، فمن سطوات العظمة والعزة أخذتهم الرجفة والصعقة إظهاراً للعدل ، ثم من سنة الكرم قاصد عليهم بحال النعم إسبالاً للستر على هيئات العبيد والخدم فقال : { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة : 55 ] ، { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] ، إظهاراً للفضل . ثم أخبر عن نتائج الكرم بأنواع النعم بقوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } [ البقرة : 57 ] ، والإشارة : لما ابتلاهم بألسنة العزة وأدبهم بسوط القوة ، أدركهم بالرحمة في وسطة الكربة ، فأكرمهم بالإنعام وظللهم بالغمام ومن عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى ، فما ازدادوا بشؤم الطبيعة ولؤم الوقيعة إلا في البلوى ، كما قيل : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 57 ] ، بأمر الشرع { وَمَا ظَلَمُونَا } [ البقرة : 57 ] ، إذ تصرفوا فيها بالطبع { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] ، بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى .