Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 75-81)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن اليأس من إيمانهم بغاية خذلانهم بقوله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [ البقرة : 75 ] ، إلى قوله تعالى : { وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ، والإشارة في تحقيق الآيات بمجرد سماع الكلام من الله تعالى وإن كان بلا واسطة لا يحصل الإيمان الحقيقي ، فإن الفريق الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ، ولو كان لهم من الإيمان الحقيقي حاصل ما حرفوا كلام الله وهم يعلمون العلم الحقيقي أنه حق ، وهذا يدل على أن علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع الله تعالى لا يفيد الإيمان الحقيقي إلا أن يزكيه الله تعالى بفضله ورحمته كما قال تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [ النور : 21 ] ، وإن الله تعالى كلم إبليس وخاطبه بقوله : { إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ، وما أفاده الإيمان الحقيقي إذا لم يكن مؤيداً من الله بفضله ورحمته قال في حقه : { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [ البقرة : 34 ] . { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } [ البقرة : 76 ] يعني : إذ لم يكن سماع الكلام يفيد الفريق منهم فكيف يفيد هؤلاء منا : { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 76 ] ، وهم من جهلهم وغفلتهم : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ، فيطلع رسوله على أسرارهم ، وهذا أحد معاني إعجاز القرآن ؛ يخبرهم عن مخفيات ضمائرهم ومجيبات سرائرهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ، من تصديق بلا تحقيق وهم من عمى بصائر قلوبهم لا يبصرون المعجزات ولا يؤمنون بها . ثم أخبر عن غاية جهلهم وخسة عقلهم بقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] ، الآيتين ، الإشارة فيهما : أن اليهود متفاوتون في مراتب كفرهم ، فقوم منهم أميون لا يعلمون الكتاب ما هو في الحقيقة إلا أماني أي : ما يتمنون من عند أنفسهم كما قال تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الدين بالتمني " فبعضهم أحسن درجة وأكثر جهلاً ، ركنوا إلى التقليد المحض ، ولا يمكنهم استيفاء شهوة ، بل اعترضوا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة ، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها دون معرفة معانيها وإدراك أسرارها وحقائقها ، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدعي الإسلام ، ومنهم : من أكثر شأنه ما يتمناه في نفسه ولا يساعده مكان إلا بظنون وتخمين ، ومنهم : من يعتمد على كتب الأوائل وأقاويلهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة ويكتبونه بأيديهم { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 79 ] ، من الحطام الدنيوية والوجاهة عند الناس { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ] ، من الكفر والإلحاد عن الحق والاعتقاد السوء ، وإغواء الخلق وإضلالهم ، كما قال تعالى : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } [ المائدة : 77 ] ، في هذه الآيات أيضاً إشارة إلى بعض المنتمين إلى هذه الطائفة من مدعي الإخلاص في الصحبة في طريق الحق ، فينضم إلى الأولياء وأرباب القلوب ظاهراً ، ثم يصدق له الإرادة ويميل إلى أهل الغفلة ، وله مع هذه الطريقة جانب ؛ كلما دعته هواتف الحظوظ يسارع إلى الإجابة طوعاً ، وإذا قادته دواعي الحق يتكلف كرهاً من الحالة ما لم يختص نيته ، وما أشد ندمه فيما أؤخر عن الله تعالى إن لم يصلح طويته حين اشترى بالحقوق الباقية الحظوظ الفانية . ثم أخبر عن وساوسهم الشيطانية وهواجسهم النفسانية بقوله : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } [ البقرة : 80 ] ، إلى قوله : { خَالِدُونَ } البقرة : 81 ] ، والإشارة فيها : أن بعض المغرورين بالعقل من ضلاَّل الفلاسفة وجهال الطبائعية وغيرهم نوط غفلتهم وغلبات مغاليط ظنونهم ، قد ظنوا أن قبائح أعمالهم وفضائح أفعالهم وأقوالهم لا تؤثر في صفاء أرواحهم ، وتغيير أحوالهم ، فإذا فارقت الأرواح إلى حضائر القدس ، ولا يصحبها شيء من نتائج الأعمال . { إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، وذلك من فطام الأرواح عن ألبان التمتعات الحيوانية ، وهذا ظن فاسد وكفر صريح من وسواس الشيطان وهواجس النفوس وليس بمعقول ؛ لأن العاقل يشاهد حساً وعقلاً أن تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية تورث الأخلاق الذميمة من الحرص والأمل والحسد والبغض والغضب والبخل والكبر والكذب وغير ذلك ؛ إن هذه وإن كانت من صفات النفس الأمارة بالسوء ؛ فتصير بالمجاورة والشعور بأخلاق الروح ويتدنس بها ، ويتكدر صفاؤه ، ويتبدل أخلاقه الروحانية الملكية من الحلم والكرم والمروة والصدق والحياء والعفة والصبر والشكر وغير ذلك بالأخلاق الحيوانية السبعية الشيطانية ، وإن الذي يرتاض نفسه بالمجاهدات وترك الشهوات وينهاها عن المألوفات والمستلذات ، ويمنعها عن الأخلاق المذمومات تورث هذه المعاملات مكارم الأخلاق وصفاء القلب ورقة النظر وصدق الفراسة وإصابة الرأي ونور العقل وعلو الهمة وغلو السر وشوق الروح وتحننه إلى وطنه الأصلي ، وغير ذلك من المقامات العلية والأحوال السنية ، فلا يشك العاقل في أن الروح المتبع للنفس الأمارة ، كما يكون للعوام ، لا يكون مساوياً بعد المفارقة مع الروح المتبع لإلهامات الحق كما يكون للخواص ؛ لقوله تعالى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وبعضهم قالوا : وإن تكدرت الأرواح بقبائح أفعال الأشباح فدنست بقدر تعلقاتها بمحبوبات طباعهم فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياماً معدودة على قدر انقطاع التعلقات عند وزر الكدورات ، ثم يتخلص من العذاب ويرجع إلى حسن المآب ، وهذا خيال فاسد ، وكذبهم الله تعالى بقوله : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } [ البقرة : 81 ] ، تظهر على مرآة قلبه بقدرها ديناً ، فإن تاب محي عنه ، وإن لم يتب ويصر على السيئات حتى إذا أحاطت بمرآة قلبه زين السيئات بحيث لا يبقى فيه الصفاء الفطري ، وخرج منه نور الإيمان وضوء الطاعات فأحبط أعماله الصالحات وأحاط به الخطيئات { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 81 ] ، والذي يدل على هذا قوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] ، ومن كان في قلبه ذرة من الإيمان فلم يحط به خطيئته ، وإن كان من أهل الكبائر يخرج من النار ، ولا يخلد فيها بالشفاعة الشافعين ، وجاء في الحديث الصحيح : " يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، فيكون مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات " . وفيه أيضاً إشارة إلى بعض أرباب الطلب فمن يركن بنفسه في أثناء الطلب إلى شيء من الزخارف الدنيا ويميل إلى شيء من شهواتها ، فيظهر عليه الشيطان بذلك فيوسوس له ؛ ليقطع عليه الطلب ويغره بمعاملاته وزهده وعزلته فيوقعه في ورطة العجب فينظر إلى نفسه بنظر التعظيم وإلى الخلق بنظر التحقير فيهلك المغرور ، أو يغتر ببعض الأحوال التي تظهر على أهل الطلب في أثناء السلوك من الوقائع الصادقة والروايات الصالحات ، وشيء من المشاهدات الروحانية الرحمانية ، فيظن المغرور الممكور أن ليس وراء عيان هذه المقامات قرية ، وأنه بلغ مبلغ الرجال البالغين ووصل إلى مقام الواصلين ، فيسكن عن الطلب وتعتريه الآفات حتى أحاطت به خطيئته فيبقى بهذه الواقعة في نار الطبيعة ويرجع قهقرى إلى أسفل الطبيعة نعوذ بالله من الحور بعد الكور .